7 يونيو 2024

 خِربَة الطْوَيِّلْ.. تِلالُ الشَّفَا التي تَحرُسُ  السُّهول

 <strong>خِربَة الطْوَيِّلْ.. تِلالُ الشَّفَا التي تَحرُسُ  السُّهول</strong>

خلال الرُّبع الأول من هذا العام قدَّمت خِربَة الطْوَيِّلْ، الواقعة في منطقة شفا الغور جنوب شرق نابلس، ثلاثةً من أبنائها شهداء في سبيل الدّفاع عن الأرض ومنعاً للمستوطنين من اقتحام سهول الخِربَة وإتلاف المحاصيل الزّراعية. 

كان أولهم الشاب فاخر سيلم بني جابر الذي قُتِل في التاسع عشر من آذار/ مارس الماضي أمام خيمته في خربة الطويّل. ثُمَّ تَعرضَت الخربة لاقتحامِ عَشراتِ المُستوطنين المسلّحين، تحت حمايَة الجيش في الخامس عشر من نيسان/ أبريل، وتعمدوا إطلاق النّار بشكلٍ مباشر على الأهالي، الذين بدورهم حاولوا التصدي لهم ولأبقارهم التي جاءوا بها لترعى في سهول الخربة المزروعة. أسفرت هذه المواجهة عن استشهاد شابين من المدافعين عن أراضي الخربة؛ عبد الرحمن ماهر بني فضل ومحمد إبراهيم بني جامع.

كانت المواجهات الأخيرة بمثابة ترسيمٍ بالدم للحدود في شَفا الغور، فقد تقدّم هؤلاء الشباب نحو الفعل رفضاً لعدوان الاحتلال المُسلّح بالبطش والإرهاب، فدفعوا الثمن من دمهم كي لا تُسلب أرض شفا الغور منهم، وكي يحولوا دون التّفريط بها. وهذا يضع المسؤولية على أصحاب الأرض والأهالي والناس من حولهم للعمل على صون مواضع دم الشهداء وحمايتها ورفع شأنها بالإعمار، وتجذير الصمود وتعزيزه شعبياً وسياسياً ووطنياً، خاصّةً في ظلِّ الخذلان والإهمال من سلطة التنسيق الأمنيّ. 

"أوّلُ الشَّفا.. إطويّل الأرض"

شَفَا الغور أو السفوح الشرقية، حيث تقع خربة الطويل، هي قاع الكَتِفِ الشَّرقي لِسلسلَة الجبال الوسطى، وهي أراضٍ مُنحدرة بِمَيلانٍ حادٍّ نحو مُنْبَسَطِ وادي الغَور، وتمتدُّ على مساحةٍ جغرافيّةٍ واسعةٍ تبدأ شمالاً من شرق محافظة جنين وتمضي جنوباً حتى البحر الميت بمساحةٍ تبلغ مليون دونم ونصف. وهي منطقة شبه جافَّة وأمطارها قليلة، وانحدارها كبير، ولأنها واقعة بين الأغوار المنحدرة والجبال المرتفعة فإنَّ مناخها معتدلٌ صيفاً وشتاءً، كما إنّ لِمَوقِعها المُشرف على الأغوار أهميةً بالغة. 

ولبلدة عَقربا من مَنطقة شَفا الغَور حُصَّةٌ كَبيرة، تَبدأ شمالاً من خربة أبو الجَرايِشْ  بالقرب من نَبع الجّهير (إجْهير العَقاربة)1الجَّهير: نبع ماء في أقصى شمال  شرق أرض عقربا، والتسمية شائعة لكثير من عيون الماء للقرى الفلسطينية، ذلك أنها مرتبطة بجهير صوت المنادي وصراخه الذي يُسمع إذا صاح من القرية حتى أبعد نقطة من أرضها، وقيل إنما سميت العيون جهيراً لأن الناس حفرتها حتى بلغت الماء (فَجَهَرَ) بمعنى ظهر الماء. وَتَمتَدُّ جنوباً حتى منطقة خُزاعة في سهل السِّدور، وتميلُ من هناك جنوباً مع أراضي قرية مجدل بني فاضل الغورية حتى نبع الجّهير (إجْهير المَجادلة) مُشَكِّلَةً بذلك نِصفَ قَوسٍ دائري يتَّجه إلى أقصى الشمال الشرقي حتى سفوح جبال قرية يانون شَمال عقربا.

المنازل القديمة في خربة الطويل.

وَتضمُّ هذه المنطقة التابعة لعقربا عدَّة تجمّعاتٍ متناثرة على تلال متباعدة، ولذلك كانت تَسميتها القديمة "تلال الخَشَب"، ذلك أنّها سلسلة تلالٍ أثريّة جرداء تتخلّلها سهولٌ زراعيّة مُمتدة بشكلٍ طولي، وتنتشر على أطرافها خربٌ قديمة وآبار ومعاصر وبقايا مبانٍ من فترات وعصور متفاوتة.

