17 أغسطس 2021

هل في تجربة "طالبان" ما يُستفاد منه للمقاومة الفلسطينية؟

هل في تجربة "طالبان" ما يُستفاد منه للمقاومة الفلسطينية؟

انسحبت "طالبان" من مشهد الحكم أمام الغزو الأميركيّ العاتي لأفغانستان في العام 2001. يمكن عدّ هذا الانسحاب واحداً من أفضل التكتيكات العسكريّة الواعية، التي يُمكن إدراجها في مفهوم الصبر الإستراتيجيّ بمضمونه الإيجابيّ، فالانسحابُ من القتال، كان لأجل تنظيم الصفوف واستئناف القتال، في بيئةٍ إستراتيجيّةٍ مواتية لحرب عصابات طويلة الأمد، قادرة على استنزاف القوات الغازية والتي تفتقد الأفق الإستراتيجي.

لم يكن هذا التكتيك الوحيد المُتَغير في مسار "طالبان" الطويل، فقد كفّت الحركة عن محاولات السيطرة المكشوفة على مراكز المدن بعد عام 2016، بعدما صُدّت بالقوات الجويّة والبريّة المدعومة أجنبيّاً، واستعاضت عن ذلك، بعمليات استنزافٍ طويلة تُقلِّل من خسائرها، ثم تُتبِعُها بعمليات سيطرة مُتَدَرجة أخذت في بعض الأوقات شكل التقاسم الضمنيّ مع حكومة كابل. وفي حين كانت عمليات الاستنزاف ركيزتها الأساسيّة، فإنها دعمت ذلك بمساعي إثبات الجدارة الأخلاقيّة والإداريّة أمام السكان المحليّين الذين عاينوا فساد حكومة كابل وترهلها وعجزها عن فرض الأمن وتحسين الخدمات، وهو ما نجحت فيه "طالبان" في المناطق التي سيطرت عليها طوال السنوات الماضية.

افتتحت الحركة مكتبها في قطر عام 2013، وانخرطت بعد ذلك بسنواتٍ في مفاوضات مع الولايات المتحدة ومع حكومة كابل. وفي حين أنّها تمكنت من تأسيس علاقاتٍ واضحة مع دول إقليمية، بعضها كان معادياً لها، كروسيا والصين وإيران، ويمكن، بسهولة، عدّ هذه الاختيارات السياسيّة تحولات تكتيكية كبرى لديها، بيد أنَّ هذه الاختيارات، وعلى نحوٍ واضح، لم تنل من الهدف النهائيّ، وهو الأمر الذي أكده دخول "طالبان" كابل، في 15 أغسطس/ آب 2021.

كل هذه التحولات لم تمسّ الهدف الاستراتيجي للحركة، وهو طرد القوات الغازيّة، وتأسيس "النظام الإسلاميّ"، بحسب مفاهيم "طالبان" له. ومن ثمّ فقد كانت كلّ التحولات الإستراتيجية تخدم هذا الهدف بوضوحٍ كامل، فلا الحركة ألقت سلاحها وكفّتْ عن ممارسة القتال، ولا هي اعترفت بشرعية الحكومة التي ظلّت مُصِرَّةً على وصفها بالعميلة، ولا هي شاركت في حكومة في ظلّ احتلال، وفي الأثناء لم تتخلّ الحركة عن بقية مجالات اشتغالها لصالح السياسيّ.

وفي حين جمعت الحركة بين الحفاظ على الهدف الإستراتيجي ولوازمه التكتيكية، وبين الاستعداد للتغيير في التكتيك دون المسّ بالإستراتيجيا، فقد كان في قلب مبادئها السياسية الصلبة؛ مبدأ الاستقلال السياسيّ، الذي لا يُمكن أن يدخل في إطار التكتيكات المُتغيرة. ومن هنا رفضت الحركة تسليم أسامة بن لادن لدول أجنبية، ودفعت ثمن ذلك سلطتها وحكمها.

بيد أنها وهي تصرّ على هذا المبدأ، كانت من جهة تدرك أنّ بلادها سوف تُحتلّ في كل الأحوال، فلا معنى للتجريب، وهو ما يُذكّر بإباحة العراق مرافقه الحيويّة وبيوتاته السيادية للمفتشين الدوليين، دون أن يمنع ذلك الحرب عليه أو احتلاله، ومن جهةٍ أخرى، كانت الحركة تُبَيّت إرادةَ القتال الطويل. وفي إطار مبدأ الاستقلال السياسي، بنت الحركة علاقاتها مع الدول الداعمة، التي رأت في "طالبان" استثماراً جيّداً للنكاية بأميركا، بيد أنّ هذه العلاقة لم تتجاوز من طرف "طالبان" تلاقي المصالح المؤسَس على الاستقلال السياسيّ الصلب.

