وظّف الاحتلال المياه في حربه على الفلسطينيّين منذ النكبة، فسيطر على آبار المياه الفلسطينية حينها، ثمّ فرض سيطرته الكاملة على الأحواض الجوفيّة في الضفّة بعد احتلال 1967. وقد رأينا تجلياتِ ذلك مع اليوم الأول لمعركة "طوفان الأقصى"، إذ أوقف الاحتلال ضخّ المياه إلى قطاع غزّة، ليُعطّش الناس ويُعطّل يومياتهم1يزوّد الاحتلال قطاع غزّة بالمياه من خلال شركة "ميكوروت"، بحوالي 8 ملايين متر مكعب من المياه سنويّاً، وكانت بلديات القطاع تمزجها مع المياه الجوفيّة المالحة المستخرجة في خزانات لتخفيف ملوحتها قبل تزويد الأهالي بها.. ثمّ في خضم المعركة، تعمّد تدمير البنى التحتيّة واغتيال موظفي البلديات الذين يعملون في إصلاح وتشغيل ما تبقّى منها، كما حصل مع موظفي بلدية غزّة الذين باغتهم الاحتلال بصاروخ وهم يعملون في إعادة تشغيل آبار المياه، واغتالهم الاحتلال في 21 حزيران/ يونيو الماضي.
أما في الضفّة الغربيّة، فمع مطلع حزيران/ يونيو الماضي، أبلغت شركة المياه الإسرائيلية "ميكوروت" سلطة المياه الفلسطينيّة بخفض كميات المياه المورّدة لبلديات رام الله والقدس بنسبة 50% ولبلديات الجنوب، كالخليل وبيت لحم، بنسبة تجاوزت 35%، دون إبداء الأسباب وبشكل مفاجئ. هذا الخفض وبهذه النسب الكبيرة، بالتزامن مع فصل الصيف الذي يشكّل ذروة الاستهلاك المائيّ، يضع الفلسطينيّين أمام تحدٍّ مائيّ قاسٍ، ويفتح الباب أمام مواجهةٍ عنوانها الماء.
في هذا المقال نسلط الضوء على قطاع المياه في الضفّة الغربيّة، ونشرح كيف أطبق الاحتلال سيطرتَه عليه واستخدمَه كورقةِ ابتزازٍ ضدّ الشعب الفلسطينيّ.
الأخطبوط الإسرائيلي "ميكوروت"
تأسست في العام 1937 شركة المياه الإسرائيلية "ميكوروت" كشركةٍ خاصّة، وذلك بتمويلٍ من الوكالة اليهوديّة. تعني كلمة "ميكوروت" بالعبريّة مصدر أو نبع المياه. في العام 1956 أصبحت حكومة الاحتلال شريكةً في "ميكوروت" ومنحتها حقّ الامتياز المطلق للتنقيب والبحث عن المياه وإدارة مصادرها، وتزويد مياه الشرب للبيوت ومياه الريّ للأراضي الزراعيّة والشركات الصناعيّة. بين عامي 1953 و1964 نفّذت الشركة أضخم مشروع لها، وهو ما يُعرف بـ"الناقل القطريّ"، الذي نُقلت فيه مياه نهر الأردن وبحيرة طبريا شمالاً باتجاه النقب جنوباً.
تُعتبر "ميكوروت" إحدى أهم أدوات الاحتلال في السيطرة على المياه، إذ تُختصر مهمة الشركة الأساسية في تأمين المياه لدولة الاحتلال بشتّى الطرق، ومع حقّ الامتياز الذي مُنحته أطبقت سيطرتها على الموارد المائية في فلسطين التاريخيّة، وسخّرت إمكانياتها لسرقة المياه في الضفة وغزّة والجولان (بل ومياه جنوب لبنان أيضاً خلال فترة احتلاله!) وحوّلتها لصالح المستوطنين.
