17 أكتوبر 2023

الاجتياح البريّ للقطاع: كيف؟ ولماذا؟ وهل؟

الاجتياح البريّ للقطاع: كيف؟ ولماذا؟ وهل؟

من المتوقع أن يبدأ في أي لحظة العدوان البريّ الإسرائيليّ على قطاع غزة، تنفيذاً لتهديدات المستويين السياسي والعسكري، على اعتبار أنها المرحلة التالية بعد القصف الجوي العنيف الذي دكّ القطاع لمدة عشرة أيام متواصلة، وسط مزاعم إسرائيلية مفادها أن الاجتياح البريّ هي الكفيلة بتحقيق أهداف هذا العدوان.

يستعرض المقال احتماليّة الاجتياح البرّي: ما هي أهداف الاحتلال منه؟ وما هي الكوابح التي قد تعيقه من تحقيقها موضوعياً وذاتياً؟ وما هي النتائج التي قد يرجوها من هذا الاجتياح الذي، على كل الأحوال، لن يكون بالنسبة له نزهةَ نهاية الأسبوع؟

لماذا قد يلجأ الاحتلال للعملية البرية؟

دأب الساسة والجنرالات والخبراء الإسرائيليون منذ بدء العدوان على قطاع غزّة، على سرد سلّة من الأهداف السياسية والعسكرية والأمنية، الآنية والبعيدة المدى، الخاصّة بالاجتياح البريّ، وذلك على النحو التالي:

- ضرب قدرات "حماس" العسكرية على نحوٍ لا يجعلها قادرةً على تهديد الاحتلال، ويشمل ذلك شبكات الأنفاق بشقيها: الهجومية؛ المنتشرة على حدود غزّة الشرقية والشمالية، والدفاعية؛ المنتشرة في أنحاء قطاع غزة، بهدف صدّ أي عدوان بريّ محتمل في قلب القطاع.

- اغتيال القيادة السياسيّة والعسكريّة لـ"حماس" دون تفرقة، مع التركيز على قيادة الجناح العسكري باعتبارهم العصبة القيادية الأقوى للحركة، فضلاً عن اغتيال نخبة من القيادة الشعبيّة الدعوية العُلمائية.

- استهداف البنية التحتية المدنية وبالتالي إفقاد القطاع القدرةَ على البقاء الحياتي، من حيث شبكات المياه والكهرباء والصرف الصحي والانترنت، مما يعزل الفلسطينيين عن العالم الخارجي، ويجعلهم غير قادرين على التواصل فيما بينهم، حتّى داخل المخيم الواحد.

- إحداث دمار وتخريب هائلين في القطاع، كفيل بإعادته سنوات طويلة إلى الوراء، كي يخرج قادة المقاومة بعد العدوان ويروه بأنفسهم، دون إعادة إعمار لهذا الدمار تحقيقاً لنظرية "دعوا الجراح تتعفّن".

- هدف جديد للعملية البرية أعلنه الاحتلال لم يكن مدرجاً في عدوانات سابقة، يتمثل بإسقاط "حماس" وسلطتها في غزّة. وقد ظهر إجماع إسرائيلي عزّ نظيره على هذا الهدف، بل إنه تعزّز بتأييد أميركي وغربي علنيّين، انطلاقاً من وجود رواية متوافق عليها بأن "حماس" تساوي "داعش"، وما حصل مع الأخيرة في الموصل والرقّة يجب أن يتكرر مع الحركة في غزّة.

جيش الاحتلال يستمر في نقل المزيد من جنوده وآلياته العسكرية بالقرب من الحدود مع غزة، 16 تشرين الأول 2023. (وكالة الصحافة الفرنسية).
جيش الاحتلال يستمر في نقل المزيد من جنوده وآلياته العسكرية بالقرب من الحدود مع غزة، 16 تشرين الأول 2023. (وكالة الصحافة الفرنسية).

سيناريو تعطيل حكم "حماس" 

الحقيقة أن هذا الهدف تُحيط به كثير من الدلالات الجديدة، أبرزها تقدير إسرائيلي مجمع عليه بأن وجود سلطة وحكومة تدعم المقاومة، هو الذي أوصل "حماس" عسكرياً لهذا المستوى، ولذا على الأمور أن تعود لما كانت عليه قبل أحداث حزيران/ يونيو 2007.

لا يبدو أن هذا الهدف مُمكن للاحتلال، إلا أنّ التوافق عليه واقع من جهتين: من داخل المؤسستين العسكرية والسياسية في "إسرائيل"، ومن العواصم الغربية والأميركية، فضلاً عن الرغبة الضمنية بذلك لدى عدد من عواصم الإقليم المحيطة بفلسطين، التي لا يرضيها أن تبقى غزّةُ شوكةً في خاصرة الاحتلال، وصداعاً مزمناً لها بين حينٍ وآخر، الأمر الذي من شأنه إعاقة مشاريعها التطبيعية في المنطقة.