لم تكن الصلابة، والحالة هذه، مبدأ نظريّاً فحسب، يستند في جانبٍ كبير منه إلى قناعاتٍ دينيّة، ولكنها في الوقت نفسه كانت تستمد من طبيعة المقاتل الطالباني، الذي لم يخضع لسياسات التحديث النيوليبرالية التي من شأنها أن تحطم إرادة القتال. 

رئيس الوفد عبد السلام حنفي (إلى اليمين) ، يرافقه مسؤولو طالبان (من 2 إلى اليسار) أمير خان متقي وشهاب الدين ديلاور وعبد اللطيف منصور، يسيرون في بهو الفندق أثناء المحادثات في العاصمة القطرية الدوحة في 12 أغسطس 2021. (تصوير كريم جعفر / وكالة الصحافة الفرنسية)

مسار إستراتيجي حادّ الوضوح كهذا يتطلب بالضرورة من سالكه التجرد من إرادة إثارة الإعجاب، ونيل الاعتراف والرضا من الآخرين بشروط الآخرين، فالتنازلات المستمرة، السياسية، والأيديولوجية، لمجرد نيل الاعتراف، ستعني بالضرورة الخصم المستمر من الهدف النهائيّ، والتحول به نحو الاندماج في المنظومة القائمة بشروطها.

لم تكن مسيرة "طالبان" هذه سهلة، في الجمع بين صلابة المبدأ والهدف النهائي، وبين التكتيكات المتحولة، وتوظيف التكتيك بما يخدم الإستراتيجيا، فقد عانت تحطيم سلطتها، وانسحابها، ووفاة مؤسسها، وكتمان خبر وفاته ثلاث سنوات، ودخول تنظيم "الدولة الإسلامية" على خطّها، وبعض الانشقاقات والانسحابات، وأخيراً اتخاذ القرار بالمفاوضات، طبعاً على أرضية شرط انسحاب القوات الغازية. وهي حوادث من شأنها تمزيق حركة مقاومة تواجه قوةً عاتية تتسلح أيضاً بالوكلاء المحليّين. 

وهي تجربة ثرية تدفع للبحث في الكيفيات التي حافظت فيها الحركة على وحدتها وتصدُرِها، وانعكاس تماسكها الداخلي على وحدة الهدف، وتكامل أدوار منتسبيها في جغرافيا أفغانستان الواسعة، ومن ثم تطور الحركة لاستيعاب غير البشتون، من الطاجيك والأوزبك، في مؤسساتها القيادية. في حين أسهمت مسلكيات الاستزلام والزبائنية، والجهوية والمناطقية، والتنافس الداخلي على القيادة، في انحراف المسلكية الثورية، أو إضعافها، لدى العديد من قوى التحرر، بما فيها الفلسطينية منها.

لقد كانت هذه التجربة مستندةً إلى مركب من الإيمان بحتمية التحرير مهما طال الزمن، ومن مبدأ القيام بالواجب، وهو الأمر الذي انبثق عنه صلابة الهدف وعدم الانحراف عنه، مهما كانت التحديات في الطريق، وهذه الثلاثة (الإيمان بحتمية التحرير، والقيام بالواجب، وثبات الهدف)، التزامها ضروري لتجديد الحياة في حركة المقاومة بالاستمرار، وإلا لجُعلت ضدّ بعضها، كمن يسلك طريق التحرير بالتخلي عن الهدف النهائي (حلّ الدولتين بدلاً من التحرير الكامل)، أو كمن يتخلّي عن القيام بالواجب، لصعوبة القيام به، كالتخلي عن الكفاح المسلّح، أو كمن يُسيّل أهدافه بمنح الشرعية للعقبة الثورية، كوجود سلطة في ظلّ احتلال.

هذه المعادلة هي التي كانت تُشكّل الوعي السياسي لدى "طالبان"، بأن الولايات المتحدة ستتخلى، في النهاية، عن وكلائها، وعن ملياراتها التي أنفقتها عليهم لتشكيل جيشٍ موالٍ لها، في منطقة حساسة تحدها قوى نوويّة ودول منافسة أو معادية للولايات المتحدة. وهذا الدرس في ذاته من أهم ما يمكن استخلاصه، سواءً على من يعول في استمراره على الدعم الخارجيّ، أو من يسعى لنيل الاعتراف بالاستجابة لشروط الآخرين.

