3 مايو 2019

المقاومة والحكم

هل تناقض حماس نفسها؟

هل تناقض حماس نفسها؟

تقود "حماس" في قطاع غزّة، في الآونة الأخيرة، سلسلةً من الفعاليات، التي يبدو نصفها مناقضاً للنصف الآخر، ولكنّها في كلّيتها، أي تلك الفعاليات، تعود لثنائية تحْكُم سياسات "حماس" عموماً في العقد الأخير. فهي، وإذ تقود المواجهة مع الاحتلال بالسلاح، وتستصحب في الأثناء يقظة أمنيّة، وتكشف عن جدّية في تبني المقاومة خطاباً وممارسة، وتدعم المسيرات الشعبيّة (مسيرة العودة) بما يرافقها من أدوات متجددة وذكيّة، لاستنزاف الاحتلال والضغط على أعصابه، فإنّها في جانب آخر، تدير مفاوضات تهدئة غير مباشرة مع الاحتلال بوساطة مصريّة، وتتعامل بعنف واضح مع حراك رفع شعاراً مطلبيّاً وتحوّل سريعاً إلى موقفٍ سياسيٍّ من الحركة.

في ظاهر الأمر، يبدو ذلك كلّه تناقضاً. لكن التناقض الحقيقيّ قابعٌ في العمق. ينكشف ذلك حينما يتضح أنّ هذه الفعاليات كلّها، في صورها المتباينة، ناجمة عن الحصار، فهي تهدف إلى رفعه أو تخفيفه أو محاصرة آثاره على مكانة "حماس" سلطةً حاكمةً، ولكنها في الأساس أيضاً ناجمة عن كون الحركة، حركة مقاومة خطاباً وحقيقة، وهو ما استدعى حصارها من قوى الحصار المتعددة، بما في ذلك الوسيط المصري. هذا التناقض يتجلّى إجرائيّاً في وظيفة سلاح المقاومة، بحسب عقيدة حامله، إن كان يريد به التحرير المباشر أو لحشد الأمّة خلف مشروع التحرير، ولكنّه بات يستخدم لإزالة آثار الحصار.

يُذكّر ذلك ببرنامج إزالة آثار العدوان بعد حرب عام 1967، وهو ما نقل الحالة العربيّة من برنامج التحرير بوصفه الأولوية والبرنامج المعجّل، إلى برنامج الترميم ليكون هو البرنامج المعجّل. استدعى ذلك ابتداءً تأجيلَ برنامج التحرير، ثم الدخول في المشروع السلميّ. بمعنى أن الانتقال من المقاومة إلى ترميم آثار المقاومة قد يستبطن تحوّلاً سياسيّاً، أو يستدعي مثل هذا التحوّل، وهو ما يشكّل بعداً أساسيّاً في بعض النقد الموجّه لتجربة حركة "حماس" من بعد دخولها السلطة الفلسطينيّة ومحاصرتها في قطاع غزّة، هذا مع ضرورة أخذ الفوارق المهمّة بين تجربة الحركة، وبين الحالة العربيةّ سابقة الذكر.

والحال هذه، فإنّه لا بدّ من العودة إلى أصل المسألة، وهي دخول حركة "حماس" في السلطة الفلسطينية، على أساس ثنائية "المقاومة والبناء"، لكن لا البناء بمعنى إزالة آثار العدوان، وإنما البناء الأصلي من موقع السلطة والحكم، أي السلطة بواجبها من حيث هي سلطة ابتداء. ولم يكن هذا الشعار "يد تبني ويد تقاوم" يعني شيئاً سوى أنّ الحركة اعتقدت إمكانها المزاوجة بين المقاومة وبين الحكم المستريح. والمطلع على مجريات تلك المرحلة وما تلاها، بما في ذلك مناقشات الحركة الداخليّة، سيتأكد من أنّ هذا الشعار لم يكن محض دعاية انتخابيّة، بل كان تصوراً غالباً على الوعي العام في الحركة حينها.

وإذا كان ذلك يؤشّر على قصور في فهم السّلطة ووظيفتها ضمن سياقاتها التي اصطنعتها، وعلى تطلّعٍ سلطويٍّ لدى الحركة، وعلى وعي الحركة بذاتها، بصفتها القوّة الأساسية في الساحة التي تزاحم حركة "فتح"، فإنّ القرار لم يتأسس على مثل هذه الاعتبارات فحسب، إذ لا بدّ من تحوّلات في موازين القوى حملت "حماس" على الدخول في السلطة.