عديدة هي المشاهد المتوقعة للطريقة التي ستعمل فيها "إسرائيل" على إزالة أو تعطيل حكم "حماس"، لكن أهمها إشعار سكّان القطاع بأن المنظومة الإداريّة والسلطويّة فيه قد سقطت، خاصّةً على صعيد انقطاع الخدمات اليوميّة، وهو ما بدأ منذ اليوم الأول للعدوان. إلا أنّ الجديد يكمن في إمكانية توفيرها لجسم بديل عن هيئة العمل الحكومي التي تديرها "حماس"، سواء بتوفيرها منظمات أهلية أو مؤسسات دولية تابعة للأمم المتحدة، أو ربما أجسام حكومية موفدة من سلطة رام الله.

من المهم الإشارة إلى أن كل هذه المعطيات قد تكون مدرجة لدى الاحتلال والإدارة الأميركية وبعض دول الإقليم، لكن لا تعني بالضرورة أنها ستجد طريقها للتنفيذ بأريحية، إلا إذا تمكنت الآلة العسكرية الإسرائيلية من توجيه ضربة لا تُحتمل لـ "حماس" التي توفر الغطاء الميداني للأجسام الحكومية القائمة في القطاع.

كوابح الاجتياح البري

يصعب التسليم بفرضية أن هجوم "طوفان الأقصى"، قد دفع بالاحتلال للتفكير بخطّةٍ عسكريّة بريّة واسعة النطاق لاجتثاث المقاومة في غزة، أو جعل الولايات المتحدة ممثلةً برئيسها وأقطاب إدارته يجمعون فجأةً على تبنّي الموقف الإسرائيلي، والكل يعلم ما بينهم من توترٍ وشبه قطيعة سياسية منذ تسعة أشهر.

فيما التقدير الذي يقترب من الحقيقة، أنّ الاجتياح البريّ المزمع تنفيذه في أي لحظة، وفي معظم مستوياته العملياتية، وعمقه الجغرافيّ، ومداه الزمنيّ، وسقفه السياسيّ، كان من بين خططٍ أخرى حبيسة أدراج المؤسسة العسكرية الإسرائيلية منذ سنوات طويلة، وقد شكّلت العدوانات الأخيرة، لاسيّما عام 2014، نموذجاً مُصغراً على حجم مثل هذا الاجتياح المزمع، رغم أنها أتت في حينه في سياقات مختلفة زماناً ومكاناً وأسباباً.

اليوم، لم يعد سرّاً أن الاحتلال الذي أعلن عن تجنيد قرابة 350 ألف جندي احتياط، يستعد لتنفيذ عملية برية واسعة لتحقيق الأهداف الواردة أعلاه، دون أن يغفل أن هناك كوابح وعوائق قد تعترضه: ذاتياً وموضوعياً، على النحو التالي:

- ضراوة المقاومة التي تتحضر لجنود الاحتلال إذا ما اقتحموا القطاع، فقد دأبت على توعّدهم بتحضير سلسلة مفاجآت لهم من شبكة الأنفاق والعمليات الهجومية والإنزال خلف الخطوط والكمائن المفاجئة؛ الأمر الذي سيوقع خسائر بشرية باهظة في الجانبين، على اعتبار أنّ الجيش سوف يستبق ويصاحب عمليته البرية باتباع سياسة "الأرض المحروقة"، لتطهير الشوارع والطرقات التي يتوقع أن يكون "القسام" قد ملأها بالألغام والمتفجرات.

فلسطينيون يرفعون شارات النصر أمام دبابة إسرائيلية بمحاذاة السياج الحدودي مع غزة، وذلك بعد الاختراقات التي أحدثتها المقاومة في ذلك السياج، في اليوم الأول لمعركة طوفان الأقصى.
فلسطينيون يرفعون شارات النصر أمام دبابة إسرائيلية بمحاذاة السياج الحدودي مع غزة، وذلك بعد الاختراقات التي أحدثتها المقاومة في ذلك السياج، في اليوم الأول لمعركة طوفان الأقصى.

- هناك استدراك يبدو مهمّاً يختلف عن عمليات بريّة سابقة جرى الحديث عنها إسرائيلياً، وهو أنّ المحظور الأساسي لديهم دائماً كان التخوّف من وقوع مئات الجنود بين قتيل وجريح وأسير، مما يشكّل كابحاً حقيقياً أمام أي رئيس حكومة أو وزير حرب للذهاب نحوها. لكن اليوم نحن أمام دولة فقدت على الأقل ما يزيد عن 1300 من جنودها ومستوطنيها، الأمر الذي قد يجعلها "تستوعب" أثماناً قادمة شبيهة بهذا الرقم، تحديداً إذا ما كان هدفها التخلّص من التهديد "الوجودي" عليها، والذي باتت تُشكّله غزّة. ولذلك أكدت بيانات ومواقف وتصريحات المستويات السياسية والعسكرية الإسرائيليّة في الأيام الأخيرة، على ضرورة تحلّي المجتمع الإسرائيلي بالصبر والتحمّل أمام أي خسائر قد تقع في صفوف الجيش.    

