أطلقت حادثةُ الشاحنة الإسرائيليّة باستهدافها عدداً من العمال الفلسطينيّين من قطاع غزّة، في 8 ديسمبر/ كانون الأول 1987، الانتفاضة الفلسطينيّة الشعبيّة الكبرى وحركة "حماس" معاً، بيد أنّه وكما أنّ الانتفاضة جاءت تتويجاً لجملة من العوامل والمُمَهِدات النضاليّة والسياسيّة التي ظلّت تتراكم، فإنّ حادثة الشاحنة بالنسبة لحركة "حماس" لم تكن أكثر من "أثر جناح الفراشة".
قبل شهرٍ ونصف من حادثة الشاحنة، التأم المكتب الإداريّ للإخوان المسلمين الفلسطينيّين، في بلدة دورا في الخليل، من قيادات من الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة، واتخذ القرار باستثمار أي مواجهة وطنيّة مع الاحتلال لإطلاق مقاومةٍ إسلاميّةٍ في فلسطين، على أن يُتركَ القرارُ للتنظيم المحلّي للجماعة في الموقع الذي تحصل فيه المواجهة، وهو ما كان في قطاع غزّة.
قبل ذلك بعام، كانت الكتلة الإسلاميّة في جامعة بيرزيت، تلتحق بمظاهرات تصطدم بالاحتلال وتقدّم شهيدَها جواد أبو سلمية، أمّا الشهيد الآخر الذي ارتقى في تلك المظاهرات، صائب دهب، فقد تنازعت انتماءَه الكتلةُ الإسلاميّة مع حركة الشبيبة الفتحاويّة. وعلى أيّ حال، فإنّ هذا النزاع حول الهوية السياسيّة للشهيد، كان ناجماً عن تحوّلات للجماعة الإخوانيّة كانت آخذةً في إكمال تبلورها نحو التحوّل النهائيّ في صيغةٍ نضاليّةٍ تلتحق بها الجماعةُ بالحركة الوطنيّة.
لم تكن هذه التحولات طفرةً مباغتةً أو منقطعةً عن أيّ سياقٍ تاريخيّ، فالإخوان الفلسطينيون بدؤوا خارج فلسطين؛ في الخليج وأوروبا وأميركا، في تشكيل الروابط الطلابيّة والاتحادات الإسلاميّة. أمّا داخل الأرض المحتلة، فقد كانت الجماعة في قطاع غزّة أكثر نشاطاً في إنشاء المؤسسات (المجمع الإسلامي، الجمعية الإسلاميّة، الجامعة الإسلاميّة). وفي الضفّة تأسست الكتل الإسلاميّة في الجامعات الوطنيّة، وأظهرت حضوراً فاجأ أحزابَ منظمة التحرير، فقد حازت على 42% من الأصوات في انتخابات جامعة بيرزيت عام 1980، في أول انتخابات تشارك فيها بعد عامين من تأسيسها، بينما فازت الكتلة الإسلامية في جامعة النجاح، لدورتين متتاليتين في عامي 1981 و1982.
تعرّضت هذه الظاهرة لمحاولة الإقصاء المبكّر، لا في الجامعات فحسب، بل في الميدان، وفي السجون، فمنذ منتصف سبعينيات القرن الماضي، تشكّلت "الجماعة الإسلامية" في السجون، فصيلاً مستقلاً عن فصائل منظمة التحرير، وضمّت المناضلين المتدينين المنحدرين من الفصائل الوطنيّة القائمة، ثمّ صار ينضمّ إليها الإسلاميون أصالةً، وذلك مع التشكيلات الأولى للإخوان المسلمين، كما في مجموعة الشيخ أحمد ياسين عام 1984، والمجموعات الأولى لحركة الجهاد الإسلامي. باتت هذه الجماعة فضاءً يحوي طيفاً واسعاً من الاتجاهات الفكريّة الإسلاميّة، إلى أنّ انتهت، مع الانتفاضة الفلسطينيّة الشعبيّة الكبرى، باستقرار الحالة الجهاديّة الإسلاميّة، على حركتي "حماس" والجهاد الإسلامي.
