30 مارس 2023

مقدمة الملف: مَن يَحكُم الضفّة؟

مقدمة الملف: مَن يَحكُم الضفّة؟

حَمَلَ مشروع التحوّل من منظمة تحريرٍ إلى سلطةٍ حكم ذاتيّ هدفاً واحداً لا غير؛ إقامة دولةٍ مستقلة على حدود عام 1967، ولصياغة هذا الهدف "الواقعيّ" جرت التضحية باللاجئين والفلسطينيين من الأراضي المحتلة عام 1948. 

لاحقاً، جرى التخلص من غزّة كذلك، فحُوصِرت حتى تَضَعَ سلاحَ المقاومة وتعود إلى بيت الطاعة. وبالتالي لم يبقَ غير الضفّة الغربيّةً مكاناً لتحقيق "حلمهم الواقعيّ". في هذا السياق، حاول حرّاسُ ما تبقّى من مشروع السلطة خلق فارقٍ في المعيشة بين الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة، من خلال سياسات الإغراق بالقروض وتوسّل المعونات والتسهيلات، لكي تكون هناك فجوةُ رفاهٍ بين النموذجين، فيدفعوا الناس إلى تفضيلِ نموذجِ الضفّة على غزّة. 

هذا من جهةٍ، ومن جهةٍ أُخرى فقد قمعوا أي ملمحٍ من ملامح الوجود لفصائل المقاومة، ولاحقوا الأموال والمؤسسات والجمعيات والجوامع، حتى يجففوا بشكلٍ كليّ كلَّ إمكانيةٍ لاستنهاض المجتمع، وظنّوا أنَّ الأمرَ قد انتهى، وإذ به يبدأ من جديد.

وصلنا اليوم إلى نقطةٍ استقرّت فيها ثلاثُ حقائق أساسية، علينا أن نضعها نصبَ أعيننا ونحن نترقّب ولادةَ الجديد الذي لم تُسمِّه الأقدار بعد. هذه الحقائق هي: قيام دولة المستوطنين في الضفّة، وانتهاءُ دور السلطة الفلسطينيّة السياسيّ واستحالته لشقٍ أمنيّ فقط، والحقيقة الأخيرة والباقية أنّ الناس ما زالت تقاوم.

‏1. دولة المستوطنين 

‏قامت دولةٌ في الضفّة الغربيّة، لكنها ليست للفلسطينيين، إنّما للمستوطنين. إذ تُسيطر المستوطناتُ على المساحة العظمى من الضفّة؛ 60% منها تُسمّى منطقة "ج". فيما تُشكِّل المنطقتان "أ" و"ب" نحو 40% من مساحة الضفّة، ويُفترض رسميّاً أنّها تحت حكم السّلطة الفلسطينيّة بشكلٍ جزئيّ ومتفاوت. 

تحكم السلطة في مناطق سيطرتها الشكليّة جُزراً منفصلة؛ 165 جزيرة جغرافيّة مكتظّة ومخنوقة وممنوعة من التوسّع. إضافةً إلى أنّها غير قادرة -ولا حتّى معنية- بحماية السكان فيها من اعتداءات الجيش والمستوطنين، ولم تعد كذلك قادرةً على توفير شكلٍ وهميٍّ من الرفاه الذي عوّلت عليه سابقاً في إسكات الناس، فهي على شفا الإفلاس، نتيجةً لقائمة أسبابٍ تطول من الفساد إلى كورونا.

 في المقابل، فإنّ دولةَ المستوطنين آخذةٌ بالتوسع بشكلٍ جنونيٍّ وغير مسبوق، فحسب تقرير هئية مقاومة الجدار والاستيطان، فقد تجاوز عدد المستوطنين في الضفّة الغربيّة الـ 720 ألفاً (بما يشمل شرق القدس)، موزّعين على أكثر من 170 مستوطنةً وأكثر من 180 بؤرةً استيطانيّة، هذا عدا عن آلاف الوحدات الاستيطانيّة التي تُصادِقُ عليها حكومة الاحتلال باستمرار، وفضلاً عن عمليات المصادرة الكبيرة والمستمرة للأراضي بحجج ٍمختلفة، مثل أنّها محميّات طبيعيّة وآثار. 

5 نيسان 2015، الضفة الغربيّة، مستوطنون يلهون أمام عين ماء طبيعية بالقرب من مستوطنة جفعات زئيف، شمال القدس، وذلك بالتزامن مع احتفالهم بعيد الفصح اليهودي. (وكالة الصحافة الفرنسية).

