22 يونيو 2023

هل نحن في انتفاضة؟

<strong>هل نحن في انتفاضة؟</strong>

الضفّة الغربيّة مشتعلة؛ هذه حقيقة تتجلّى يوماً بعد يوم. فمنذ فترة ليست بالبعيدة، كنّا نظنّ أنّهم نجحوا في "تحييدها"، ذلك أنّ ظنونا النفسيّة وتحليلاتنا السياسيّة يحجبها العقل والخذلان عن التقاط القادم الجديد: الغضب الطازج في قلوب شبّان في مقتبل العشرينات، يتركون وصايا بسيطة مختصرة، لا يتابعون فقرة التحليل السياسيّ في نشرات الأخبار، يُصدّقون وعد الآخرة، ويمضون بكل ثبات. 

‏امتازت بيئة الضفّة بالاشتعال المتقطّع، والمحاولات المستمرة التي سرعان ما يجري إحباطها. يمكن القول إنّه منذ 2015 ثمّة نمط جديد من الفعل المقاوم آخذ بالتشكّل، بدأ بعملياتٍ فرديّة؛ دهس وطعن وأحياناً إطلاق نار -غالباً- بسلاح "كارلو"، ونتائج محدودة. بالإضافة إلى مئات الخلايا التي غالباً ما كانت تُكشف قبل أن تبدأ، نتيجة الظروف الأمنيّة المعقّدة.

كما ازدهرت نماذجُ عديدة ومهمّة للفعل الشعبيّ، خاصّة فيما يتعلق بمقاومة البؤر الاستيطانية واعتداءات المستوطنين، كما حدث في تجربة بيتا في جبلي العرمة وصَبيح، ما بين الأعوام 2020-2022. وأخرى أخذت طابع "الفزعات" الأهليّة الدفاعية ضدّ هجمات المستوطنين، كما حدث مؤخراً في بيت عوريف وترمسعيا وحوّارة وغيرها.

وهنا، علينا ألا نُغفل واقع تحوّل الضفّة إلى دولةٍ للمستوطنين، فقد تُرك الناس بدون حماية، بل وسُحبت منهم كلُّ إمكانيات حماية أنفسهم، حتّى أنّ السلطة لم تكمل "مشروعها الدفاعيّ الرائد" في تسييج نوافذ البيوت أمام اعتداءات المستوطنين.

لقد ‏شهد عام 2022 ارتفاعاً في عمليات المقاومة ضدّ الاحتلال، وأيضاً ارتفاعاً في نسبة "العمليات النوعيّة"، فبحسب معطيات أحد مراكز الأبحاث الإسرائيليّة نُفّذت خلال هذا العام 86 عملية نوعيّة مقابل 54 عملية نوعيّة في العام 2021، ورُصد خلاله الارتفاع في عدد عمليات إطلاق النار (شكّلت حوالي 54% من مجمل العمليات) مقابل انخفاض عمليات الطعن. وبحسب المعطيات ذاتها، قُتل ذلك العام 31 إسرائيلياً (كانوا 18 قتيلاً عام 2021، وثلاثة قتلى عام 2020).

ثمّ شهد النصف الأول من عام 2023 تصاعداً آخر في مؤشرات المقاومة، فخلال الشهور الستة الأولى من العام الجاري، أعلن الاحتلال عن 28 قتيلاً إسرائيلياً، في عمليات دهسٍ وطعن وإطلاق نار (بالإضافة إلى قتيلٍ آخر بصواريخ المقاومة من غزّة). هذا يعني، أن تصاعد العمليّات في عامنا الجاري (2023) شكّل ضعف ما سُجّل في العام الفائت، ذلك الذي اعتُبر عامَ تصعيدٍ. 

ومّما يشير إلى أنّه بالفعل عامٌ فارق، هو ازدياد ماكينة القمع الإسرائيليّة من اعتقالاتٍ واغتيالاتٍ وهدم بيوت، واستخدامها القصف الجوّي مرّتين في أسبوعٍ واحد، ذلك الأسلوب الذي لم تستخدمه منذ الانتفاضة الثانية، وقد نجم عنه استشهاد 3 شبّان في جنين.