بالإضافة إلى عوامل الدفع الذاتيّ، وقد كان من صورها تأسيس جهاز فلسطين عام 1983 في تنظيم بلاد الشام، وإرسال عدد من عناصر الجماعة للتدريب على السّلاح في الخارج عام 1980، وعوامل الاحتكاك بالحركة الوطنيّة، وسؤال النضال الذي وظّفته فصائل منظمة التحرير لحرمان الظاهرة الآخذة بالتنامي من الاعتراف، فإنّ تحدّي جماعة الدكتور فتحي الشقاقي المنفصل عن الإخوان بسؤالي فلسطين والثورة، والرفع المعنويّ المتوفّر بفضل الثورة الإيرانيّة، وتفاعل الإسلاميين مع الجهاد الأفغانيّ، مَنَحَ عملياتِ الدفع الذاتيّ المزيد من القوّة وصولاً إلى "حماس".
الإقصاء والجدارة
بالرغم من أنّ الصّراع لم يكن الحاكمَ الوحيدَ لعلاقة "حماس" بـ"فتح" فإنّ غلبة التوجه اليساريّ في "فتح" من بعد أحداث أيلول، وتعاظم النزعة الاستئثارية في "فتح"، وهيمنة هاجس التمثيل عليها، باعد من المسافة بين الحركتين، حتى وصل الإخوان بـ"حماس" مُحمّلين بإرث من هذا الصراع ومن الشعور بالمظلومية والرغبة في إثبات الذات، والإحساس العميق بإمكان مزاحمة "فتح" على التمثيل.
بدأت "حماس" قويّة، مستقلةً في إدارة فعاليات الانتفاضة عن "القيادة الوطنيّة الموحدة"، وهو ما شكّل تحدّياً لتلك القيادة، التي فاجأتها قوّةُ الحركة الوليدة، وقدرتُها على بسط حضورها الجماهيريّ وفعالياتها الخاصة على كامل جغرافيا الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة. وهذه الإرادة من الاستقلال والتمايز، والمحمولة على تقدير الذات، وإدراك إمكان المنافسة، والرغبة في تصحيح مسار حركة "فتح"، حكمت سلوكَ "حماس" حتى اليوم.
وفّر التمايز الأيديولوجي لـ"حماس" عناصرَ قوّة، وأسباباً لمزيد من الحضور والغلبة، فقد ظلّت الحركة في طورها الإخوانيّ الدعويّ وصولاً إلى طورها المقاوم في صورة "حماس" تتعاظم من بعد نكسة عام 1967 في استجابةٍ فلسطينيةٍ للصحوة الإسلاميّة في المنطقة العربيّة. كما أنّ الدمجَ بين النشاط الدينيّ والنشاط المقاوم، منحها عواملَ استقطابٍ وتأثيرٍ واستمراريةٍ لا تتوفّر لفصائل منظمة التحرير.
وفي حين كانت البداية الأيديولوجيّة في مرحلة "حماس" صارخة، شديدة الوضوح والقطع في التعبير عن نفسها في أدبياتها الأولى (كالميثاق مثلاً)، فإنّ الحركة، وفي وقت وجيز، باتت أكثر تسييساً في خطابها، وتخفّفاً من نزعتها الأيديولوجية.