أبرز موازين القوى المستجدة، كانت نتائج انتفاضة الأقصى على قطاع غزّة خصوصاً، وعلى السّلطة في جملتها، فقد استعادت "حماس" عافيتها بفضل الانتفاضة، وإذا كانت الحركة في الضفّة الغربيّة قد ألقت بكادرها في أتون تلك الانتفاضة، ثم واجهت حملة التفكيك في عملية السّور الواقي التي أعاد فيها الاحتلال اجتياح مناطق (أ)، فإنّها، أي الانتفاضة الثانية، مكّنت الحركة في غزّة من تعظيم بنيتها التنظيمية، وتعزيز نفوذها، ومراكمة قوّة جهازها العسكريّ وقدرته، بالإضافة إلى تفكيك الاحتلال مستوطناته من قطاع غزّة.

اقرؤوا المزيد: "رحلة الـ33 عاماً.. سيرة عسكرية لبدايات حماس".

لم تكن "حماس" فاعلاً مهمّاً في انتفاضة الأقصى فحسب، بل كانت الفاعل الأهمّ فيها، ولا شكّ أنّ إدراكها لذلك طبع تعاطيها مع مجمل التطورات بعد الانتفاضة، لاسيّما وأنّ شركاءَها في الانتفاضة من حركة "فتح"، رفعوا شعار "شركاء في الدمّ، شركاء في القرار"، والحركة وإن كانت ترغب بالمشاركة في القرار بالمعنى السلطويّ، فإنّها أرادت أيضاً حماية نفسها ومكتسباتها، ومشروع المقاومة الذي تراه من وراء ذلك.

المناقشة في ضوء النتائج

مناقشة هذا القرار الآن، بين ناقديه والمدافعين عنه، تدور في إطار النتائج القائمة، إذ يكاد ينحصر حجاج المؤيدين لدخول الحركة في السُّلطة؛ في المنجز العسكريّ للحركة في غزّة، وإلى حمايتها نفسها –على الأقل- في غزّة، فلولا مشاركتها في الانتخابات، ثمّ تشكيلها للحكومة، ثمّ ما اصطلحت عليه "حماس" بـ"الحسم العسكريّ"، لما أمكن أبداً مراكمة هذه القوّة العسكريّة، لا لـ"حماس" وحدها، بل لمجمل الفصائل الفلسطينيّة، بما في ذلك معارضو قرار الحركة إيّاه، ومن يتوسط في الموقف بينها وبين "فتح"، أو لا يتقدم خطوة إلى الأمام للمشاركة في ابتداع الحلول لبيئة المقاومة المؤسَّسة على دخول "حماس" السلطة!

في سياق نقد قرار دخول الانتخابات، وبالنظر إلى النتائج القائمة فحسب، يمكن القول إنّ الانزلاق للموقع السلطويّ قيّد الحركة بمحاذير سياسيّة، وحمّلها أعباءً اجتماعيّةً، وألجأها إلى مسلكيات سلطويّة كانت ترفضها أساساً، وأوجد تحويراً نسبيّاً في وظيفة سلاح المقاومة.

والثابت أن أحداً لم يسمح للحركة بالحكم المستريح، فالسُّلطة المصمَّمَة في سياقٍ معينٍ ولوظيفةٍ معينةٍ، لم تكن لتتسع لحركة "حماس" بسلاحها، ولا أن تقبل بعكس وظيفتها (أي وظيفة السّلطة). والأمر منوط أولاً؛ بالاحتلال الذي تقع السُّلطة في ظلّه وبالاتفاق معه، ثمّ بالمنظومة الإقليميّة والدوليّة المعادية لـ"حماس"، ثمّ حركة "فتح" التي لم تتحوّل إلى حركةٍ ديمقراطيّةٍ، بل وأخذت تخصم من طبعتها التحرريّة وصولاً إلى اندماجٍ عضويٍّ كاملٍ في مشروع السّلطة.

أفضى ذلك إلى انقسامٍ بنيويّ، حمّل قطاع غزّة عبئاً هائلاً دون تمكّن الفلسطينيّين في الضفّة الغربيّة من إسناده نتيجة وجود سلطة بوظيفة معاكسة، ولاختلافات موضوعيّة أخرى. ثمّ حين تحوّل المشروع في غزّة إلى حكومة محاصرة، ومعدمة الإمكانات، دون أن تتحرر من نفوذ سلطة الضفّة وإمكاناتها، ولا من الحاجة للاحتلال، ولا من الدولة العربيّة المحاذية والمحكومة بنظامٍ معادٍ، تحوّل سلاحُ المقاومة في جزء من وظيفته لأداة مناورة سياسيّة في حدود قطاع غزّة.