طائرة إسرائيلية مسيرة من نوع Hermes 450، الملقبة بـ"زيك"، والتي استخدمت لاغتيال ثلاثة شبان في جنين مساء 21 حزيران 2023.
طائرة إسرائيلية مسيرة من نوع Hermes 450، الملقبة بـ"زيك"، والتي استخدمت لاغتيال ثلاثة شبان في جنين مساء 21 حزيران 2023.

هل نحن في انتفاضة؟ 

نفترض أحياناً أنّ أي عملٍ مقاوم، لا بدَّ أن يأخذَ شكل الذي سبقه، وهو افتراض يخالف الواقع والتاريخ. لقد كانت الانتفاضة الثانية مغايرةً للانتفاضة الأولى، والهبّة التي بدأت بالسكاكين عام 2015 لا تشبه الحالة التي أخذت شكلاً جديداً انطلاقاً من 2022، ولا تزال ممتدة حتى هذه اللحظة، تحفر في واقعٍ كالصخر شكلَها الذي يخصّها، متخذةً أساليب جديدة، كتشكيل المجموعات المسلّحة، وإطلاق النار بسلاح أوتوماتيكي بعمليّات فرديّة، وتفجير العبوات الناسفة، وغير ذلك. 

إذن، هل هذه مرحلةٌ انتقاليّة لانتفاضةٍ لم يُعلن انطلاقها بعد؟ أم أنّنا نعيش انتفاضةً وهذا هو شكلها؟ شكلٌ يشبه صعوبةَ الواقع الذي يجري إرغامنا على التأقلم معه: تشرذم الجغرافيا، وغياب الأفق السياسيّ، وإضعاف التنظيمات، وتصاعد ماكينة التدمير الإسرائيلية، وتمسّك السلطة الفلسطينيّة بوظيفتها الأمنيّة بوصفها الوظيفة الوحيدة والأخيرة التي تضمن بقاءها، هذا فضلاً عن غياب الدعم العربيّ والإسلاميّ. 

تكتسب حالة المقاومة شكلها من المساحات التي تُحرّرها؛ في النقطة التي يغفل عنها جندي البرج يُعِدُّ الفتى "مولوتوف"، وفي الوقت الذي يبحثون فيه عن رأسٍ حليقة يحلق أهلُ المخيّم رؤوسهم، وحين تنشغل الدوريّة بتفكيك جسم مشبوه يتقدم فتى بمسدسه، ولمّا يهاجم "شبيبة التلال" المزارعين ينطلق أحدهم لأخذ ثأر المزارع والشجرة معاً. 

سيدة فلسطينية تقف أمام منزلها في ترمسعيا، شمال شرق رام الله، بعد إحراقه على يد مستوطنين في اعتداء طال عشرات المنازل، 21 حزيران 2023. (عدسة: أحمد غرابلي/ وكالة الصحافة الفرنسية).
سيدة فلسطينية تقف أمام منزلها في ترمسعيا، شمال شرق رام الله، بعد إحراقه على يد مستوطنين في اعتداء طال عشرات المنازل، 21 حزيران 2023. (عدسة: أحمد غرابلي/ وكالة الصحافة الفرنسية).

المجموعات المسلّحة 

لم تظلّ المجموعات المسلّحة على حالها الذي ولدت فيه. لقد تطوّرت، مثلما رأينا في استخدام العبوات في صدّ الاقتحام الأخير لجنين. كما أنّها امتدت من مخيّم جنين إلى نابلس إلى طولكرم وليس انتهاءً بأريحا، وشكّلت نوعاً من الإلهام والتعبئة لشريحةٍ واسعةٍ من الشباب المتحفّز للعمل المقاوم.

بالمجمل يمكن القول إنّها مجموعات مستقلة، لكن لا يمكن فهم تطورها واستمراريتها إلا بفهم دور الفصائل في تمويلها ودعمها، بل إن بعضها يتبع للفصائل بشكلٍ مباشر. 

لقد ساعد العمران المتراص والضيّق لمخيّم جنين ونابلس البلدة القديمة في تشكيل حاضنةٍ معمارية لهؤلاء الشبان، عطفاً على الحاضنة الشعبيّة والذاكرة النضاليّة التي تتميّز بها هذه الأمكنة. لطالما شكّلت هذه المناطق بؤر تحدٍّ للاحتلال والسلطة معاً، واستطاعت بشكلٍ نسبيّ المحافظة على نوع من الاستمراريّة من الانتفاضة الثانية حتّى الآن.