وعن تسميتها بـ "إطويّل" نسبةً للخربة الواقعة في طرف المنطقة الشرقي، قيل لأن السّهول فيها مُمتدة بشكل طُولي، وطول مَوارس الأرض فيها ضعف طولها في غيرها من الأراضي، وقيل إنّما سُمّيت بذلك لأنها ترتفع عَمّا دونها من أرض الغور، ولذا قيل عنها (إطويل) أي الأطول ارتفاعاً عمّا ينخفض حَولها من الأرض2بناء على معلومات قدّمها الحاج جميل هلال لافي (1929- 2015)، في مقابلة أجراها الكاتب معه بتاريخ 5/4/2010..

قبل مجيء الغريب: عن الزراعة والرعي في الخربة

تترَبَّعُ خربة الطويل على مساحة تقدر بـ (40) ألف دونم شاملة السّهل والوعر، وهي ما تبقى من أرض عقربا الغورية بعد مصادرة أكثر من 60% من أرضها في الغور، وتَشمَلُ خربة الطويل عِدّة تَجمّعات سُكانية مُتباعدة وفقَاً لنمط الحياة والمعيشة والمعروف بـ (العِزِبْ \ التَّعزيب)، والمنطقة مأهولة وَمسكونة وَفيها استقرارٌ سكانيٌّ ثابت.

كانت الحياة في منطقة الطوَيّل تعتمد على موسمي زراعة ورعي، وهما الموسم الشتوي والموسم الصيفي، ففي الموسم الشتوي تُزرع سهول الخربة بالقمح والشعير والذرة بدرجة أولى، وتبقى العائلات المستقرة فيها، وهؤلاء لهم بيوت من حجر (سَكايف) بجانبها مُغُرٌ وعُرقانٌ كبيرة.

جزء من سهول خربة الطويل في فصل الربيع.

وفي الموسم الصيفي الذي تُزرَع فيه سهول الطويل ببعض المقاثي يأتي إلى المنطقة الغَنّامةُ من أهالي عقربا، ويكون برفقتهم بعض عُربان الغَور ممن تربطهم علاقة مع العقاربة، مثل عَرب المَساعيد من الجفتلك، وَعَرب الصَّعايدة من العوجا، وعرب الحَناحنَة وَعَرب خُزاعَة، وَمَرَدُّ ذلك أنّ هذه العَشائِر كانت داخِلَةً في حِلفٍ يُسمّى: "حِلف الغور"، تتشارك بموجَبِهِ في المرعى وحماية الأرض وَ"رَدِّ القَشْطَة"3رَد القَشْطَة: القَشْطَة من التقشيط أي السَّرقة والنَّهب، إذ كانت هذه العشائر تتعاون في منع السَّرقة والتقّشيط في حدود أراضها في الغور، وتتعهد بالتعاون لإرجاع ما يُسلب في حدود مراعيها، وهذا الحلف مقتصر على صف اليمن من العشائر العربية في الغور والشّفا، ويدخل فيه بالإضافة لهذه القبائل البدوية وعشائر العقاربة أهالي طوباس "باستثناء الضَّراغمة"، وطمون "باستثناء البشارات"، وكان هذا الحلف قد خاض في القرن التاسع عشر حروباً ضد صفّ القيس..

رشّ القمح كإعلان حرب

في الأشهر الأولى لاحتلال الضفّة الغربيّة عام 67 أعلنت سلطات الاحتلال بأن المناطق المحاذية لنهر الأردن "الشّريعة" والبالغة مساحتها 400 ألف دونم "مناطق عسكرية مُغلقَة"4راجع: وادي المالح: ذاكِرَة الإنسان والمَكان في الأغوار الشمالية، حمزة العقرباوي، نشرة مسار فلسطين التراثي 2024، ثم تَوَّجت جهودها بقرار مصادرة الأراضي ضِمنَ ما يُعرف بقانون أملاك الغائبين. لم يَطل الأمر حتى تُوّجت هذه السياسات بإقامة عَشرات المواقع العسكرية، والتي عَملت على ملاحقة الوجود الفلسطيني بالقُوّة في الأغوار، وكان من هذه المعسكرات: الجفتلك، سد حريز، كرزليا، والتي أقيمت على مواقع كانت للجيش الأردني قبل العام 675بناء على معلومات الحاج حسن أحمد  ابو ناصر (1917-2013)، في مقابلة أجراها معه الكاتب بتاريخ: 24/8/2007.

