10 مايو 2020

الحرب على رواتب الأسرى.. القصة أكبر من حسابات بنكية!

الحرب على رواتب الأسرى.. القصة أكبر من حسابات بنكية!

لا ينبغي لأحدٍ أن يتفاجأ من قرار بعض البنوك العاملة في مجال السّلطة الفلسطينيّة بإغلاق حسابات الأسرى الفلسطينيّين وذويهم، بذريعة قرارٍ عسكريٍّ إسرائيليٍّ يعدّ رواتب الأسرى "مدفوعات محظورة"، ويهدّد بإجراءات ضدّ البنوك التي تُحوَّل رواتب الأسرى إليها، فلا جديد في هذا المسار المتصاعد في استهداف الأسرى. وإذا كان القرار الأخير، جاء في صورة إجماعٍ بين البنوك وفوريّاً وحاسماً، وقد خفّف من حدّته إرجاءُ السّلطة تنفيذه إلى ما بعد الخروج بتوصيّات لجنة شُكّلت لمعالجة الأزمة، فإنّ القرار ماضٍ منذ أكثر من سنتين في بعض البنوك، هذا فضلاً عن سابقة الاحتلال في الاعتداء على بعض البنوك ومصادرة حسابات بعض الأسرى فيها، بيد أنّ المفاجأة منفيّة باعتبار سياقٍ أكبر من هذه السوابق التاريخيّة.

مساران للمصادرة: من البلاطة وحتّى الراتب

بدأت ملاحقة مخصّصات الأسرى التي تصلُ حساباتِ ذويهم البنكيّة من تنظيماتهم وفصائلهم، من بعد انتفاضة الأقصى، والتي مثّلت ملحمةً غير مسبوقة في الصراع مع الاحتلال، والذي تعامل معها بدوره بجدّية بالغة عدّها فيها امتداداً لـ "حرب الاستقلال". منذ ذلك الحين، عمل الاحتلال على مسارين، لتحطيم واحدة من دعائم تعزيز صمود الفلسطينيّين والحفاظ على حدّ معقول من ديمومة نضالهم، في واقعٍ فلسطينيٍّ ضيّقٍ ومحاصر، ويفتقر دائماً لاعتبارات موضوعيّة تساعد في الاستمرار الذاتيّ بوتيرة واحدة مرتفعة من النضال.

المسار الأول، فيزيائيٌّ مباشر، يمسّ الأسرى في معيشتهم داخل السجون، ويعتمدُ على مصادرة إنجازاتِهم التي من شأنها أن تخفّف من الآثار الاعتقالية على إراداتهم النضاليّة. ولم يكن إخراج المعتقلات التي بلغت فيها إنجازاتُ المعتقلين ذروةً غير مسبوقة، من مسؤولية الجيش إلى مسؤولية مصلحة السّجون، إلا خطوةً في اتجاه السحب المكثّف لإنجازات المعتقلين، ومعالجة إشكالية عودة المعتقلين أنفسهم إلى السجن، بمعنى اكتشاف الاحتلال أنّ السجن لم يعد رادعاً لشريحة واسعة من منتسبي بعض الفصائل الفلسطينيّة، ولاسيما فصائل المقاومة.

استفاد الاحتلال لإنفاذ مساره الأول، من الطغيان الملحميّ للانتفاضة الذي ضيّق من هوامش الاستجابة الجماهيريّة لأيّ فعاليّة نضالية داخل السجون. ثمّ استفاد من تغيّر تركيبة المعتقلين والمُترتبة على اجتياح المدن والمُفضية إلى فوضى وارتباك في صفوف الأسرى في المراحل الأولى، ثمّ إلى تغيّر التمثيل الاعتقاليّ على نحو أكثر استجابة لمطالب السلطة الفلسطينيّة في الخارج. ثمّ استكمل خطّته، باستثمار التراجع المستمرّ في قوّة الحركة الأسيرة، وانقسامها بعد الانقسام الفلسطيني، لا بين "فتح" و"حماس" فحسب، بل وحتّى داخل "فتح"، كما كشف الإضراب عن الطعام الذي قاده القائد الفتحاوي الأسير مروان البرغوثي عام 2017  ولم يلتحق به شطر كبير من الصفّ الفتحاوي داخل الأسر.

