17 نوفمبر 2018

الغرفة المشتركة

ذروة العمل العسكري الجماعيّ في غزّة

ذروة العمل العسكري الجماعيّ في غزّة

مثّلت تجربةُ "غرفة العمليات المشتركة"، في جولة التّصعيد الأخيرة في قطاع غزّة، نموذجاً مهمّاً لِما يجب أن يكون عليه العملُ العسكريّ الفلسطينيّ. فرغم التجارب الجيّدة في العمل الفلسطينيّ العسكريّ المشترك، إلا أنّ السّائد أكثر كان توّجه الفصائل المسلّحة نحو الأعمال العسكريّة بشكلٍ منفردٍ.

وعلى الرغم من الروح التنافسيّة التي كانت دارجةً في سنوات الانتفاضة الثانيّة بين الفصائل الفلسطينية، إلّا أنّ هناك بعض الإشكاليات التي أضرّت نوعاً ما بالعمل العسكريّ، بعد أن أصبح في بعض الأحيان أداةً للاستقطاب التنظيميّ. أمرٌ تسبّب في مشاكل مُتكرّرة حول تبني العمليات المسلحة1 ظهرت خلال الانتفاضة الثانية ظاهرة تبنّي عمليات الغير، الأمر الذي تسبّب في إشكالياتٍ فصائليةٍ واسعة، مثل عملية تفجير الناقلة في حي الزيتون في غزّة، التي أدّت إلى تبادل البيانات والاتهامات.، فضلاً عن تبعثر الجهود العسكريّة؛ فأحياناً نجدُ فصائل أو مجموعات عسكريّة تمتلكُ الخبرةَ، ولا تمتلكُ التّسليحَ أو المالَ أو العكس.

"معادلة القصف بالقصف": تعريفٌ أوّليّ للغرفة المشتركة

جرى تداولُ اسم الغرفة المشتركة لفصائل المقاومة على إثر التّصعيد الذي وقع بعد قصف مراصد "كتائب القسّام" و"سرايا القدس" في 20 مايو/ أيّار الماضي، إذ قرّرت حينها الفصائل التّصعيد العسكريّ لتثبيت "معادلة القصف بالقصف"، ومنذ ذلك الحين أصبحت الغرفة المشتركة تتصدّر جولات التصعيد التي تَلَتْ ذلك.

تضمّ الغرفة المشتركة 13 فصيلاً2ذكر هذه المعلومة يحيى السنوار، رئيس المكتب السياسيّ لـ"حركة حماس"، في خطابٍ تأبينيٍّ لشهداء التصعيد الأخير في خانيونس، بتاريخ 17/11/2018.، من ضمنها أهم الفصائل العسكريّة في قطاع غزة: "كتائب عزّ الدين القسّام"، و"سرايا القدس"، و"ألوية الناصر صلاح الدين"، و"كتائب الناصر"، و"كتائب المجاهدين"، و"كتائب أبو علي مصطفى"، و"كتائب المقاومة الوطنيّة"، و"لواء عبد القادر الحسيني"، و"لواء نضال العامودي". أمّا مهمّتها فهي تنسيق المواقف على الصّعيدين الإعلاميّ والعسكريّ فيما يتعلق بإدارة المواجهة مع العدوّ، لتحقيق الأهداف المشتركة للفصائل العسكريّة، على قاعدة "الشراكة في القرار".

بدا واضحاً منذ البدء في تجربة الغرفة المشتركة منذ مايو/ أيّار الماضي وحتى الآن، نجاح التجربة في تصدّر إدارة المعركة، وتحسين مستويات التنسيق وتوجيه النّار وفق متطلّبات الميدان، وذلك على الرغم من الخلل الذي كان على إثر التصعيد المنفرد الذي قامت به "سرايا القدس" قبل ثلاثة أسابيع. في الجولة الأخيرة (نوفمبر/ تشرين الثاني) كان توجيه النيران منضبطاً وموّحداً، وهو ما يعني وجودَ مرجعيّةٍ مشتركةٍ تُنسِّق فيما بينها، وتتخذ قراراتٍ ميدانيّة لها بعدٌ عسكريّ في سياق المعركة، مثل التركيز على قصف عسقلان وغيرها.

