فوق أنقاض منزله في حي الشجاعية، بنى أحد أقاربي، بجهده الفردي، غرفةً صغيرة محاولاً أن يرمّم حياته التي مزّقتها الحرب، متحدياً ركام الدمار وثقل الفقد، وليبدأ وزوجته حياتهما سوياً في آذار/ مارس 2025، بعد تأجيل زواجهما مرات ومرات بانتظار انتهاء الحرب. وهكذا، جمع الحجارة المتناثرة من بيته المدمر، واستصلح ما يمكن استصلاحه ليقيم به غرفة بسقف وجدران، وسط عالم من الدمار.
لم يمض شهر واحد، حتى اقتحم جيش الاحتلال الحي مجدداً وأجبر أهله على النزوح، ودمر ما تبقى من حي الشجاعية، والغرفة التي لتوها بُنيت. فمنذ بدء الحرب في تشرين الأول/ أكتوبر 2023، عزمت "إسرائيل" على مسح قطاع غزة بأكلمه، وتحويله إلى صحراء قاحلة، لا يوجد فيها أي معلم للحياة.
تلال من الركام
حوّل جيش الاحتلال قطاع غزة إلى تلال كبيرة من الركام يُقدر وزنها، حسب تقرير البنك الدولي لعام 2025، بنحو 41-47 مليون طن تتكدس في جغرافية صغيرة ومحاصرة، وهو أضعاف مجموع ما خلفته حرب الموصل بالعراق بين عامي 2016–2017 والتي بلغت نحو 11 مليون طن، وما خلفه زلزال هايتي من ركام عام 2010 والذي بلغ نحو 13- 15 مليون طن. ليُصبح ركام الحرب في غزة كارثة إنسانية وبيئية لم يشهد العالم مثلها من قبل.
اقرؤوا المزيد: رسالة إلى بيتي العزيز في غزة
تسابق "إسرائيل" الزمن كل يوم في زيادة حجم الركام في قطاع غزة، من خلال قصف وتدمير ما تبقى من المباني، وقد بدأت في أيلول/ سبتمبر 2025 بقصف وتدمير كبرى الأبراج السكنية والتجارية، مثل برج مشتهى (16 طابقاً، 76 شقة)، وبرج السوسي (15 طابقاً، أكثر من 60 شقة)، وبرج الرؤيا التجاري (16 طابقاً، يضم أكثر من 120 وحدة سكنية ومكتبية ومؤسسات إعلامية وحقوقية)، وعمارة الرؤيا السكنية (7 طوابق، 30 شقة).

كانت هذه الأبراج السكنية إحدى أبرز المعالم الحضرية في مدينة غزة التي سُويت بالكامل، ما يعني إضافة آلاف الأمتار المربعة من الركام عالي الكثافة إلى الكتلة الإجمالية المتراكمة. ومع الأخذ في الاعتبار كتلة المواد الخرسانية المسلحة، وعدد الطوابق والشقق، فضلاً عن محتويات المباني من الأثاث والمعدات المكتبية والمنزلية، فإن تدمير هذه الأبراج وحدها قد أضاف عدة آلاف من الأطنان من الركام الجديد خلال شهر واحد فقط، مما يشير إلى تسارع خطير في تراكم المخلفات الإنشائية وتضاعف التحديات البيئية واللوجستية لعمليات الإزالة وإعادة الإعمار.
هكذا تفككت المدينة بيولوجياً
تجاوزت الكارثة البيئية الناتجة عن تراكم الركام في غزة حدود التلوث الكيميائي إلى ما يمكن وصفه بـ التفكك البيولوجي للمدينة نفسها. فبين أكوام الركام التي تجاوزت 50 مليون طن، ترقد عشرات آلاف الجثث التي لم تُنتشل منذ أكثر من عامين بسبب انعدام المعدات الثقيلة وغياب فرق الإنقاذ المتخصصة، ما أدى إلى تحلل أجساد الشهداء واختلاطها بالركام في مشهد يجمع بين الإبادة البيئية والإنسانية معاً.
التحلل البطيء لجثامين الشهداء في بيئة مغلقة ومكتظة خلق بؤراً ميكروبية عالية الخطورة، تُطلق غازات سامة وتسرّب سوائل التحلل إلى التربة، لتختلط بمياه الأمطار وتصل في النهاية إلى الخزان الجوفي وهو المصدر المائي الوحيد في القطاع. ومع انعدام القدرة على إدارة النفايات الصلبة، أصبحت المناطق المدمّرة تُستخدم كمكبات مؤقتة، حيث تُلقى النفايات المنزلية والطبية والصناعية إلى جانب الركام، بما في ذلك المخلفات السامة وبقايا الأدوية والمحاليل والحقن الملوثة من المستشفيات المدمّرة. هذا الاختلاط العشوائي بين الركام والجثث والنفايات حوّل مساحات واسعة من غزة إلى حقول مفتوحة للتلوث البيولوجي والكيميائي، تُهدد الصحة العامة وتزيد من احتمالية انتشار الأوبئة والأمراض المزمنة.
اقرؤوا المزيد: جيش الإبادة يحافظ على البيئة بتقليل استخدام البلاستيك!