اتبعت سلطات الاحتلال سياسة صارمة ضدّ الأهالي وتجمعاتهم الموسمية وقراهم الناشئة (العِزَبْ) في الأغوار، فاقتلعت وهجّرت عشرات التجمعات الواقعة غرب نهر الأردن، إذ دمَّرتها الدبّابات والمُجنزرات العسكرية، وأجبرت أصحابها على المغادرة خلال السنوات الأولى للاحتلال.

وفي 17 نيسان/ أبريل 1972م رشّ  جيش الاحتلال القمح المزروع في خربة الطويل بالمُبيداتِ الكيماوية السّامة، الأمر الذي أدّى إلى يَباس حقول القمح، فَخَسِرَ المُزارعون حقولهم وَنَفَقت بَعض أغنامِهم التي تَجَرأَت على الأكل مِن القَمح المَسموم6بناء على معلومات  الحاج  نافز ناصر بني جابر مواليد 1938م، في مقابلة أجراها معه الكاتب بتاريخ 15/11/2021. 

كانت هذه الجَريمة فاتحة التَّحول في الصّراع على السّفوح الشّرقية، إذ مَضَت دَولة الاحتلال من تلك اللحظة في سياساتها التّوسعية للسّيطرة على شَفا الأغوار من خلال إقامة معسكراتٍ للجيش وأبراجٍ للمراقبة ونقاطٍ عسكريّة، ثم مستعمرات استيطانية، بدأت بمستعمرات جيتيت عام 1972، لتبدأ بذلك سلسة المستعمرات في الأغوار وشفا الغور ومنها على أراضي بلدة عقربا: بتسائيل 1972، جلجال 1973، مخورا 1973، شلومتصيون 1977، تومر 1978، يافث 1980، هتيف جدود 1975. وأقيم على أراضي قرية المجدل المجاورة: مستعمرة معاليه افرايم 1978. ثم بدأ الاستيطان ينتقل إلى الجبال العالية التي تشرف على الأغوار فأقيمت مستعمرة مجدوليم 1983، ومستعمرة ايتمار 1983. 

الجرافات: زائر مقيم في الخربة

ومع بداية هذا الاستيطان، بدأت حالة المواجهة والاشتباك بين الفلاحين والمشروع الاستعماري في خربة الطويل، إذ عمل جيش الاحتلال على إخلاء المناطق الشرقية بالكامل من التجمعات الثابتة، وترَكّز التّواجد والصراع في خربة الطويل ومنطقة إفجم. وكان جيش الاحتلال مصحوباً بالمؤسسات الاستعمارية كالإدارة المدنية والتنظيم والبناء، يُلاحق النّاس يومياً ويطاردهم لإجبارهم على التَّخلي عن منطقة شَفا الغور، وكانت عمليات الهدم والتجريف والمصادرة والحجز تتم وفق إخطارات وقرارات عسكرية بشكل دائم حتى العام 2006.

في بداية العام 2007 سلّم جيش الاحتلال منشآت خربة الطويل وبيوتها وآبار الماء والمسجد الوحيد فيها إخطارات هدم بحجة أنها مقامة في مناطق تدريب عسكري، ثم تلاحقت الإخطارات بهدم وإزالة كل شيء في الخربة، الأمر الذي لم تؤجله وتمنعه الإجراءات القانونية المعمول بها لدى سلطات الاحتلال، إذ باشر الجيش عمليات التجريف والهدم لمنشآت الخربة عصر يوم الخميس ما يعني استحالة إيقاف الجريمة قانونياً لانتهاء الدوام في الدوائر الرسمية، وفي بعض الشهادات أنّ الهدم وقع في ساعات الفجر الأولى دون وجود قرار من المحكمة بذلك.

أحد أهالي خربة الطويل يتفقد أنقاض منزل بعد أن هدمه جيش الاحتلال في 29 أبريل 2014. (تصوير: وكالة فرانس برس/جعفر اشتية)

وفي المُحصلة كانت الأعوام بين 2013-2015 هي الأكثر هَدمَاً وَتغييراً لشكل الحياة في خربة الطويّل، إذ  هدم جيش الاحتلال عام 2014 مسجد الخربة وسوّاه بالأرض، كما اقتلع شبكة المياه من الأرض، وقطّع أعمدة الكهرباء، وهدم عشرات البيوت والبركسات وآبار الماء. وبعض البيوت التي هُدمت يزيد عُمرها عن 100 عام.

امتدت الهجمة الاستعماريّة في شفا الغور لتطال التَّجمعات في منطقة إفجم والجهير والدوا ويانون، ومنذ 2015 تقريباً حتى اليوم تعرضت المنطقة لعمليات هدم جزئيّ أو كليّ بمعدل مرتين سنويّاً. وبحسب رئيس بلدية عقربا، صلاح بني جابر، هدم الاحتلال 24 منشأة خلال العامين الأخيرين فقط.