يمكن ملاحظة غلبة السياسيّ على الأيديولوجيّ في تحالف الفصائل العشرة، الذي ضمّ إلى جانب "حماس" وحركة الجهاد الإسلامي عدداً من الفصائل الأخرى، أبرزها الجبهتين الشعبية والديمقراطية، وذلك بعد أقلّ من ست سنوات على تأسيس "حماس"، والتي تحالفت كتلتها الطلابية مع اليسار الفلسطيني في انتخابات جامعة بيرزيت عام 1993، ثم في النجاح عام 1994، ثم في جامعة القدس عام 1995. وبقدر ما يظهر التحالفُ تراجعَ الأيديولوجي لصالح السياسيّ والوطنيّ، فإنّه يكشف من جهة أخرى التراجع الكبير لليسار الفلسطينيّ، وقدرة "حماس" على ترسيخ نفسها متجاوزة عمليات الإقصاء التي عانتها في طوريها الدعويّ الآخذ بالتحول، وطور المقاومة في بداياته.
ثمّة خصوصيّة فلسطينيّة دفعت الأيديولوجيّ عن بعض مساحاته لصالح الوطنيّ والسياسيّ. من جهة، كان المتن الأكبر من إرث الحركة الوطنيّة إرثاً علمانيّاً. ومن جهة أخرى فإنّ تأطير قوى الشعب، واستثمار طاقاته، ومنافسة "فتح" على الحيز الشعبيّ وفي مجال التمثيل، كان يقتضي الدفعَ التدريجيَّ للأيديولوجي، وهو ما انعكس كذلك في رغبة الحركة في تطوير علاقاتها الإقليمية والدولية.
لم تحكم هذا التوجه رغبةٌ مجردةٌ في المنافسة والتمثيل، ولم يكن مدفوعاً بمحض التمايز الأيديولوجي، ورغم حضور هذه العوامل، إلا أنّ إرادةَ تصحيح المسار، وكبح ما ظهر مبكراً من سعي فتحاويّ نحو التسوية، كان لها حظّ وافر من مبررات وجود الحركة وحرصها على مزاحمة "فتح" على مساحاتها الجماهيريّة والتمثيليّة.
"فتح".. المنافس والعقدة
لم تكن "فتح" عقدة "حماس" بهذا الاعتبار الوطنيّ النضاليّ فحسب، بمعنى أنّه بقدر ما كان تراجع "فتح" التدريجيّ عن منطلقاتِها الأولى عاملاً إيجابيّاً في تخليق المنافس والبديل عند "حماس"، فإنّ ذلك كان ورطةً سلبيّةً من جهة أخرى. القصد أنّ "حماس" كانت، من جهة، ضرورةً تاريخيّةً للقطع مع مسار التردي الذي بدأ عام 1974، ولكنها كانت من جهة أخرى غير قادرة على التحرّر من الإكراهات المفروضة من "فتح". ترك هذا الوضع الحركةَ في مركبٍ من تناقضاتٍ مُتلاحمة، ما بين ضرورة الصّراع على التمثيل لكبح مسيرة التردي، وما بين الاضطرار للتسليم ببعض النتائج الفتحاوية لنيل قدرٍ من القبول الإقليميّ والدوليّ.
كانت أولى النتائج التي سلّمت بها الحركة ولم تقطع معها، فكرة الحلّ المرحليّ القائم على المبادرة السياسيّة، وهو ما عبّرت عنه "حماس" بصيغ متعددة، مرّة مقترحاً للحلّ المرحلي غير مقرون بالدولة، ومرّة مقروناً بالدولة، وصولاً لتبني حلّ الدولتين في صورة مبدأ سياسيّ مكرّس في وثيقة سياسيّة صدرت عام 2017.
أطروحة الحلّ المرحليّ القائم على المبادرة السياسيّة أو استدخال الدولة قبل التحرير في الفكر السياسيّ لـ"حماس"، لم تحظ بنقدٍ كافٍ داخل الحركة. أدّى هذا الأمر بالحركة إلى دخول السُّلطة الفلسطينيّة، بعدما كانت هذه السُّلطة، أكبر ما ورّطت فيه قيادةُ منظمة التحرير الشعبَ الفلسطيني، وبعد أن دفعت "حماس" نفسها أثمان تأسيس السلطة من لحوم أبنائها وأعمارهم في سجونها. دخلت "حماس" السّلطة، تأسيساً على النتائج التي أفضت إليها انتفاضة الأقصى؛ ضُعفاً للسلطة، وقوّةً لـ"حماس" في قطاع غزّة على وجه الخصوص، فالاحتلال الذي أعاد اجتياح المناطق (أ) في الضفّة الغربيّة، انسحب من قطاع غزّة، وبهذا تأسس تمايز جوهريّ بين الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة.