- تعني حالة الإجماع الإسرائيلي غير المسبوقة على خوض حربٍ وجوديّة تعتبر استكمالاً لحرب 1948، منح الاجتياح البريّ سقفاً زمنياً بلا حدود. لكن تحذير نتنياهو من على منصة "الكنيست" الإسرائيلي في اليوم العاشر للحرب، أن أمامنا تضحيات كبيرة تستدعي الصبر والتحمّل، يحمل ضمنياً تخوفاً من عدم توفر حالة من الحصانة والمناعة القومية لدى الإسرائيليين بتحمّل أعداد كبيرة من القتلى والجرحى والأسرى، رغم أنهم امتصّوا في البداية صدمة مقتل 1300 جندي ومستوطن في مستوطنات "غلاف غزة"، مما قد يجعلهم أقلّ توتراً في حال وقع عدد مشابه من الجنود في قلب غزّة، لكنهم هذه المرة مهاجِمين، وليسوا مهاجَمين.

- رغم تشكيل نتنياهو لحكومة الطوارئ، ثم مجلس الحرب، وقدرته على تجميع مختلف أطياف الحلبة الحزبية والسياسية في "كابينت" عسكري واحد، إلا أنّ ذلك لا يمنع من أن تبدأ الخلافات بالظهور تباعاً في حال صدرت تباينات جديدة بين أعضائه، لاسيّما والحديث يدور بين فرقاء من مختلف أحزاب الائتلاف والمعارضة.

- صحيحٌ أنَّ الاحتلال يعتبرها "حرب الأمّة"، لكن ذلك لا يعني اختفاء التطلعات الحزبية والشخصية للقيادات، وبالتالي سيكون كل واحد من أعضاء حكومة الطوارئ ومجلس الحرب: نتنياهو وغالانت وغانتس وآيزنكوت، معنيّاً بأن يترجم ما يعتبرها "إنجازاته" العسكرية في غزة إلى زيادة شعبيته في الرأي العام الإسرائيلي. وليس أدلّ على ذلك مما حققه حزب "المعسكر الوطني" برئاسة غانتس من قفزة في تأييد الإسرائيليين بحصوله على 41 مقعداً في "الكنيست" إذا ما حصلت انتخابات اليوم. أما الليكود برئاسة نتنياهو، فقد تهاوى إلى 19 مقعداً بسبب تحميل الإسرائيليين له مسئولية الإخفاق العسكري. فيما حزب "يوجد مستقبل" برئاسة زعيم المعارضة لابيد، فقد تدهور إلى 15 مقعداً، لأنه رفض الانضمام لحكومة الطوارئ، مما جعل الإسرائيليين يعتبرونه فضّل مصالحه الشخصية والحزبية على مصلحة الدولة.

- لعلها من المرّات القليلة التي يحظى بها الاحتلال بهذا الدعم الدولي غير المسبوق، بعد أن وُجِّهت آلته الدعائية على محاكاة ما حصل له من انتكاسة أمنية واستخبارية بأحداث 11 سبتمبر في الولايات المتحدة، والهجوم على ميناء بيرل هاربر في الحرب العالمية الثانية، فضلاً عن التشبيه المتواصل لـ"حماس" بـ"داعش"، وهي دعاية سعت لاستشراف نهاية الحرب البريّة في غزة، كما انتهت نظيرتها مع "تنظيم الدولة" في الموصل، ومع "القاعدة" في كابول.

هذا الدعم والإسناد الدوليين، وعلى كل المستويات: السياسية والدعائية والعسكرية والأمنية، لا يُتوقع له أن يبقى حتى إشعارٍ آخر، لاسيّما مع تصاعد أعداد الضحايا الفلسطينيين، وظهور المزيد من المشاهد الدامية من قطاع غزة؛ الأمر الذي من شأنه إفساح المجال أمام تصاعد المواقف الدولية الرافضة لهذا العدوان. وقد بدأت منذ الأيام الأولى تصدر مواقف لعدد من الدول، مثل: كولومبيا وفنزويلا وجنوب أفريقيا والصين وروسيا، وبعض الأصوات البرلمانية الأوروبية، فضلاً عن المواقف العربية عموماً التي اكتفت بالإدانة والدعوة لوقف "العنف"، ومطالبة الاحتلال بالسماح بإدخال المساعدات الإنسانية والطبية إلى القطاع.

البحث عن "صورة نصر"

يسعى الاحتلال لتحقيق أهدافٍ متعددة من العدوان البريّ الذي يلوّح به على غزّة: عسكرية وسياسية وأمنية. لكنه لا يضمن تحقيقها أمام العوائق التي قد تعترضه كما أوضحت السطور السابقة، ما قد يجعله يطيل أمد هذه العدوان وجغرافيته، طالما أنّه يحظى بإسناد أميركي، وليس فقط لانتزاع "صورة نصر" كما جرت العادة، لأننا اليوم أمام عدوان مختلف عن سابقه، وهو يزعم أن مشاهد الدمار الحالية تمنحه ما يكفي من الصور. فيما تبقى شراسة المقاومة، ودخول جبهات أخرى على خط المواجهة، هي الكفيل بكبح جماح هذه الاجتياح.