إنّ دولة المستوطنين في مراحلها الأخيرة لتحقيق وعدها في السيطرة الكلية على أراضي "يهودا والسامرة" كما يسمّونها، وهي ليست تجمّعات بدائية، بل هي مستوطنات مجهّزة بالجامعات والمصانع والطرق والبنى التحتية. 

لقد قامت دولة المستوطنين في الضفّة بتنظيمٍ عالٍ لا يمكن تفكيكه بالإدانات والاتفاقات، ومن المُضلّل أن نرسمَ صورةً للمستوطنين على أنّهم مجرّد "قطعان" من الهمج الذين يحرقون المزارع والمركبات بشكلٍ غير عقلانيّ. هذا شكلٌ واحدٌ أخذه المستوطنون (مع ما تحمله هذه الأشكال من تنظيمٍ في داخلها). 

وعلينا أيضاً أن ننتبهَ إلى المستوطن الذي يرتدي بدلةً ويتوجّه للعمل في شركات تل ابيب، ثمّ يعود ليلاً لينام في مستوطنات الضفّة، إنّه هو الآخر يشكّل جزءاً أساسيّاً في فهم دولة المستوطنين؛ تلك الدولة التي تصاعد عدد ساكنيها طلباً للرفاه والحياة التي تصحبها الامتيازات بعيداً عن الغلاء الفاحش في تل أبيب، إذ تشير الإحصاءات إلى أنَّ 70٪ من سكان المستوطنات يختارونها لهذه الأغراض.

الضفة الغربية، 2014، أحزمة الفقر كعمالة رخيصة لدى الاحتلال. عمّال فلسطينيون يعملون في مصنع "سودا ستريم" الإسرائيلي، في المنطقة الصناعية الاستيطانية ميشور أدوميم، شرق القدس، بالقرب من مستوطنة معاليه أدوميم، (وكالة الصحافة الفرنسية).
 الضفة الغربية، 2014، أحزمة الفقر كعمالة رخيصة لدى الاحتلال. عمّال فلسطينيون يعملون في مصنع "سودا ستريم" الإسرائيلي، في المنطقة الصناعية الاستيطانية ميشور أدوميم، شرق القدس، بالقرب من مستوطنة معاليه أدوميم، (وكالة الصحافة الفرنسية).

وبينما قامت دولةُ المستوطنين في الضفّة، بقي الفلسطينيون على هامشها في أحزمةِ فقرٍ مكتظّة، يجري تفريغها من مقومات صمودها وسحب قوّتها منها، لتستحيل بمجموعها إلى أيدي عاملة رخيصة عند دولة المستوطنين. وقد شهدت السنوات الخمس الأخيرة الارتفاع الأكبر والأسرع في أعداد العمّال الذين يعملون لدى الاحتلال الإسرائيلي؛ كان في الربع الأول من العام 2022 أكثر من 173 ألف عامل يعملون في أراضي الـ48، إضافةً إلى 31 ألفاً يعملون في مستوطنات الضفّة، وهم يُشكّلون أكثر من 18% من إجمالي العمالة الفلسطينيّة في الضفّة وغزّة (إذا ما أخذنا أرقام الضفّة وحدها فإنّ نسبتهم من مجمل العمالة حوالي 25%). 

2. مآلات السلطة الفلسطينيّة وواقع الشركة

إنّ مشروعَ السلطةِ الفلسطينيّة اليوم هو ضبطُ أحزمة الفقر من أن تُعَكِر صفو دولة المستوطنين، وهي لا تضمن بالمقابل أمن هذه الأحزمة المُفقرة إذا ما تعرّضت لهجوم مستوطنين، ففي أحسن الأحوال توفّر لهم شبابيك حماية وفنادق للنوم، أو تُصدر لهم البيانات لتُذكّرهم بالعودة إلى بيوتهم باكراً قبل موعد مظاهرات واعتداءات المستوطنين. 

بل مؤخراً، تراجعت السلطة عن مساعيها للتصويت في مجلس الأمن الدوليّ على مشروع قرارٍ لإدانة الاستيطان ووقف الإجراءات الإسرائيليّة أحادية الجانب. وهو أمرٌ ليس بالجديد، بل سبقته الكثيرُ من التراجعات في المسار الدبلوماسيّ؛ المسار الوحيد الذي تروّج السلطة أنّها تريدُ اتّباعه في تحصيل الحقوق. وهذا لا ينفك يوضّح أنَ مشكلة السلطة ليست مع المقاومة المُسلّحة فقط، بل مع أي مقاومة كانت بما فيها الدبلوماسية.  