لم تعترف "فتح" فعليّاً بنتائج الانتخابات التي منحت "حماس" العدد الأكبر من مقاعد المجلس التشريعيّ، وإن اعترفت بها نظريّاً، وقد دفع ذلك "حماس" إلى تشكيل حكومة السُّلطة الفلسطينيّة، المتأسسة وفق دور وظيفيّ يتناقض في العمق مع وجود "حماس" ومشروعها.
نظّمت "فتح"، من موقع هيمنتها على الجهاز الإداريّ والأمنيّ في السُّلطة الفلسطينيّة وشبكة علاقاتها الإقليمية والدولية، فعاليات إفشال "حكومة حماس". تبين بذلك أنّ "حماس" لم تكن قد استشرفت بما فيه الكفاية تداعيات فوزها وتشكيلها الحكومة، وتأكد لها الرفض الإقليمي والدولي لدمجها في النظام السياسيّ الفلسطينيّ، واستحالة أن تُدير حركة مقاومة سلطةً مرهونة إلى شرط احتلالي، وصعوبة الجمع بين إدارة الحكم وإدارة المقاومة. ظهر ذلك مثلاً في أنّ الحركة أسرت جنديّاً بُعيد فوزها في الانتخابات، وما لا يقل عن ذلك أهميّة؛ أن "فتح" لم تتحوّل إلى حركة ديمقراطيّة، ولم يكن بمقدورها استيعاب مرارة إزاحتها عن صدارة التمثيل الفلسطيني، أو دفعها عن درة مشروعها السياسي (السُّلطة الفلسطينيّة).
انتهى الرفض الفتحاويّ العملي لفوز "حماس" إلى الانقسام الفلسطيني في 2007، وهكذا كانت السُّلطة فاتحةَ الانقسام السياسيّ حين تأسيسها، وسبب الانقسام البنيويّ المؤسسيّ والجغرافيّ حينما التحق معارضوها بها. أفضى ذلك إلى تباينٍ حادّ في الظرف السياسيّ العامّ، وما يتصل به من أوضاع اجتماعيّة بين الضفّة الغربيّة التي لم يكن لـ"حماس" أن تتمكن من حماية مكتسبها الانتخابي فيها، وبين قطاع غزّة، حيث استفادت "حماس" من انسحاب الاحتلال عام 2005 في مراكمة قوة عسكريّة ضخمة شبه نظاميّة.
وبهذا تمكّنت الحركة من الحفاظ على حكومتها في غزّة، وتطوير أجهزة سلطويّة أمنيّة وإداريّة فيها تابعة لها، مع تعظيم قدرات المقاومة في القطاع وتنظيم التنسيق بين فصائلها. لكنها لم تتمكن من إعادة بناء تنظيمها في الضفّة، حيث فرضت السُّلطة سلسلةَ سياساتٍ تهدف إلى تحييد الجماهير عن القيام بواجبها النضاليّ، وتفكيك بنى فصائل المقاومة، وتحجيم الحركة الطلابية، متذرعةً بالانقسام لإنفاذ هذه السياسات، وقد ارتسمت هذه السياسات بقسوة على جلود منتسبي "حماس" في الضفّة.