ذلك في حين اشتغل الاحتلال على جعل سلاح المقاومة (وهو إنجاز "حماس" الأهم المكتسب من سلطتها) عبئاً مُطلقاً على سكان القطاع. أيّ أنّه بذريعة سلاح المقاومة، ومستغلاً وجود "حماس" في موقع السُّلطة، أراد الاحتلال تعطيل بُعد المقاومة في سلاحها بما هي إشغال واستنزاف، ثم تعطيل بُعد الدفاع فيه، مبتزّاً "حماس" في مسؤولياتها تجاه الناس، بما هي حكومة وسلطة. في هذا السياق، سعى الاحتلال لفرض معادلته؛ حصار مستمر، مع يد أمنيّة وعسكريّة عليا له، في مقابل سلاح مقاومة معطّل، يخشى مزيداً من استنزاف الناس، ومن هدم لا بناء بعده، وهي المعادلة التي لم تتمّ للاحتلال، وإن ظلّت إشكالية السّلاح (الإنجاز الأهم) في حدوده الضيقّة، وقيوده السلطويّة قائمة.

هذه القراءة الناقدة، تدعو للنظر إلى سلاح المقاومة، بما هو نتيجة للدخول في السّلطة، في إطار كلّيّ أكبر والذي من مفرداته الكبرى؛ الانقسام الذي ساهم في استنزاف القطاع؛ ومحو القاعدة الشعبيّة المشتركة لتأسيس مقاومة واحدة عليها في الضفة وغزّة، وفي توفير الذريعة لـ"فتح" وسلطتها في الضفة للانشغال بـ"حماس" وقطاع غزّة، بما يمرّر أكثر الوقائع الاستعماريّة على الأرض وفي السياسة.

ومن مفردات هذا الإطار الكبير، تقييد سلاح المقاومة، ونقله من وظيفة إشغال واستنزاف إلى مادّة مفاوضات لرفع الحصار، أو في أحسن أحواله إلى فاعلية مؤجّلة. هذا بالإضافة إلى النتائج المباشرة على "حماس"، التي فقدت توازنها الداخليّ، بتفكك تنظيماتها في الضّفة، ومن ثمّ العجز عن عملٍ تكامليٍّ، أو رؤية تتجاوز المصلحة المُتعلِقَة بكيان الحركة في غزّة، فقد ارتبط بهذا الكيان اليوم وجود الحركة كله. إذ والحال هذه، وباعتبار أنّه كان من أهداف الحركة من دخول السُّلطة حماية نفسها وشبابها، ثمّ من أهداف الانقسام الحفاظ على مكتسبها، فهذا الأمر تأتى في غزّة وحدها، دون الضفّة، وفي ظرف سائل يحيط بالحركة وسلطتها في غزّة.

وجه آخر للمسألة

بيد أنّه وبالرغم من الصعوبات الهائلة التي تحيط بـ "حماس" في غزّة، والنتائج الكليّة الكبرى التي تقيّد سلاحها، وتكبّلُ مقاومتها بالسلطة، وتجعل الحركة أحياناً في مواجهة قطاعات من الشعب، وجغرافيا المقاومة بيئة طاردة لناسها، فإنّه لا بدّ من النظر من داخل إطارٍ كليٍّ آخر، وهو خطورة تفرّد السلطة التي تقودها "فتح" بقيادة القضية الفلسطينيّة، على النحو المعطّل للفاعلية الوطنيّة كما هو ملاحظ الآن.

لقد انتهى مشروعُ التسوية إلى كارثةٍ تصفويّة، وتحوّلت السُّلطة إلى هدفٍ قائمٍ بذاته لا يَعِدُ بأفقٍ سياسيٍّ أرقى للفلسطينيين، وأُنهيت مهمةُ حركة "فتح" التحرريّة، وفُرِضَ نسقٌ شاملٌ على الضفة الغربيّةِ بأدواتٍ سياسيّةٍ وأمنيّةٍ واقتصاديّةٍ وثقافيّةٍ واجتماعيّةٍ لصرف الجماهير عن مهمتها في مواجهة الاحتلال. ذلك في حين تضيق دائرة التصفيةُ بالقضية الفلسطينيّة، وتتسع دائرةُ التطبيع العربيّ، دون أن تُعيد السّلطة وحركة "فتح" النظر في مسارها، كليّاً أو جزئيّاً، ولو بتفعيل مقاومة شعبيّة واسعة وجادّة، وحينئذ فعلينا أن نتخيل لو كان هذا المشهد هو الذي يعمّ فلسطين كلّها، دون أي فاعلية نضاليّة، تؤكد رفض الفلسطينيين العملي، ومقاومتهم الواقعية.