أمّا المسار الثاني، فهو خارج حيّز السجن، ولكنّه لصيقٌ بِهمِّ الأسير الأكثر إلحاحاً، أيْ طمأنينته تجاه الاستقرار الاقتصاديّ لعائلته، فقد بدأ الاحتلال باستهداف حوالات فصائل المقاومة لحسابات أهالي منتسبيها من الأسرى. ومنذ ذلك الوقت، صارت مخصّصات أسرى فصائل المقاومة من فصائلهم قضيّةً بالغة الخطورة والصعوبة، وتحوّلت إلى مهمّة نضاليّة سرّية محفوفة بالقلق والخوف، من حيث تنفيذها، فإدخال مخصّصات أسرى فصائل المقاومة شبه محال. ومع الانقسام الفلسطيني زادت الجهات التي تلاحق مخصّصات الأسرى في الضفّة الغربيّة، وبات الأسير المحرّر أو أهل الأسير يدفعون ثمناً مُكلفاً بالاعتقال والغرامات جرّاء محاولتهم إدخال مخصّصات الأسير.

السلطة تستجيب للضغوط الإسرائيليّة

استثمر الاحتلال أحداثَ 11 سبتمبر/أيلول المُتزامنة مع انتفاضة الأقصى، والأنظمة العالميّة الصارمة في مراقبة الحوالات الماليّة بحجّة "الحرب على الإرهاب"، في الفتك بالعصب الاقتصاديّ للأسرى وذويهم. واستجابت البنوك العاملة في مجال السلطة الفلسطينيّة لذلك، ودخل الفلسطينيّون بدورهم في منظومةٍ قاسيةٍ من الرقابة الماليّة تُضعِفُ من صمود الفلسطينيّين عموماً، وهو أمر تفاقم بعد الانقسام الفلسطينيّ، وتجاوز في آثاره المزعجة حركة "حماس" أو فصائل المقاومة، إلى عموم الفلسطينيين.

أمّا الرواتب التي تدفعها السلطة الفلسطينيّة للأسرى، فقد أخذت تتبلور في سلسلة قوانين من بعد العام 2004، وصولاً إلى قانون في العام 2013 يمنح راتباً شهريّاً للأسرى المحرّرين وفق عدد معيّن من سنوات الاعتقال، إضافة إلى ما يُمنح للأسير داخل سجنه، ضمن حزمة امتيازات أخرى للأسرى. إلا أنّ هذا الراتب لم يكن لينجو من ملاحقة الاحتلال، ومن الوقوع في فخّ السياسات المزدوجة للسلطة الفلسطينيّة، فسوف ينظرُ الاحتلالُ لرواتبِ الأسرى التي تدفعها السّلطة، كما تنظر السّلطة لمخصّصات الأسرى التي تدفعها حركة "حماس" مثلاً!

عمل الاحتلال على تحطيم الروافد الاقتصاديّة للأسرى، والتي منها الرواتب المقدّمة من السلطة الفلسطينيّة، بالضغط المباشر على السّلطة بابتزازها بأموال الضرائب التي يجبيها لصالح السلطة (المقاصّة)، واقتطاع قيمة مخصصات الأسرى وعوائل الشهداء منها. كما استهدف الاحتلال البنوك مباشرةً، وهو استهدافٌ أخذ أشكالاً متعدّدة متدحرجة من الاقتحام المباشر والمصادرة، إلى المقاضاة كما في حالة البنك العربي مع القضايا التي رفعها عليه إسرائيليون في الولايات المتحدة، وأخيراً بالقرارات العسكرية التي تخاطب البنوك مباشرةً.

اقرأ/ي المزيد: "البنك العربي.. إقصاء الأسرى ودعاوى مكافحة "الإرهاب"".

في المقابل، وفي حين أبدت السّلطة ممانعةً لقرارات الاحتلال في صيغتين، الأولى عمليّة باستمرار دفعها رواتب الأسرى، والثانية خطابيّة بتأكيدها على هذا الالتزام، فإنّها في الوقت نفسه قطعت رواتب عدد من أسرى حركة "حماس"، وقلّصت رواتب أسرى قطاع غزّة بمن فيهم أسرى من حركة "فتح"، وامتنعت عن دفع الرواتب لعدد من أسرى "هبّة القدس" وما تلاها من عمليات. وعلى صعيد المؤسسات، حلّت السّلطة وزارة شؤون الأسرى وحوّلتها إلى هيئة، وقلّصت من عمل نادي الأسير، وصولاً إلى تراجعها مؤخراً عن قرارها بعدم استلام أموال المقاصّة التي صادر منها الاحتلال قيمة مخصّصات الأسرى. وتلك سلسلة إجراءات لا يمكن فهمها بعيداً عن ضغوط الاحتلال، والتي تطال مخاوف السلطة الوجودية بالضغط القاسي على عصبها الاقتصاديّ.