اقرؤوا المزيد: "هل تأخرت حماس عن الالتحاق بالانتفاضة الثانية؟"
مثّلت السُّلطة حين تأسيسها واحدةً من أعظم أزمات "حماس"، ربما أعظم من أزمة ضرباتها الاعتقالية بين أعوام 1989 - 1991، أو إبعاد مرج الزهور 1992، إذ بدت الحركة عاجزة إزاء الموقف من السلطة، أو القدرة على التأثير في الساحة. وفي حين استهدفتها السُّلطة في غزّة بقسوة عام 1994، فإنّها في الضفة حافظت على تعافٍ نسبيّ حتى عام 1998، واغتيال قيادييها العسكريين محيي الدين الشريف وعادل عوض الله، وتفكيك تنظيمها الإداري في الضفّة، إلى أن أعادت انتفاضة الأقصى للحركة عافيتها.
بين المقاومة والسلطة
عرَضت هذه العلاقةُ المركبةُ إزاء السُّلطة الحركةَ لكثيرٍ من النقد. إلا أنّ الموقف لم يكن بهذه السّهولة، فحركة "فتح" حاصرت الجميع باسم شرعية السُّلطة، وسوّغت ممارستها الأمنيّة بهذه الذريعة. وباتت "حماس" بعد التحوّلات التي فرضتها انتفاضة الأقصى أمام خيارات صعبة، ما بين التعرض للاستهداف الأمنيّ باسم السُّلطة، وبين الدخول في السُّلطة.
وإذا كان للحركة التي تعاني من عجزٍ عن استعادة عافيتها التنظيميّة في الضفّة والحصار في غزّة، أن تفخر ببنية المقاومة التي راكمتها، وأرضية المقاومة التي وسّعتها للجميع، إلا أنه ومن جهة أخرى، وبسبب الحصار وانعدام الظهير الخلفيّ فإنّ سلاح المقاومة يعيش مأزقاً يتعلق بإمكانية توظيفه في فعلٍ مقاومٍ استنزافيّ.
اقرؤوا المزيد: "المقاومة والحكم..هل تناقض حماس نفسها؟"
يدور السّجال داخل قطاع غزّة حول سلاح المقاومة إن كان منحصراً في هذه المرحلة في المراكمة والتطوير والإعداد، والاستخدام السياسيّ المحدود بهدف رفع الحصار عن غزّة، وبين أن وظيفته الأصلية هي الاستنزاف، أو في أقلّ الأحوال مشاغلة العدوّ. تنجم دواعي السجال بين الوظيفة الأصلية وبين ممكناته الراهنة عن سعي الاحتلال لتحويله إلى عبء على قطاع غزّة، بتوظيفه وجود إدارة لقطاع غزّة تنتمي للمقاومة ويصعب عليها الجمع بين الإدارة بكل ضروراتها المعيشية والاقتصادية وبين المقاومة بما تجلبه مما يمسّ معايش الناس وأرزاقهم.
ليس ثمّة إهمال للسلاح، والحال هذه، فالانهماك في الإعداد تظهر نتائجه بين كلّ مواجهة وأخرى، وهو أمر يكرّس "حماس" حركة مقاومة جادّة، وهي الحركة التي عانت في مراحل متعددة من تشكيك في مصداقية مقاومتها واستمرارها على الخطّ. وذلك بينما ظلّ قطاع غزّة الذي تديره؛ ساحة المقاومة الأبرز في المنطقة العربية، لا باعتبار المراكمة فحسب، بل باعتبار الصدام، وباعتبار جهد الحركة في محاولة كسر المعادلة الصهيونية، التي لم تهدف إلى تعطيل فاعليتي الإشغال والدفاع في سلاح المقاومة، بل أرادت تعطيله بالمطلق مع بقاء يدها الأمنية والعسكرية هي العليا، وهو ما يمكن القول إنّ الحركة تمكنت من كسره نسبيّاً، فعمليات الاحتلال العسكرية تواجه بعمليات مقابلة، وجهود الاحتلال الأمنيّة تواجه بجهود أخرى حقّقت نجاحات واضحة.