إنّ المشهد المأمول، لإثبات رفض الفلسطينيين واستمرار كفاحهم، في هيئته المنظمة أو الشعبيّة الواسعة، موجود في غزّة؛ على إشكالاته وتعقيداته وتقييداته، بما في ذلك المقاومة الشعبية، حتى لو كانت لها حيثية خاصّة بقطاع غزّة، فالحصار في النتيجة عمل حربيّ، يستهدف حركة مقاومة، أسرت جندياً إسرائيليّاً، بعد فوزها في الانتخابات التشريعية بوقت وجيز. وفي الأحوال كلّها سيكون مطلوباً من أيّ حركة مقاومة معالجة المشكلات الناجمة عن اصطدامها بالاحتلال، لغايات المقاومة نفسها، ولترميم حواضنها باستمرار، وتعزيز صمود الناس في أرضهم، على أن يظلّ ذلك في الإطار الوطني الكلّي، بمعنى المعالجة من حيثية لا تتحوّل فيها المسألة الموضعية إلى قضية قائمة بذاتها بمعزل عن مشروع التحرير الكلّي.

من الوارد أن يقال، حين الرجوع إلى بدايات اتخاذ قرار دخول الانتخابات التشريعيّة، إنّ سلوك "فتح" كان سيختلف لو أنّ "حماس" سلكت مساراً آخر، وإنّ فشل مشروع التسوية حينها، سيفضي إلى وحدة شعبيّة تنبثق عنها مقاومة واحدة للفلسطينيين. بيد أنّ هذا غير مرجّح، فلا خطاب "فتح" بين يديّ الانتخابات كان يوحي بإمكانية استيعاب "حماس"، أو بناء خيارات سياسية سوى ما هي عليه الآن، ولا الوعي بموقف "فتح" التاريخيّ من "حماس"، وإدراكها لموقعها من السلطة، كان سيؤسس لنمط مختلف من العلاقات الوطنيّة، فقد دفعت "حماس" من قَبْلُ ثمن تأسيس السلطة، ثم ثمن إحجامها عن دخولها، بالحظر الفعليّ من السُّلطة، لولا أن غيّرت انتفاضة الأقصى من واقعها ذاك. وبالضرورة حين تحليل هذه المسألة، يجب ملاحظة التغيرات التي طرأت على "فتح" اجتماعيّاً وسياسيّاً، لاسيّما من جهة قيادتها ونخبتها وعلاقتها بالسلطة ومجتمع المال.

الواقع أنّ "حماس" كانت بين خيارين، الأول: الامتناع عن دخول السُّلطة، وبالتالي أن تضع نفسها تحت سيف شرعية الانتخابات، لاسيّما وهي تملك خياراً مسلّحاً. بهذا الاعتبار لم يكن من المستبعد أن تدخل "حماس" في مواجهة مع السُّلطة وهي، أي "حماس"، لا تملك الشرعيّة الانتخابيّة التي تحوزها الآن، كما أنّ القضية الفلسطينيّة كلّها ستكون تحت رحمة مسار السُّلطة الحالي لو تسلّحت (أي السلطة) حينها بالشرعية الانتخابية. كذلك، ينبغي أن يكون موقف الفاعلين بشأن السُّلطة كلّهم: الاحتلال والإقليم والقوى الدولية وحركة "فتح"، من "حماس" بعد فوزها، مؤشراً على الموقف منها وهي مجرّدة من "الشرعية الانتخابيّة". بمعنى آخر، إنّ إرادة سحق "حماس" كانت حاضرة دائماً.

والثاني: أن تسعى "حماس" لحماية نفسها، وتعزيز خيارها، والمزاحمة بخطاب ومشروع آخر، من داخل الشرعية، التي يراد إقصاؤها بواسطتها. جزئيّاً، تمكّنت "حماس" من ذلك، على الأقل حتى الساعة.

صحيح. لم تقرأ "حماس" سلفاً تداعيات فوزها، وموقف الأطراف المتعددة من ذلك، ولا هي استعدت لتلك التداعيات، كما أنّ الظرف الموضوعيّ وإن ناوأها، فإنّها تتحمل ذاتيّاً قسطاً منظوراً من المسؤولية عن جملة من إخفاقات الإدارة والتسيير على المستوى المباشر مع الجماهير أو على مستوى المناورة السياسية، بيد أنّ العُقدة في الأساس كانت قد أحكمتها "فتح" في وجه الفلسطينيين جميعهم حينما أوجدت السلطة في ظلّ الاحتلال.