6 مارس 2021

كيف تضغط "إسرائيل" لتفريغ مؤسساتنا من المناضلين؟

كيف تضغط "إسرائيل" لتفريغ مؤسساتنا من المناضلين؟

تحت غطاء مؤسّسةٍ بحثيّةٍ تعملُ منظّمةُ "NGO Monitor" على مراقبة ما يُقارب 250 مؤسسة مساندة للقضيّة الفلسطينيّة في عدّة مجالات، ومن بينها مؤسسات فلسطينيّة وإسرائيليّة وأوروبيّة دوليّة. منذ 2002، تُدير المنظّمة قوائم سوداء لهذه المؤسسات والعاملين فيها للضغط على المانحين وهيئات المجتمع الدوليّ لسحب التمويل منها ونزع الشرعيّة عنها.

تنشر المنظّمة الصهيونيّة "المعلومات" التي ترصدها على موقعها الإلكترونيّ وعبر وسائل الدعاية الإسرائيليّة بشكلٍ عام. ولكنّها تبذل جهداً خاصّاً في التواصل مع المموّلين والهيئات والمؤتمرات الدوليّة كما مع الحكومات والبرلمانات الغربيّة، فتبعث رسائل وعرائض ومندوبين لمهاجمة المؤسسات الفلسطينيّة أو الداعمة للفلسطينيّين.

ورغم أنّ المنظّمة تُؤكّد على موقعها أنّها "هيئةٌ مُستقلّةٌ" وغير مدعومة من الحكومة الإسرائيليّة، إلا أنّها نشأت تحت إشرافٍ دُوري غولد، الذي كان مديراً عامّاً لوزارة الخارجيّة الإسرائيليّة بين عامي 2015 و2016. كما عمل مؤسّس المنظّمة، جيرالد شتاينبرغ، مستشاراً لوزارة الشؤون الخارجيّة ومجلس الأمن القوميّ الإسرائيليّ. وقد صرّحت الـ"مونيتر" في تقريرها السنوي في 2016 عن التعاون بينها وبين وزارة الشؤون الاستراتيجيّة الإسرائيليّة ووزارة الخارجيّة والعدل، وأكّدت وزارة الخارجيّة على ذلك.

تعمل هذه المنظّمة لنزع أيّ طابعٍ سياسيٍّ مناهضٍ للاحتلال من المؤسسات الفلسطينية وغير الفلسطينية كذلك، وتضغط عليها لتفريغها من أي موظّفٍ أو عضو ناشط سياسيّاً أو عضو يحمل مواقف سياسيّة لا تُعجب "إسرائيل". تحت مراقبة المنظّمة الصهيونيّة وتحت ضغوطاتها، بدأت بعضُ المؤسسات الفلسطينيّة بمراقبة نشاطها وموظّفيها، وبتقييد نفسها فيما يتعلّق بوجود نشطاء سياسيّين أو أسرى محرّرين ضمن كوادرها، وهو ما يؤدّي شيئاً فشيئاً إلى أن تُجبرُ على خفض سقف خطابها السياسيّ.

غربلة الموظّفين: "الّي بوظّفك بتسكّر مؤسسته"

استطاعت المنظّمةُ الصهيونيّة أن تضغط على المؤسّسات الفلسطينيّة عبر توجيه "تهم" أساسيّة للعاملين فيها؛ مثل "تهمة" إنكار حقّ "إسرائيل" بالوجود أو مساندة حملة المقاطعة أو الانتماء لـ"تنظيم إرهابيّ" بالإشارة إلى الفصائل الفلسطينيّة أو أي نشاط سياسيّ أو نضاليّ آخر، كما وُصِمَ المُتّهمون بذلك بمعاداة الساميّة وبـ"الإرهاب". تنبش NGO Monitor تاريخ وحاضر الفرد العامل في المؤسّسة لتضغط على المؤسسة من خلاله، فتُراقب عن كثب جميع تصريحات الموظّفين وأعضاء المجالس الإداريّة في المؤتمرات وعبر الصحافة وعبر صفحات التواصل الاجتماعي الخاصّة بهم. وتدعم قوّات الاحتلال ذلك الخنق بملاحقة الناشطين واعتقالهم والتحقيق معهم، ممّا يُشكّل تهديداً لمؤسساتهم التي تُصبح بدورها عُرضةً للملاحقة.

تحت ضغوطات NGO Monitor على المؤسسات من خلال أفرادها، تبدأ تلك المؤسساتُ بمراقبة عامليها وغربلتهم مع الوقت، وقد باتت بعض الممارسات تخنق وجود المنخرطين في العمل السياسيّ داخل المؤسسات. تتعامل بعض المؤسّسات مع الوضع بتفادي توظيف أفراد منخرطين بالعمل النضاليّ، حتى لا تُعرّض نفسها ولا تمويلها للتهديد. في حديث مع "متراس"، عبّر عدد من الأسرى المحرّرين والناشطين السياسيين الذين فضّلوا عدم كشف أسمائهم عن الصعوبة البالغة في إيجاد عملٍ ضمن هذه المؤسسات. أحد الأسرى المحرّرين (قضى في السجن 5 سنوات متفرقة) لخّص الأمر بتعليقٍ يسمعُه مِراراً: "انتي الّي بوظّفك بتتسكّر مؤسسته...".