كما أنّها تجني أرباحاً طائلة من خلال بيع المياه المسروقة لأصحابها الأصليين؛ الفلسطينيين. وفق تقريرٍ بحثيّ لمركز Who profits نُشِرَ في حزيران/ يونيو 2023، تبيع "ميكوروت" كوبَ المياه للمستوطنات بـ30 أغورة (0.08 دولار أميركي)، بينما تبيعه لسلطة المياه الفلسطينيّة بـ2.86 شيكل (0.77 دولار أميركي). يعني ذلك أنّ الشركة لا تسرق المياه من الفلسطينيين وتتحكم في تدفقها لهم فحسب، إنّما أيضاً تُدفّعهم مقابلها مبالغ طائلة وتستنزفهم ماليّاً. في العام 2021 مثلاً، حصلت الشركة مقابل المياه التي باعتها للفلسطينيين على 287 مليون شيكل (76.7 مليون دولار أميركي)، وهي تقتطع فاتورتها من أموال الضرائب التي تجبيها دولة الاحتلال نيابة عن السلطة الفلسطينيّة. ولكن كيف تعمّقت عملية الاستنزاف هذه بعد تأسيس السلطة؟
لجنة "مشتركة".. بالاسم فقط
بعد توقيع اتفاقية أوسلو الثانية عام 1995، اعتُمِدت المادة 40 وبنودها كـ"اتفاقية مؤقتة"، واعتُبِرَت أساساً لوضع الخطط الخاصّة بقطاع المياه وتنفيذ المشاريع خلال "الفترة المرحلية" التي أعقبت إعلان المبادئ. اتُفِق في حينه على ترحيل البت في حقوق المياه إلى مفاوضات "الحلّ النهائيّ". لكن مفاوضات الحلّ النهائي تعثرت بعد فشل مفاوضات "كامب ديفيد"، ثمّ أعقبها انتفاضة الأقصى مما جعل من الاتفاقية المؤقتة اتفاقيةً دائمةً يسري العمل بها نتيجة الأمر الواقع.
كان لعدم تثبيت الحقوق المائيّة الفلسطينيّة الأثر الأكبر على الحال الذي تعيشه الضفّة الغربيّة في هذه الأيام. فقد ظلّت الأمور فضفاضة خاصّةً فيما يتعلق بالحصص المائيّة في مصادر المياه السطحيّة كنهر الأردن، ومياه الأحواض الجوفيّة، إضافةً للكميات الإضافيّة التي سيحصل عليها الفلسطينيون من الآبار الجوفيّة الجديدة، والزيادة الدوريّة في الحصص على المدى الطويل، والأهم من ذلك الكميات التي ستُورّدها "ميكوروت".
أسّست "الاتفاقية المؤقتة" لجنةً عُرِفَت باسم "لجنة المياه المشتركة"، وهي لجنةٌ استُحدِثَت لإدارة القضايا المائيّة بين السلطة الفلسطينيّة والاحتلال الإسرائيلي. على سبيل المثال، تبت هذه اللجنة في مشاريع الفلسطينيّين المائيّة، وأيضاً في المشاريع المائيّة للمستوطنات على أراضي الضفّة وقطاع غزّة.

طوال سنوات شكّلت اللجنة حجرَ عثرة أمام النهوض بمشاريع الفلسطينيين المائيّة، فمثلاً، وحسب تقرير لـ "البنك الدولي"، قدّمت السلطّة الفلسطينية بين عام 1996 وعام 2008؛ 417 مشروعاً للمياه، وافقت اللجنة على 236 مشروعاً منها فقط. لا تقف الأمور عند هذا الحد، فلا تعني الموافقة على مشروعٍ ما أنّ تنفيذه على أرض الواقع أصبح ممكناً، بل ترفعه اللجنة للإدارة المدنية (الحاكم الفعلي للضفة الغربية) والتي قد ترفضه لأسبابٍ ترفض الإفصاح عنها. وهكذا من أصل 236 مشروعاً وصل إلى حيز التنفيذ 151 مشروعاً فقط، وهو ما نسبته 36% فقط من مجمل كل المشاريع التي تقدّمت بها السلطة.
بالمناسبة، فإنّ التقرير ذاته لا يوفّر رقماً بشأن المشاريع التي قدّمها الاحتلال الإسرائيلي للجنة المياه المشتركة، ويكتفي بالقول إنّه تمت الموافقة عليها جميعها ما عدا مشروعاً واحداً فقط. تجدر الإشارة هنا إلى أنّ الاحتلال لا يعطي قيمة للجنة المياه، فمثلاً أغلب مشاريع المستوطنات التي سبّبت وتسبّب تلوثاً في قرى ومدن الضفة لم تُقدّم للجنة للحصول على الموافقة أصلاً.
وقد يسأل سائل: لماذا لا ينفّذ الفلسطينيون مشاريعهم داخل مناطقهم دون العودة إلى هذه اللجنة وانتظار موافقتها؟ والإجابة أن أوسلو قد قسّمت الضفّة الغربيّة لمناطق (أ، ب، ج)، بحيث تخضع منطقة (أ) لسيطرة السلطة الفلسطينية الأمنيّة والإداريّة، بينما تخضع مناطق (ب، ج) للسيطرة الأمنيّة للاحتلال الإسرائيلي، وهو ما يُشكّل 82% من مساحة الضفّة الغربيّة. يعني ذلك، أنّ 82% من مساحة الضّفة وما يُنفّذ عليها من مشاريع تخضع لسيطرة الاحتلال، وهي بالمناسبة المناطق التي تحتوي على معظم المقدرات المائيّة الفلسطينيّة.