تدجين لأجل "الدولة"!

لم تكن استجابة السلطة النسبيّة لتلك الضغوط وحدها ما شجّع الاحتلال على الاستمرار في حملته الرامية إلى تحطيم مقوّمات صمود المناضلين الفلسطينيّين، فالشلل إزاء مخطّطات تصفية القضية الفلسطينية مؤخراً، تجعل من رواتب الأسرى تفصيلاً في مجمل تلك المخطّطات، فبالرغم من سلسلة التهديدات والقرارات الأخيرة بالكفّ عن تنفيذ الاتفاقات الموقّعة مع الاحتلال، أو بإطلاق مقاومة شعبيّة، فإنّ شيئاً من ذلك لم يحدث، وإنّما الضدّ ظلّ سيد الموقف، أيْ التعايش، والمساكنة الضمنيّة مع هذه المخطّطات.

إزاء هذا الموقف الخطير، لا بدّ من التقدّم بسؤالين، الأوّل عن قصد الاحتلال اللحوح بتصفية مقوّمات صمود الأسرى وأهاليهم، والثاني عن موقع المنظومة الفلسطينيّة السياسيّة والحزبيّة من ذلك.

بالنسبة للسؤال الأوّل، تبدو الإجابة بدهيّة، منبثقة عن كونه عدوّاً، يفعل ما ينبغي عليه فعله من تحطيم معنويات أعدائه وتصفية مقوّمات صمودهم. مع ذلك، يمكننا تقديم إجابات أكثر تحديداً، باستطاعتنا تلخيصها في أنّ الاحتلال، وفي لحظة تاريخيّة مركّبة من شلل الفاعلية الفلسطينيّة، وبلوغ الانهيار العربيّ القاع، والاستثمار المحموم للحظة ترامب، يريد تصفية الوجود السياسيّ للفلسطينيين وتحويلهم إلى كائنات تابعة، أو بكلمة أخرى، إلى وجود مخصيّ في خدمة الاحتلال، وعلى ذلك فتصفية مقومات صمود الأسرى، جزء من مخطّطات ضمّ الضفّة الغربيّة.

اقرأ/ي المزيد: "من يطرق باب العائلة عندما يُغلق باب الزنزانة على ابنها؟".

حين النظر إلى خطّة ترامب، المسماة إعلاميّاً "صفقة القرن"، يُلاحظ أنّها تنصّ على بقاء الأسرى في الاعتقال، واحتفاظ الاحتلال بقدرته على نصب الحواجز، واقتحام المدن وممارسة عمليات الاعتقال، وأنّ تخفيف إجراءات من هذا النوع، محكوم بتنفيذ "الدولة الفلسطينيّة" الموعودة لالتزاماتها الأمنيّة في خدمة الاحتلال. هكذا بكلِّ وضوح! فإذا كان هذا هو تصوّر الاحتلال للحلّ النهائي، فإنّ هذه هي ممارسته المؤكّدة قبل الوصول إلى هذا الحلّ، الذي لا يزيد على الوضع القائم إلا شرعنتِهِ بانتزاع قبول به، رسميّ ودائم، من الفلسطينيّين، ثم منح سلطتهم اسم دولة!

إذن فتصفيةُ مقوّمات صمود الأسرى وأهاليهم، وبالإضافة إلى طبائع الصراع نفسه، وطبيعة العدوّ نفسه، تندرج في خطّة، تتطلب التدجين الكامل للوجود الفلسطينيّ. وهو الأمر الذي يُذكّر بالسياسات التي مورست على الفلسطينيّين في السنوات الأخيرة، على الأقلّ من بعد الانقسام، والتي صُبّت في صورة جملة من السياسات الثقافيّة والاقتصاديّة والأمنيّة والاجتماعيّة والسياسيّة، لتحييد الجماهير عن دورها الطبيعيّ في مقاومة الاحتلال، وتبديل أولوياتها، وإغراقها في أنماط معيشة تتعارض بالكليّة مع واجبها في مواجهة الاحتلال. وكان من ضمن تلك السياسات تحطيم الحركة الوطنيّة، وتصفية فصائل المقاومة، وتغييب منابر الخطاب الوطنيّ التعبوي، وإخضاع الجماهير للمنظومة الاقتصاديّة المشروطة بالسلام الاقتصاديّ، وتقديم الخصومة الداخليّة على الصراع مع الاحتلال، ثمّ الاكتفاء بإدارة التسيير السلطويّ دون أفق سياسيّ، وهي إدارة مشروطة كذلك بالشرط الإسرائيلي.