ستكون لهذا التنسيق تداعياتٌ كبيرةٌ ونوعيّة في حالة الانتقال من مرحلة تنسيقِ وتوجيهِ النيران الصاروخيّة إلى مرحلة التنسيق العسكريّ والإداريّ واللوجستيّ في المعارك البريّة. أمرٌ سيزيدُ من كفاءة المواجهةِ البريّةِ، ويرفعُ درجةَ الأداء العسكريّ، ويتجاوزُ المشاكلَ التي عانت منها المقاومةُ سابقاً، فيما يخصّ توزيع أماكن التّصدي، وعدم القدرة على تحمّل الخسائر الكبيرة لدى القوّات المواجهة لكلّ فصيل نظراً لاعتماده على قدراته البشريّة في المقام الأوّل. إضافة إلى ذلك، سيساهم العملُ المشتركُ في توفير الجهد المبذول، فبدل أن يَستنزفَ فصيلٌ واحدٌ مقدراتِه، يُوّزَعُ الجهدُ على الجميع، مما يضمن استمرارَ المواجهة أطول فترة ممكن، كما سيُسهِّل عملية التعويض لاحقاً.

إرثٌ سابق: نموذج جنين المُقاوِم

يُعتبر نموذج المقاومة المشتركة في جنين من أهم التجارب العسكريّة المشتركة خلال الانتفاضة الثانية. وعلى الرغم من أنّ هذا النموذج لم يأخذ حقّه في الدراسة والبناء عليه، فضلاً عن عدم تكراره لاحقاً. كان العمل المشترك السِّمةَ الأبرز للأداء القتاليّ في جنين، إذ تجمّع المقاومون تحت هيئةٍ قياديّةٍ مشتركةٍ، ضمّت: محمود طوالبة من "الجهاد الإسلامي"، وجمال أبو الهيجا من "حماس"، وجمال حويل من "كتائب شهداء الأقصى"، وعلي ريحان "أبو جندل" من الأجهزة الأمنيّة. وحسب بعض الروايات فإنّه وقبل حصول المعركة اجتمع قادة "فتح" و"حماس" و"الجهاد" واتّفقوا على تفعيل العمل المشترك لاعتقادهم بحتمية اقتحام جنين. نظراً لكونها مركز ثقلٍ فدائيٍّ خلال الانتفاضة، وأنّ اجتياحها مسألة وقت.

وعلى الرغم من الفارق المهول في التسليح، فمقابل الأسلحة الخفيفة، والعبوات البدائيّة، كانت هناك عشرات المدرعات، وكتيبة من جنود جيش الاحتلال الإسرائيلي، إلا أنّ الأداءَ العسكريّ كان مميّزاً، فقد تكبّد الاحتلال قرابة 23 قتيلاً، وعشرات الجرحى، واستمرت المعركة 12 يوماً، وتمكّنت مقاومة المخيم من صدّ أكثر من 7 هجمات. يعود ذلك في المقام الأوّل إلى التنسيق وتوزيع الجهد والقتال المشترك، وكان من الطبيعي وجود المقاتلين من كافة الفصائل في مجموعات مشتركة.

تجدر الإشارة هنا إلى أنّ القائد علي الصفوريّ من "سرايا القدس" وزّع 20 ألف رصاصة على المقاتلين من كافة توجهاتهم. ولو اقتصرت المواجهة على الطريقة التنظيميّة التقليديّة، لكانت هذه المقدّرات من نصيبِ تنظيمٍ واحدٍ، ولحُرِمَت بقيةُ التنظيمات من الاستفادة منها، ممّا كان سينعكس على الأداء القتاليّ كَكُلّ.