اقرؤوا المزيد: أشجار المستوطنات تشرب أكثر من أهالي الضفّة.
أيضاً، وضعت "الاتفاقية المؤقتة" شروطاً على الأعماق التي يستطيع الفلسطينيون الحفر إليها للوصول إلى المياه الجوفيّة، وهي أعماق منخفضة نسبيّاً مقارنةً بالأعماق التي يستطيع المستوطنون الوصول إليها، فتكون المياه أكثر وفرة وأعلى جودة. وبشكلٍ عام تتطلب عملية الحفر إذناً من الاحتلال الإسرائيلي من خلال اللجنة المشتركة، والتي تُدقق أيضاً على مواصفات المعدات والآليات التي ستحفر حتى لا تتجاوز الأعماق المنصوص عليها، ناهيك عن مراقبة عدادات الآبار للتحقق من الكميات التي تُستخرج لاحقاً.

كيف يبدو الواقع المائي في الضفة الغربية الآن؟
بعد هذا العرض التاريخيّ يُطرح السؤال: كيف هو حال المياه في الضفّة اليوم؟ فيما يتعلق بالمياه الجوفيّة، فإنّ الفلسطينيين يعيشون في هذا الجانب فقراً مائيّاً واضحاً، إذ تُعتبر أحواضُ المياه الجوفيّة (الشرقيّ، والغربيّ، والشماليّ الشرقيّ) المزوّد الرئيس للمياه في الضفّة، وقد قدّر البرنامج البيئي التابع للأمم المتحدة عام 2016 احتياجها من المياه الجوفيّة بـ152 مليون متر مكعب. لكن على أرض الواقع، فقد استُخرج 83.3 مليون متر مكعب فقط عام 2015، وهي كمية أقلّ من الكمية المقدّرة للاحتياج بنسبة 45%، مما يُدلِّل على حالة الفقر المائي التي تعاني منها الضفّة.
أمّا المفاجأة الكبرى، فهي حين نعلم أنّ نصيب الفلسطينيّين من الأحواض الجوفيّة تبعاً لاتفاقية أوسلو هو 118 مليون متر مكعب سنويّاً، أي أنّ الكمية المستخرجة لعام 2015 مثلاً أقلّ من المنصوص عليها في أوسلو بحوالي 30%. وفي عام 2022، استُخرج 116.6 مليون متر مكعب لصالح الفلسطينيين فقط، وهو أيضاً أقل مما نصت عليه أوسلو. ومن المهم الإشارة هنا إلى هذه الكمية - المنصوص عليها في الاتفاقية - بأنها لم تتغيّر بشكل يتناسب مع زيادة عدد السكان، الذين ارتفع عددهم من 1.78 مليون في الضفّة فقط عام 1997 إلى 3.25 مليون عام 2023.
أما فيما يخصّ المياه السطحيّة، ففي عام 2022 أضافت الينابيع وعيون المياه المنتشرة في الضفّة ما يُقدّر بـ 38.8 مليون متر مكعب لحصة الضفّة المائيّة. أما نهر الأردن فلا يزال الفلسطينيون محرومين من استغلاله منذ احتلال الضفّة عام 19672تبلغ مساحة حوض نهر الأردن 18464كلم2، وقد بلغ معدل تدفق المياه فيه في الفترة الواقعة بين 1929 و1953 حوالي 844 مليون متر مكعب سنويّاً. لاحقاً ومع بدء "ميكوروت" بمشروع الناقل القطري، والذي استخدم مضخات ترفع المياه من 108م تحت سطح البحر إلى 238م فوق سطح البحر لنقل المياه من نهر الأردن إلى صحراء النقب، أدّى ذلك إلى تقليص مياه النهر وانخفاض منسوب البحر الميت. أما الكارثة التي سبّبها هذا المشروع هو زيادة ملوحة ما تبقى من مياه النهر، مما تسبّب في حرمان الأراضي الزراعيّة المعتمدة على النهر من المياه الصالحة لري نحو 300 كلم3..