من تحطيم الصمود إلى تحطيم الوعي

خلاصة ذلك أنّ السياسات التي ارتضتها المؤسسة الفلسطينية الرسميّة، ممّا سبق عرضُ جانبٍ منها، تلتقي في النتيجة مع قصد الاحتلال من استهدافه لرواتب الأسرى، لأنّها بالنسبة للمناضل وأهله من مقوّمات الصمود، لا من مقوّمات الرفاه الذي يندرج في رؤى السلام الاقتصادي، وهكذا يراها الاحتلال. وكلّ سياسات التدجين، تهدف إلى تحطيم مقوّمات النضال، فالوجود الفلسطيني مع استمرار الاحتلال ينبغي أن يكون وجوداً مناضلاً، وكلّ ما يمسّ قدرات النضال، يتفق في الشكل والنتيجة مع المسّ برواتب الأسرى.

المسألة بالنسبة للاحتلال، ليست عملياتيّة فحسب، أيْ أن أهدافه لا تقتصر على تحطيم أسباب الصمود، وإنما تتجاوز ذلك إلى تحطيم الوعي الفلسطيني وتغييره تماماً، فمجرد منح الأسير راتباً، هو مكافأة له على نضاله، وتبنٍّ لمنطلقاته وغاياته وأساليبه، وهذا لا يتفق مع الشعب المدجَّن المصفّى سياسيّاً بلا هوية وطنية ولا مشروع سياسي ولا ذاكرة كفاحيّة. 

ولا شك، أنّه لا يمكن لفلسطيني، أن يقبل هذه الدرجة من التدجين، إلا أنّ المشكلة في التعاطي النسبيّ مع التدجين، أي قبول التدجين العمليّاتيّ بالكفّ عن النضال والغرق فيما يناقضه وإرجاء الصراع مع الاحتلال أو نفيه لصالح مساكنة تتحلّى بكلاشيهات وطنيّة، حتّى وهي كلاشيهات، لا يريدها الاحتلال!

وإذ كانت السياسات المشار إليها بدأت بعد الانقسام، فإنّ جوهرها كامن في فكرة تقديم الدولة على النضال، في عالم مختلّ الميزان لصالح الاحتلال، فقد وجدت السلطة نفسها مشروطة بقدرة الاحتلال على كلّ شيء، حتّى في تحصيل ضرائبها، وفي السيطرة على البنوك العاملة في مجالها. وإذا كانت المؤسسات الاقتصادية والأمنية في أيّ بلد في العالم تؤوب في النتيجة إلى مرجعية عالمية واحدة، تمسك خيوط العالم، وهي في الأصل، عدوّ قضيتنا، فإنّ الأمر سيكون أسوأ في حالتنا الفلسطينية، ما دمنا نعاني الاحتلال المباشر وندير سلطتنا، أو "دولتنا" في ظل قدراته المطلقة!

اقرأ/ي المزيد: "في طريقها للحلّ؟ عن قضية الأسرى المقطوعة رواتبهم".

لا تتوقف المشكلة ذاتيّاً على فكرة وجود السلطة ثمّ على سياساتها، فقضيّة تعزيز صمود الفلسطينيين في الضفّة الغربيّة غائبة عن فعاليات الفصائل الفلسطينية، ممّا ترك الفلسطينيين نهباً لتلك السياسات المشار إليها، وللمؤسسة الاقتصادية الخادمة في النتيجة لرؤية السلام الاقتصادي، أو لمنظمات المجتمع المدني المموّلة غربيّاً والحاضرة في السياق نفسه. وبالرغم من أنّ المسؤوليات عن الكارثة لا تتساوى بالتأكيد، هذا فضلاً عن الظروف القاسية التي تعمل بها الفصائل الفلسطينية، إلا أن سؤال تعزيز صمود الناس في الضفّة، من أهمّ الأسئلة التي تبدو غائبة عن برامج الجميع.



8 ديسمبر 2023
اليوم 63: بدلاً من تحريره قتلوه

في خانيونس جنوباً، وفي جباليا والشجاعية وبيت لاهيا شمالاً، تجري أعنف المعارك بين المقاومة والجيش الإسرائيلي. تستهدف القسّام وسرايا القدس…