لا شكّ أن للحالة الفلسطينية تعقيداتها التي تجعل المقارنة بينها وبين الحالة الأفغانيّة، وبين ممكنات القوى في البلدين، غير قابلة للمطابقة، سواء من حيث اختلاف طبيعة الاحتلال، أو اختلاف جذور الانقسام الداخليّ، أو اختلاف الطوبوغرافيا والمساحة وعدد السكان، أو اختلاف القوى المحاذية والجغرافيا السياسيّة. إلا أن المبادئ الأساسية التي لا بدّ منها للمضي في مشروع التحرير لا تختلف، وإنما المهارة في تكييفها وتبييئها بما يناسب خصوصيات الحالة.

وقد كان واضحاً برصد التجربة الفلسطينية سرعة تحولها عن هدف التحرير إلى الحل المرحليّ، بناءً على الأطروحة والمبادرة السياسية، لا بناءً على دفع الاحتلال لتقديم مبادرته، فما بين الانطلاقة الرسمية لحركة "فتح" وبرنامج الحل المرحلي أقل من عشر سنوات، في بيئةٍ تاريخيةٍ ربما كانت أفضل من البيئة التي عملت فيها "طالبان". وقد ظلّ المشروع الفلسطيني يتقزم، مروراً بحلّ الدولتين ثم الجمود على سلطة في ظلّ الاحتلال بلا أفقٍ سياسيّ، وهو ما تورّط فيه المجموع الوطنيّ الذي منح هذا المشروع الشرعيةَ بالانخراط فيه، عضوياً ومباشرةً، كحركة "حماس"، أو بواقع الحال، كبقية الفاعلين الفلسطينيين. 

وقد ظلّت القوى الفلسطينيّة المعارضة لمشروع التسوية تُقدّم التنازلات السياسيّة للاحتلال لأجل الاتفاق مع "فتح"؛ من وثيقة الأسرى التي صاغتها قيادات أسيرة من مختلف الفصائل، فوثيقة الوفاق الوطنيّ التي كان يفترض أن تُشكِّل أرضيةً مشتركة بين "حماس" و"فتح"، فتفاهمات "حماس" و"فتح" لتشكيل القائمة المشتركة لبرنامجين متعارضين تماماً في الانتخابات التشريعية التي ألغيت.

إنّ البراغماتية العالية التي طبعت سلوك القيادة المتنفذة في منظمة التحرير انعكست على الحركة الوطنية برمتها، بما في ذلك حركات المقاومة الإسلاميّة، والتي لم تقطع تماماً مع خطّ سياسات التكتيك التي تذوب فيها الإستراتيجيا، والانجذاب لـ "الفهلوة" السياسيّة، والإفراط في مساعي نيل الاعتراف على حساب المنطلقات الأساسية، من المنظومة الإقليميّة والقوى الدوليّة. وهو الأمر الذي انعكس بالعجز عن بلورة موقفٍ جذريٍّ من مبدأ السُّلطة في ظلّ الاحتلال، أو التمسك بالمقاومة دون التورط في المبادرات السياسيّة.

وعدم القطع الكامل مع تلك السياسات تَمَدَّد في أنماط الإدارة التي اتسمت في بعض الأحيان بالاستزلام والزبائنية، والطبقية الداخليّة، والجهوية الجغرافية، وهو الأمر الكافي للنيل من إرادة المنتسبين لحركات المقاومة، وعجزهم عن حشد المجتمع خلف أهدافهم التحرريّة. ويمكن، في هذا الإطار، ملاحظة خلو ساحة المقاومة الفلسطينية، بما في ذلك الساحة الراهنة الآن التي تتصدرها حركات المقاومة الإسلامية، من النظرية الاجتماعيّة التي تسعى لتعزيز صمود الناس، والنظرية التنظيمية، التي تمنع الفوارق الطبقية وتقطع على سياسات الاستزلام والزبائنية.

وعلى أية حال، فإنّ هذه المعالجة السريعة لا تتناول تجربة "طالبان" في الحكم والإدارة، أو مراجعة أفكار الحركة وقناعاتِها الدينيّة، مع الإيمان بأنّ معالجةً كهذه تلزمها معرفة البيئة الاجتماعية والدينية التي انبثقت منها الحركة. وإنّما الهدف من هذه المعالجة، النقاط المشتركة من حيثيات المقاومة، وما يتصل بها من التعقيدات الداخلية، في سياق علاقة التكتيك بالإستراتيجيا والحفاظ على الهدف النهائيّ بالرغم من كل العقبات الموضوعيّة الضخمة، وهي نافذة بالإمكان الاستفادة منها، لاسيما من حركات المقاومة الإسلامية الفلسطينية، مع ملاحظة الخصوصيات بطبيعة الحال.