السلطة.. المصالحة والبديل
تتمثل معضلة القضية الفلسطينية عموماً، في مستواها الذاتي، أنّ جميع الفاعلين الفلسطينيين، اضطروا للوقوف على الأرضية التي فرضتها "فتح"، وصارت أمراً واقعاً. ومعضلة "حماس" في هذا الإطار، أوضح من غيرها، باعتبارها الطرف الأساسيّ الآخر في الفاعلية الوطنية إلى جانب "فتح"، فالحركة التي عجزت عن استنهاض تنظيمها في الضفّة، وتجد نفسها محاصرة بقسوة في غزّة، ولم تتمكن من تطوير جهاز عمل في الخارج يعيد تأطير الشتات الفلسطيني بعد انحسار منظمة التحرير عن هذه الساحة، وتعاين مشاريع تصفية القضية الفلسطينية، لم تكن لتجد بدّاً بين فترة وأخرى إلا محاولة العودة للتصالح مع "فتح".
المصالحة الفلسطينيّة، تبدو محلّ إجماع، إلا أن الاختلاف لا يدور حول مبدأ المصالحة، ولكن حول شروطها وحيثياتها، وهل ستعيد تدوير الحالة الفلسطينية على الأرضية نفسها، أمّ أنّ ثمّة مراجعة فتحاوية للمسار الذي انتهى بالفلسطينيين إلى خطة ترمب، ومشاريع الضمّ، وموجات التطبيع الجديدة، مع شلل كامل في الفاعلية الفلسطينية؟!
في آخر جولات المصالحة، التي حظيت بتعبيرات مفرطة في التفاؤل من قيادات في الحركتين وزعمٍ أنّها مؤسّسة على أرضية جديدة، سرعان ما انهارت بعد رجوع السلطة الفلسطينية عن قرارها بوقف التنسيق الأمني، ورفضها تزامن إعادة بناء المجلس الوطني مع المجلس التشريعي وبناء خطوات ثقة وتهيئة للأجواء وإلغاء الإجراءات التمييزية على أساس سياسي ومناطقي، واتضاح كون خطوتها نحو "حماس"، ارتبطت بنحو ما بانتظار الانتخابات الأميركية، وأنّها في أحسن الأحوال أرادت تجديد شرعية السُّلطة بانتخابات تشريعية دون الوصول إلى إعادة بناء منظمة التحرير.
حاولت "حماس" أن تخطّ مساراً خارج الملعب الفتحاوي، بإعادة الأمور إلى نصابها الوطني والبرامجي، والتأكيد على أنّ القضيّة لم تكن في جوهرها انقساماً سلطويّاً، وهو ما حدا بالحركة إلى السعي لإيجاد أجسام تمثيلية، تضمّ عدداً من الشركاء الوطنيين، لسحب التمثيل والشرعية أداةً من حركة "فتح" في التقرير في المصير الفلسطيني، أو امتلاك أوراق قوّة تمثيلية في مقابل "فتح". في هذا الإطار كانت فكرة "مؤتمر الفلسطينيين في الخارج"، والذي تقلص عن طموحاته الواعدة، وكفّ عن السعي لأهدافه الأساسية، بفعل الهجوم الذي مارسته عليه "فتح"، محذرةً من مساعي "حماس" تقويض شرعية منظمة التحرير وتمثيلها للفلسطينيين.
في المقابل، لا يدور في الفضاء العامّ نقاشٌ وطنيٌّ واضح بين الفاعلين ومن يفترض أنهم شركاء "حماس" في المقاومة حول العجز عن معالجة احتكار "فتح" استخدام منظمة التحرير لتغطية سياساتها وتعزيز استئثارها بالحالة الوطنية. وبالرغم من أنّ قطاع غزّة صار أرضاً مفتوحة لفصائل المقاومة، فإنّ غرم إدارته على "حماس" وحدها، وبينما تبدو فكرة "الغرفة المشتركة" واعدة، فإنّها محصورة في الإطار العسكري، ولم تكن فاعلة بالكفاءة المطلوبة في بعض المحطات. كما لم يتمكن معارضو سياسة "فتح" من تطوير إطار وطنيّ يملك الثقل الكافي إزاء توظيفها لمنظمة التحرير.