وهكذا، بعد أن أوصد الاحتلال أبواب النجاة، فتح باباً واحداً أمام الفلسطينيّين، إذ سهّل إجراءات شراء احتياجاتهم مباشرةً من شركة المياه الإسرائيلية "ميكوروت"، وذلك لا يتطلب الموافقات والميزانيات التي يتطلبها تأسيسُ مشروعٍ مائيّ يديره الفلسطينيّون بأنفسهم. ففي عام 2022، ضخّت "ميكوروت" 98.8 مليون متر مكعب لمزوّدي خدمات المياه الفلسطينيين، وهو ما يشكّل نسبة 22% من كمية المياه الإجمالية التي زُوّد بها الفلسطينيون. وتعكس هذه الكمية زيادة قدرها 9.5% عن عام 2020، والذي اشترى فيه الفلسطينيون 90.3 مليون متر مكعب. هذا التزايد الملحوظ في الاعتماد على الاحتلال الإسرائيلي للتزود بالمياه، قادنا إلى المرحلة الحرجة التي تعاني منها الضفّة الغربية في هذه الأيام.
ويمكن النظر إلى قطاع الزراعة لمعرفة كم هي الأمور مأساوية، إذ يضطر الفلسطينيون لتقليص المساحات الزراعية لتلائم كمية المياه المتاحة، مما يقلّل كمية المحصول ويرفع الأسعار، ويجعل البضائع الإسرائيلية التي تُروى بمياهنا المسروقة أرخص. وفي تقرير نشرته "منظمة العفو الدوليّة" عام 2017، قالت فيه إن الاحتلال الإسرائيلي ممثلُا بـ"ميكوروت"، لا يقوم برفع أسعار المياه فحسب، بل يقوم أيضاً بقطع إمدادات المياه عن المزارعين بناء على حجج مصطنعة أدت لموت آلاف الدونمات من المحاصيل الزراعية، مما أجبر المزارعين إلى التحول لمهن أخرى تدر دخلاً أعلى بمخاطرة أقل.
ماذا لو بقيت الحنفية بيد شلومو؟
بعد معركة طوفان الأقصى، وما أحدثته من تغيرات على المستوى الشعبيّ في الضفّة الغربيّة، التي أصبحت تسير باتجاه مغاير عمّا خطط الاحتلال له، يستخدم الاحتلال أوراق الضغط التي يملكها في مواجهة كل ما هو فلسطينيّ، ومن أكثرها تأثيراً ورقة المياه. هذه الضربة التي يوجهها الاحتلال للفلسطينيين استهدف بها أكبر مدن الضفّة مساحةً وكثافة سكانية، كرام الله والقدس وبيت لحم والخليل.
وبالإضافة إلى سياسة التعطيش التي فرضها، يريد أن يقدم صورة مصغرة عما ستؤول إليه الأمور لو استمرت وتيرة أعمال المقاومة، عندما سيقوم بقطع كامل للمياه أو تيار الكهرباء. يراهن الاحتلال على إركاع الحاضنة الشعبية وابتزازها بحقوق حياتها الأساسية. فمنذ بداية طوفان الأقصى فرض الاحتلال سياسة تدمير البنى التحتية لشبكات المياه والكهرباء مع كل اقتحام لمخيم وقرية ومدينة. وهو يريد إيصال رسالة أن صنبور الماء تحت حكمه، وسيغلقه كاملاً في اللحظة التي يريد.

في مقابل هذه السياسة، لم يبق للفلسطينيين إلا محاولة تحدي الواقع وابتكار الحلول بعيداً عن سطوة الإسرائيلي، والنضال لأجل الحفاظ على ما تبقى من عيون وآبار. وما تزال كلمات العمّ أبو محمد سليمان، وهو مزارع من قرية بلعا قضاء طولكرم، حاضرةً في ذهني حين سألتُه عن جدوى إنفاقِه مبالغ طائلة على بناء آبار لتخزين مياه الأمطار ليستخدمها في ريِّ مزروعاته. أجابني بعفويّة: "عمي هاد البير بدفع عليه اليوم بس بيضل عايش لأولادي ولأحفادي، خليني أدفع بزيادة هسا بس بعيش مرتاح، وما بحط شغلي تحت مزاج ضابط المنطقة اللي لما بده بيسكر بير المي تبع البلد وبيخلينا كلنا عطشانين"3 يعتبر إنشاء آبار الجمع من أكثر الأمور كلفة على المزارعين خاصّةً في المناطق الجبلية، إذ تصل كلفة إنشاء المتر المكعب الواحد إلى 450 شيكلاً (ما يعادل 120 دولاراً) لبئر تبلغ سعته 72 متراً مكعباً. تجدر الإشارة إلى أنّ التقييدات الإسرائيلية سارية بشكل أكبر على الآبار التي تحاول الوصول إلى المياه الجوفية لا آبار جمع مياه الأمطار..