عملت "إسرائيل" والسلطة بتنسيقٍ عالٍ على وأد هذه التجارب؛ من خلال الاغتيالات والاعتقالات والإغراءات المالية والتفريغ على الأجهزة الأمنيّة، وهذه "السياسة الناعمة" هي التي تُشكّل الخطر الأكبر على هذه التجربة؛ ذات السياسة التي استعملتها في نهاية الانتفاضة الثانية. 

محاولات الإجهاض هذه أخفقت في أماكن ونجحت في أخرى؛ الأمر الذي يشير مجدداً لتعقيد المشهد الأمنيّ الذي يجعل من حظوظ نجاح العمل الفرديّ في كثير من الأحيان أعلى، فهو أقلّ عرضةً للكشف والضغط والمحاصرة، وأكثر قدرةً على تحقيق الأذى والنتائج.

مسلحون يسيرون في أحد شوارع مخيم جنين، تشرين الأول 2022. (عدسة: ناصر اشتية).
مسلحون يسيرون في أحد شوارع مخيم جنين، تشرين الأول 2022. (عدسة: ناصر اشتية).

ثنائية الفردي والجماعي

عندما نطلق تعبير العمل الفردي لا نقصد به عكس الجماعي، فهذه الثنائية بحدتها وهميّة! فإنّ الجماعة حاضرة باحتضانها للفعل أولاً، ومن ثمّ في حمل عوائل الشهداء، وفي التشكيلات الاجتماعية التي تنتج على هامش الحدث الواحد، من بروز الآباء والأمهات الذين أعاد أبناؤهم ولادتهم، وتَجمّعهم معاً، يبثون صبراً مُرّاً وجميلاً في أكسجين الناس ينقيه من تلوّث الهزائم. 

هذا الفرديّ هو نفسه يتحرك في إطار جماعة، حتى وإن لم يتواصل معها بشكلٍ مباشر. الإيقاع المقاوم الذي غذته فصائل المقاومة، وعملت باستمرار على تمويله وتسليحه، يكشف أن دورها لا يزال نشطاً في مشهد الضفّة الحالي، وأنّها بشكلٍ ما استطاعت أن تتواصل مع العمل غير المنظم، في وسط واقع يطاردها من الاحتلال والسلطة. والأهم في هذا الإيقاع المقاوم، هو الروح النضاليّة التي خلقتها المواجهات التي خاضتها المقاومة في غزّة. لقد شكّلت كل هذه الأجواء مجتمعة التجنيد غير المباشر لكل فرد يحزم أمره، ويضع وعد الله نصب عينيه وينطلق. 

واقع مفتوح على الاحتمالات

في ظروف انسداد الخيارات، فإنّ الحالة بلا شك يعتريها الكثير من النواقص، من تضخّم المشهد الإعلامي وقلّة الخبرة الأمنية وغياب نوع من القيادة الموحّدة، إضافةً إلى أنّها ما زالت محصورة في جغرافيّات محدّدة، كما أنه لا يمكن التنبؤ بتصاعدها أو خفوتها. إلا أنه وللمفارقة، كثير من هذه العناصر نفسها، بطريقة أو بأخرى، تُشكّل في ذات الوقت نقاط قوّة لهذا النوع من العمل. 

ومع أنّ الحالة -بحكم تكوينها وظروفها- ليست مطالبةً بتقديم مشروع سياسيّ، إلا أن وجود هذا الأخير أمر ضروريّ لمراكمة مجموع الأفعال المتناثرة نحو وجهة بعينها، وهي مهمة الحركة التحرّرية بأسرها.  

ربما تُشكّل الضفّة بحالها الآن مرحلةً انتقاليّةً لعملٍ أكثر تنظيماً وتحدياً للمنظومة الأمنيّة، وربّما تكون هذه انتفاضة وهذا هو شكلها الجديد، وربما تكتفي بتعكير صفو الهدوء الذي تُدفع لأجله الأموال والأصوات الانتخابية، وربما تكون هذه صرخات أخيرة لمرحلة أشد قسوة.. التاريخ ونحن بيد الله.