كانت السلطة تحمل شقّين في تكوينها: الأولُ سياسيٌّ؛ يزعم العمل لإقامةِ دولةٍ للفلسطينيين، والثاني أمنيّ؛ يحرس أمن "إسرائيل" ويُثبِّتُ لواء الدولة الناشئة، ويُطمئن كلَّ مخاوف الاحتلال منها، وهذا هو جوهرُ تعريف الأجهزة الأمنيّة منذ أوسلو. 

لكن هذا المشروع أخذ يتفكّك قبل أن ينضج، فتُخلّي عن شقِّ السلطة السياسيّ بعد أن أثبتت الوقائعُ استحالتَه، وانخرطت نخبتُها في شبكةٍ واسعةٍ من الفساد والمصالح والعلاقات الشخصيّة مع الضباط، وبرز ضابطُ الجيش المسمّى "المنسق" كحاكمٍ فعليّ لشؤون الضفّة، فلم يتبق من السلطةِ إلا شقّها الأمنيّ فعليّاً. والشأن المدنيّ أيضاً مندرجٌ تحت مهام ضابطٍ في جيش الاحتلال، ويُفهم بوصفِهِ أداةً أمنيّةً لإدارةِ السكان، وتندرج تحته كلُّ مسائلِ العلاج والتراخيص والتصاريح والإعفاءات وأذونات السفر وخلافه.

هذا ما يفسّرُ أنَّ الشخصين اللذين يتهيأن لوراثة أبو مازن يُعبّران تماماً عن تلك المكوّنات: حسين الشيخ؛ منسِّق الإدارة المدنيّة والمُنَفِّذ لخُطَط المنسق، وماجد فرج؛ منسِّق الإدارة الأمنيّة. وقد طار الشيخ وفرج إلى قمّة العقبة الاخيرة للبرهنة على أنَّ السلطة ما زالت قادرةً على القيام بوظائفها الأمنيّة، ولذلك كانت القمّة أمنيّةً بامتياز، فلم يُنطق فيها بحرف سياسةٍ واحد! 

ويبدو أنّ المرحلة القادمة هي فرصة الرجلين لِيُـثتبِـتـا صلاحيةَ السلطة على الاستمرار، وهو برهان لا يمكن تقديمُه  إلا على حساب دمائنا وأرواحنا.

26 كانون الثاني 2023، جنين، آلاف الفلسطينيين يُشيعون جثامين 8 شهداء فلسطينيين من بين عشرة شهداء قُتِلوا برصاص جيش الاحتلال بعد اقتحامها مدينة جنين، شمال الضفة الغربيّة. (ناصر اشتية/ وكالة الصحافة الفرنسية).
26 كانون الثاني 2023، جنين، آلاف الفلسطينيين يُشيعون جثامين 8 شهداء فلسطينيين من بين عشرة شهداء قُتِلوا برصاص جيش الاحتلال بعد اقتحامها مدينة جنين، شمال الضفة الغربيّة. (ناصر اشتية/ وكالة الصحافة الفرنسية).

3. الخيار الأول… الخيار الأخير  

لم يحتفِ الناس بنموذج دولة الضفّة الوهميّ ولم يقنعوا به، فمنذ هبّة القدس (أو ما يُعرف أحياناً بهبّة السكاكين) عام 2015 وصولاً إلى عام 2022 والمقاومة تستغلُ كلّ شقٍّ مُتاح لها لِـتنـفَذ منه، وتُحدِثَ شرخاً في جدارٍ يُحاول خنقها؛ وصلت العمليات في العام الماضي إلى حوالي 1933 عملية (حسب توثيق الاحتلال)، ومنذ بداية العام بلغت أكثر من 500 عملية.1يصل تعداد العمليات أكثر من ذلك في حال تم احتساب كل حالات رمي الحجارة وصد اعتداءات المستوطنين وما إلى ذلك.

تقاوم الضفّة ليس لأنّ هناك مشروعاً سياسيّاً يلوح في الأفق، بل تقاتل دفاعاً عن وجودها الأخير، وإقلاقاً للاستقرار الذي يستثمر في حالات الهدوء، وضدّ الاعتمادات والامتيازات التي يحصلها ضباط الأجهزة الأمنية نتيجة فرض هذا الهدوء. وكذلك، لرفض الحقائق التي يحاولون جعلها طبيعيّة؛ حقيقةَ أنّنا هامش على هذا الكيان الطارئ.



7 نوفمبر 2022
يامن فرج.. "ما بتصاوب، بستشهد!"

في خضم الانتفاضة الثانية، وتحديداً في حزيران/ يونيو 2004، في حفل تأبين الشهيد نايف أبو شرخ، القائد البارز في كتائب…