لمعرفة أهميّة نموذج جنين والمكاسب العسكريّة التي حقّقها، بالإمكان مقارنة الأداء العسكريّ في جنين، بالمدن الرئيسة التي تعرّضت بشكلٍ أساسيٍّ لعملية "السور الواقي". ففي نابلس مثلاً، كان الأداء العسكريّ ضعيفاً، نظراً للعديد من الأسباب، من أهمها "صورية العمل المشترك" حسبما أفاد حامد العامودي أحد مقاتلي البلدة القديمة هناك. علماً بأن التقرير التقييمي لـ"الشاباك" عام 2005، تحدّث بأنّ العمل المشترك ازداد بشكل واضح في شمال الضفة الغربيّة على خلاف جنوبها، حيث -أي في الجنوب- تحتفظ الفصائل بقياداتها التنظيمية التقليدية التي تعتمد على العمل السريّ والخاصّ.

العمل الثنائي، الاستشهاد المشترك

في مقابل ندرة تجارب العمل المشترك الجماعيّة، وخصوصاً في الانتفاضة الأولى وحتى أواخر التسعينيات، باستثناء بعض ملامح التنسيق بين مقاتلي الخلايا العسكريّة (كتائب القسام، صقور الفتح، سرايا القدس) أو المساعدة في تجهيز بعض العمليات مثل عمليات انتقام "كتائب القسام" لقادة "الجهاد الإسلامي" هاني عابد وأنور الخواجا، والرواية التي تتحدث عن دور عدنان الغول الفني في المتفجرات التي استخدمها رامز عبيد في عملية الـ"ديزنكوف" سنة 1996، فقد شهدت الانتفاضة الثانية بداية واسعة للعمل المشترك الحقيقي.

تمتلك الانتفاضة الثانيّة سجلاً ممتازاً في الأعمال العسكريّة المشتركة بين فصيلين أو ثلاثة، الأمر الذي انعكس على قوّة تلك العمليات وأدّى إلى تحمّل أكبرٍ لأعبائها. وقد برزت "لجان المقاومة الشعبية" وجناحها العسكري "ألوية الناصر" كأكثر الفصائل المنخرطة في مثل هذا النوع من الأعمال، فمعظم عملياتها الاستشهادية كانت مشتركةً مع فصائل أخرى مثل "شهداء الأقصى" و"سرايا القدس" و"كتائب القسام".

ساعدت على اللجوء لهذا النمط من العمليات، الحاجة الماسّة لتوحيد الجهد لتجاوز الأعباء البشريّة والماديّة للعمليات، وللتوّحد في مواجهة التكلفة السياسيّة مع السلطة خصوصاً، وهو ما عبّر عنه تقرير الـ"شاباك" سابق الذكر بالقول إنّ "العمليات المشتركة تؤدي إلى مضاعفة القوّة التنفيذية، وتعبّر عن وحدة الصفوف ضد إسرائيل والسلطة".

إضافة إلى ذلك، فإنّ للصفات الشخصية لبعض قيادات العمل العسكري، وللعلاقات بينهم، دورٌ في تعزيز العمل المشترك بين الفصائل. يبرز في ذلك جمال أبو سمهدانة وعلاقته المميزة بكلٍّ من محمود الشيخ خليل من "سرايا القدس" ومحمد أبو شمالة، ورائد العطار من "كتائب القسام"، والعلاقة بين فوزي أبو القرع -أحد أهم قادة القسام العسكريين خلال الانتفاضة- وحسن المدهون قائد "كتائب شهداء الأقصى" في الشمال، والعلاقة بين محمود طوالبة وأبو جندل في جنين.

كانت حالة التنسيق حاضرة دائماً وخصوصاً في عمليات مواجهة الاجتياحات، فمثلاً في قطاع غزة كان هناك نوع من التنسيق وأحياناً المواجهة المشتركة لمواجهة الاجتياحات، وكان هذا التنسيق والتعاون يأخذ أشكالاً مختلفة مثل تبادل الخبرات، وتنفيذ عمليات، والإمداد العسكري. لكن كلّ ذلك كان منحصراً في التنسيق الميداني دون أن يصل لمرحلة "الاندماج"، وهو نفس الأمر الذي كان يحصل في شمال الضفة وخصوصاً جنين، وتمثّلت ذروة العمليات المشتركة في عملية الوهم المتبدد في 2006، التي اشتركت فيها "كتائب القسام" و"لجان المقاومة الشعبية" و"جيش الإسلام"، ونتج عنها اختطاف الجندي جلعاد شاليط.