الأبقار.. جرافة من نوع آخر

واستمراراً لسياسة الاحتلال في محاولة السيطرة على السفوح الشرقية وإخلائها من أصحابها فقد نشطت ظاهرة الاستعمار الرَّعوي خلال الأعوام الثلاثة الماضية، فطُوِّقت خربة الطويل ببؤر رعويّة، ودخل المستعمرون الرّعاة على خطّ المواجهة المباشرة إلى جانب جيش الاحتلال الذي كان يَتذرّع بملاحقة الوجود الفلسطيني على اعتبار سهول الخربة مناطق عسكريّة، في الوقت الذي صار يُبيحُها للمُستَوطنين وأبقارهم وأغنامهم ويوفّر لهم الدعم والحماية في مواجهة أصحاب الأرض وملاكها.

ناهيك عن حجز الرعاة ومصادرة المعدات، وسرقة الأغنام وتخريب الممتلكات، وإقامة معسكر تدريب مدفعية سنويّاً يُقيمها الاحتلال لعدة أيام، ويدفع بعشرات الدبابات نحو السهول المرزوعة بالقمح، ويمنع الرعاة من الخروج من منازلهم أو التحرك في المنطقة. وخلال هذا التدريب يتعمد إتلاف المحاصيل الزراعية بحجة أن هذه الأراضي مُصنّفة كمناطق تدريب عسكري.

وخلال الأشهر الأخيرة سُجّل (73) اعتداء من المستوطنين، بالإضافة إلى (939) حالة سرقة لِمَعدّات ومواشي وثمار، وأُتلفت (273) دونماً مزروعة بالمحاصيل عَبرَ رَعيِهَا بواسطة أبقار المُستوطنين المُقيمن في البؤر الرّعوية7بلدة عقربا ما بين تحديات الاستيطان وواجب الصمود 2022- 2024. تقرير رئيس بلدية عقربا  أ. صلاح الدين جابر. إضافةً إلى عشرات حالات المضايقة واقتحام الخربة اليومي وترويع الأهالي بحجج غريبة، كل ذلك بحماية الجيش الذي لا يتردد في استخدام القوة وإطلاق النار بهدف القتل المباشر.

لا يبقى في الواد غير حجارته

هكذا، أصبحت خربة الطويل واقعة داخل دائرةٍ استعمارِيّة شبه مُغلقة تُحاصِرها مِن ثلاث جِهات، ففي الجهة الشّمالية تسيطر مستعمَرَةُ "ايتمار" والبُؤر الرّعَوية المتولدة عنها على طول التلال والجبال وصولاً إلى سهل إفجم في المَنطقة الشَّرقية من شَفا الغور، ومن الجهة الشّرقية تُسيطر مُستَعمَرة "جيتيت" على الحدود وتمتدُّ إلى أَقصى الجنوب الشَّرقي من خلال البؤر الرّعوية التي أقيمت جنوب المستعمرة، ومن الجهة الجنوبية يحدّ الخربة الشارع الاستيطاني وحاجز جيش الاحتلال.

إلا أنّ التّعويل على بقاء الحياة نشطة وَمُستَمرّة في السّفوح الشّرقية وخربة الطويل، رغم كل هذه التضييقات، مستندٌ إلى صخرة صلبة، هي إيمان أصحاب الأرض بِحَقِّهم وصمودهم من دافعٍ داخلي، لأن القُدرَةَ على المُواجهة ودفعِ الثَّمَنِ بِشَكلٍ يَومي أمرٌ لا يَقدِرُ عليه إلا المُؤمنون بِحَقهم، ذلك أنه لا يبقى في الواد غير حجارته. 

وقد بقيت السّفوح الشرقيّة بتلالها وسهولها صامدةً تصارع للبقاء 55 عاماً، وما زالت فيها إلى اليوم ما يقارب 25 عائلة، تحمّلوا خساراتٍ كبيرة، وقدّموا فوق المال والمُمتلكات دمَ أبنائهم كي لا تُنتَزَعَ الأرض مِنهُم، وَبَقيَت الخِربة تُقاوِمُ بالحيلَةِ تارَةً وبالخفاءِ تارَةً أُخرى، وَكانت الحياة هناك تمرُّ بأطوارِ مدٍ وَجزر، يَهدم الاحتلال فيبني الأهالي، يُعتقل راعٍ فيقوم أَخوه أو جاره مَقامه، تُصادَرُ مَعدّاتٌ زراعية فَيتكلف صاحبها بعبء إخراجها من الحَجز مالياً.