وقدّر برنامج الأمم المتحدة للبيئة في تشرين الأول/ أكتوبر 2024 أن نحو 2.3 مليون طن من أنقاض غزة ملوثة بالأسبستوس، ما يجعلها بيئة شديدة السمية. ويحذر خبراء دوليون من أن استنشاق ألياف الأسبستوس الناتجة عن القصف سيؤدي إلى أمراض رئوية وسرطانات مزمنة تمتد آثارها لعقود قادمة. ووفق تقارير برنامج الأمم المتحدة للبيئة (UNEP)، فإن هذه الظروف تمثل أخطر مستوى من التلوث منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، متجاوزةً ما شهده العراق وسوريا في حروب المدن، إذ تجتمع في غزة عناصر الموت الثلاثة: الركام، الجثث، والنفايات في مساحة محاصرة تُمنع فيها أي عمليات إنقاذ أو معالجة بيئية منظمة.
"إسرائيل" تسرق الركام
لا تترك "إسرائيل" كلّ الركام خلفها، فقد وثقت مقاطع مصورة شاحنات إسرائيلية تسرق ركام المنازل المدمرة من قطاع غزة وتنقلها إلى خارجها نحو الأراضي المحتلة، بهدف إعادة تدوير الركام وتحويله إلى مواد بناء، واستخدامه لأغراض صناعية وعسكرية بعد فرزه ومعالجته، أو إلقائه بالبحر لإنشاء لسان بحري. وبذلك تستغل "إسرائيل" الركام لتوفير الموازنات الخاصة بمواد البناء عبر إعادة تدويره وتصنيعه.

وهكذا لا يكتفي الاحتلال بتدمير البنية التحتية وترك الركام، بل يسعى أيضاً إلى محو آثار جريمته وإعادة توظيف أنقاض غزة اقتصادياً لمصلحته. إذ لم يعد الركام في غزة مجرد بقايا مادية للهدم، بل تحوّل إلى أرشيف حيّ للجريمة، شاهداً على القصف والاحتلال والوجع الإنساني. وأصبحت عملية إزالته وسرقته محواً للأثر المادي للحرب، وطمساً لسردية الذاكرة الجمعية التي تشهد على حجم الدمار والإبادة.
الركام مورداً لإعادة الإعمار
تتنصل المؤسسات الدولية من مسؤوليتها تجاه إعمار قطاع غزة بعد الحرب، بدءاً من عدم وضع خطط ومخططات لإدارة الإعمار حتى الآن، واستمرار بثها خطابات وبيانات حول استحالة الإعمار أو مدى تعقيده، إذ ترى الأمم المتحدة أن تعافي قطاع غزة من الدمار قد يستغرق نحو 80 عاماً، وقد تصل تكلفته لأكثر من 40 مليار دولار.
إلا أن لأهالي قطاع غزة رأي آخر، فحسب المتحدث باسم بلدية مدينة غزة المهندس عاصم نبيه فإن إعمار قطاع غزة قد لا يستغرق وقتاً طويلاً إذا ما توافرت الإمكانيات والمعدات، وإذا ما أُعيد استخدام تدوير الركام واستخدامه بدلاً عن مواد البناء التي يمنع الاحتلال إدخالها.
فبدلاً من انتظار إدخال الإسمنت والحديد، يمكن فرز الركام، وسحقه، ومعالجته ميكانيكياً ليُستخدم في رصف الطرق، وردم الأساسات، وإنتاج الطوب الأسمنتي منخفض الجودة، على غرار ما جرى في الموصل بعد عام 2017، وبيروت عقب انفجار المرفأ عام 2020، حيث استُخدم الركام المعالج لتعبيد الشوارع وإعادة تأهيل البنية التحتية المدمرة.
اقرؤوا المزيد: المسموح والممنوع.. معابر تُحاصر غزّة
كما تُظهر تجارب سراييفو وحلب أن إعادة تدوير الركام تُسهم في تقليل التلوث والغبار، وتوفر فرص عمل محلية، وتعيد توظيف ذاكرة المدينة المهدمة في عملية بنائها من جديد. وتشمل الأفكار المقترحة لغزة اليوم إنشاء محطات متنقلة لمعالجة الركام، وتطوير مختبرات لاختبار سلامة المواد المعاد تدويرها، وتحويل أجزاء من الركام الرمزي إلى نُصُب تذكارية ومعارض توثيقية تحفظ الذاكرة الجمعية. وهكذا بدلاً من أن يكون الركام مجرد بقايا دمار، يصبح مادةً لبناء مستقبل جديد من قلب الأنقاض.
ورغم ذلك، تبقى إدارة الركام وإعادة الإعمار رهينة وقف الحرب، فلا يمكن لغزة أن تنهض من تحت ركامها وهي ما تزال تُقصف وتُحاصر، ولا يمكن لأي خطة هندسية أو إنسانية أن تنجح دون تعاون دولي فعّال يضمن حرية إدخال المعدات والمواد اللازمة للإعمار، ودون ضغط سياسي وقانوني حقيقي على الاحتلال لوقف عرقلته المتعمدة وابتزازه الدائم للفلسطينيين بملف إعادة البناء.