حديثٌ عن الآمال والتوقّعات

رغم حداثة التجربة الميدانية لغرفة العمليات المشتركة، إلّا أنّها حقّقت إنجازاً أوليّاً ممتازاً فيما يتعلّق أولاً بالاتفاق على الفكرة نفسها، وصهر كافة "التناقضات" السياسية والميدانية في جسمٍ واحدٍ. وثانياً للقدرة الجيّدة -بالنسبة لتجربة حديثة- على تنسيق توجيه النيران بشكل يضمن كفاءة أعلى وأدقّ، وهو ما يعني مستقبلاً، فيما لو تم البناء عليه، أن تكون النتائج أعلى بكثير في حالة الدخول في مستوى أعلى من التصعيد، ووصولاً إلى المواجهة الشاملة. لا يصبح حينها الحديث عن القدرة الصاروخيّة لـ"كتائب القسام" باعتبارها القوة الرئيسية الأولى، بل يصبح عن القدرات العسكرية لأربعة أجسام عسكرية رئيسية، وقرابة سبعة أجسام أقلّ منها من حيث القوّة والكفاءة.

المطلب الثاني الذي ينتظر الغرفة المشتركة، يتعلّق بالتنسيق الميداني على مستوى القوّات البرية، ورغم تعقيدات هذا الملف في ظل الاختلافات البنيوية بين الفصائل المسلحة سواء على مستوى التشكيلات أو العقيدة العسكرية، لكنّ مقارنة بالناتج العسكري في حالة حدوثه، فإن هذه القضية تستحق المضي بها وتحقيقها، وهو ما يعني توحيد المجهود الحربي على مستوى السلاح والأفراد والمقدرات في صد أي اعتداء بري -والذي سيكون الحاسم في تحديد نتيجة الحرب-.

يتمثّل المطلب الثالث في الانطلاق من الغرفة المشتركة إلى إيجاد مرجعيّةٍ سياسيّةٍ موّحدةٍ، تتفق على الأهداف التكتيكية والاستراتيجية للمقاومة الفلسطينية. وقد بدا أنّه من الممكن الوصول لهذه الحالة، من خلال قراءة تجربة "الهيئة العليا لمسيرات العودة وكسر الحصار" -وتتكون من الفصائل الأربعة الكبرى باستثناء "حركة فتح" علماً بأن الأجنحة العسكرية للفصائل هي جزء من الغرفة المشتركة، وهو ما يعني توسيع الحاضنة الشعبية للمقاومة، إذ أنها ستتوّسع لتشمل الحواضن الصلبة لكل فصيل.

على أية حال، فإنّ غرفة العمليات المشتركة تشكل إضافةً كبيرةً للمقاومة الفلسطينية، وتعكس وعي المقاومة بأهمية الاشتراك في القرار وتنسيق المواقف. ورغم التعقيدات المتعلقة ببعض الجوانب، والتي ليس من السهل الوصول إليها وخصوصاً على مستوى التنسيق البري، إلا أنه من الضروري الحفاظ على درجةٍ عاليّةٍ فيما يخصّ التنسيق السياسيّ والإعلاميّ، بما يضمن توزيع الأعباء بشكلٍ فعال، ويوّسع من الحاضنة الشعبية للمقاومة.



8 مايو 2020
سيرة استنزاف الصحّة في غزّة

رغم أنّ عدد الإصابات بفيروس "كورونا" في قطاع غزّة لا يزال منخفضاً، وأنّ أغلبها إصاباتٌ محصورة في القادمين من خارج…

14 نوفمبر 2023
اليوم 39: إنّ مع العسر يُسرا

تجاوز عدد الشهداء الـ 11500 شهيد، وتجاوزت الإصابات الـ 29 ألف إصابة. كلّ دقيقة تمرّ، هي في غزة دهر كامل.…