خلوّ الساحة من النقاش الجدّي المسؤول والشفاف يحول دون تقدير الأوزان الحقيقيّة لمسؤوليات الفاعلين، إلا أنّه لا يمكن نفي المسؤولية النسبيّة عن الجميع؛ عن "حماس" باعتبارها الفاعل الأهم في هذا الإطار، وعن بقية الفصائل التي تفارق "فتح" في برنامجها وسياساتها ولكنّها تخشى من أن يحسبها أيّ طار جامع لقوى المقاومة، والمعارضة لسياسة "فتح" باتجاه "حماس" في سياق انقسامي، فضلاً عن ارتباك قوى أخرى، من فصائل منظمة التحرير، ما بين الحفاظ على المنظمة بوصفها مكتسباً فلسطينيّاً، وبين سيطرة "فتح" على المنظمة في سبيل سياساتها الخاصّة والضيقة.
التفاتة إلى الذات
في الجانب الذاتي، لا تُسفِرُ الحركةُ عن حالةٍ نقديّةٍ نظريّةٍ واضحة في الفضاء العامّ، تقرأُ سياساتِها وأفكارِها من زاويةٍ موضوعيّةٍ لا دعائيّة، رغم أنّ ذلك ضرورة لا بدّ منها، بعدما تجاوزت الحركة أطرها الجنينية الأولى، وصارت حركة عامة، تحمل مسؤوليات إدارية وحكومية، فضلاً عن أهمية موقعها في السياسة الفلسطينية والحركة الوطنية.
اقرؤوا أيضاً: "كيف أدارت "حماس" جهاز الحكم في غزة؟"
لا تحتاج الحركة إلى مراجعات نقدية للسياسات العامة فحسب، ولكن للمسلكية التنظيمية كذلك، لاسيّما، وأن واحدة من أسباب ضعف الروحية العامّة في الحركة الوطنيّة وتراجعها، ونفوذ السياسات المدمّرة، هو شيوع مسلكيات الاستزلام والزبائنية فيها. ويبدو أنّ هذه المعضلة التنظيمية والأخلاقية التي شاعت في "فتح" على وجه الخصوص، قد تسللت إلى الجميع، بالرغم من أنّ "حماس" في أصل وجودها، كانت تُعنى بالمسلكية الأخلاقية والجهادية، وفق أصول إيمانية وتربوية. ومع اتساع الحركة، وتورطها في العمل الحكومي، وتمايز ظروف منتسبيها بحسب الأقاليم الجغرافية التي يعيشون فيها، فإنّها تحتاج أكثر من أيّ وقت ماضٍ إلى إعادة تفعيل القيم الأخلاقية الإيمانية والأخوية في مسلكيتها التنظيمية.
وفي السياق نفسه، فإنّ تعدّد الأقاليم الجغرافية التي تحضر فيها الحركة، أي الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة وخارج فلسطين، بتبايناتها الموضوعية، والمفروضة من الاحتلال، وما ينبني عليها من اختلاف الظروف، وأولويات العمل، وممكناته، وصعوبة التنسيق والتكامل، وإشكاليات التمثيل والتفعيل واستثمار الطاقات، خاصة في الأقاليم التي تعاني ظروفاً استثنائية، وتحديداً الضفّة، ووحدة المؤسسات، وتجنب المحاصصة المناطقية أو الترضيات الشخصية لصالح الكفاءة وتوظيف ما أمكن من الطاقات، كل ذلك، من أبرز التحديات التي ينبغي على الحركة، إعادة النظر فيها، بروح واحدة تكاملية، تراجع بها المسارات التنظيمية وخياراتها منذ أكثر من عقد من الزمان، لاسيما وهي مقبلة على انتخابات داخلية جديدة.