اقرؤوا المزيد: "الحرب على رواتب الأسرى.. القصة أكبر من حسابات بنكيّة!".

إلا أن عرقلة توظيف الأفراد هو شكل واحد من أشكال تفريغ المؤسسات من الناشطين. تتفادى مؤسسات فلسطينيّة، مثلاً، إدراجَ أفراد بعينهم في مجالس الإدارة بسبب خلفيّتهم السياسيّة. أو في حالات أخرى يعمل موظّفٌ ما في حالة من التكتم والسريّة، دون أن يرد اسمُه في التقارير التي يعدّها أو في طلبات التمويل. وكثيراً ما يوافق الموظّفون على مثل هذا الإجراء بهدف "حماية المؤسسة" و"ضمان استمرار تمويلها"، بغض النظر عن الضرر السياسيّ العميق الذي تخلّفه مثل هذه الخطوات.

هنا، تجدر الإشارة إلى أنّ هذه القصص تبقى متداولة بتحفّظ بين العاملين في المؤسسات، دون أن تمتلك هذه المؤسسات أي منظومة شفافّة يُمكن من خلالها الاستدلال على هذه الخطوات موضوعياً. كما أن كشف أسماء الموظّفين المحتجّين قد يُعرضهم للفصل ويحول دون توظيفهم في أي مؤسسة أخرى ضمن شبكة المؤسسات هذه.

في ظلّ حالة المُراقبة وتفريغ المؤسّسات ومواقع الإدارة فيها من الناشطين سياسيّاً، سيبقى في المؤسّسات موظّفون بِلا مقولة سياسيّة، وبلا تاريخٍ أو حاضرٍ نضالي. وسينعكس ذلك على مسار عمل المؤسّسة وعلى خطابها، فترضخ لتمويل مشروط ومشاريع مؤطّرة بتعريف مُموّليها دون أي رؤيا وطنيّة.

كاتم صّوت في مؤسساتنا

من خلال مراقبة NGO Monitor لكلّ كلمة يقولها أو ينشرها العامل في المؤسسات تولّدت حالةُ مُراقبة ذاتيّة من قبل المؤسسات وعامليها على ما يقولون لتفادي الملاحقة. يظهر أثرُ تقارير هذه المنظّمة الصهيونيّة على انتقاء الكلمات التي يتمّ التعبير بها عن عمل المؤسّسة. مثلاً، تذكُرُ إحدى العاملات في مؤسسةٍ في القدس حذرها الشديد عند تغطية الأنشطة والكتابة عنها على وسائل التواصل الاجتماعيّ، وحرصها على تفادي العبارات السياسيّة التي قد تعتبرها المنظّمة الصهيونية "تُهمةً" ضدّ المؤسّسة.

وفي مقابلة مع إحدى العاملات في مجال العلاقات العامة لمؤسّسة فلسطينيّة، ذكرت أنّها خلال عملها على فيلم تعريفي عن المؤسّسة التي تعمل بها، اضطُرّت لإقصاء جزء من أرشيف المؤسسة النضالي والإبقاء على أنشطة أقل "جدلاً" للتعريف بالمؤسّسة. وتصف حوارها الداخلي قائلة: "صرت أسأل حالي هل أطلّع هاي المعلومة وأضر المؤسسة؟ صرت أنا كمان جزء من المنظومة المفروض عليها الرقابة وصرت أراقب ذاتي".

اقرؤوا المزيد: "الاتحاد الأوروبي وشروطه الجديدة.. المزيد من محاصرة الفلسطينيين".

بالشكل ذاته، يظهر حذر الموظّفين في الاجتماعات الدوليّة التي يتواجد فيها أعضاء من المونيتر المتيقّظين لكل كلمة يقولها العاملون في المؤسسات الفلسطينيّة. يؤدّي ذلك إلى رقابة ذاتيّة شديدة من قبل ممثلي المؤسسات على ما يقولونه وكيف يقولونه.

 ولا تكتفي المونيتر بمراقبة التصريحات على صفحات المؤسّسة أو في المؤتمرات، فتُراقب الحسابات الشخصيّة على وسائل التواصل الاجتماعي للعاملين في المؤسسات. في تقرير نُشر بداية العام الماضي عن مؤسسة اتحاد لجان العمل الزراعيّ في غزّة، التي تمّ تعليق أحد أهمّ مصادر تمويلها لاحقاً في ذلك العام، تتبّعت المونيتر عدداً من صفحات مؤسّسيها والعاملين بها. واعتبرت أيّ صورة نعي لشهيد أو مشاركة في مسيرة تُهمةً تُثبت تورّط الموظّفين "بالإرهاب". وهذا مثال واحد من عدّة أمثلة في تقارير تعتبر مشاركة صورة لدلال المغربي أو مروان البرغوثي أو حتّى ياسر عرفات تُهمة.

في حالة ملاحقة الأفراد هذه، تتبنّى المؤسساتُ لغةً شديدةَ الحذر في مناهضة الاحتلال، وتُقيّد إمكانيّات التعبير عن الموقف الحقيقيّ والصارخ من جرائم الاحتلال إلا بلغةٍ منمّقة. وسيُصبح أيُّ تضامنٍ من أفراد المؤسسة مع أيّ أسيرٍ، أو نعيٍّ لأي شهيد، أمراً تنصح المؤسسةُ بتفاديه.

 متى نرفض الابتزاز؟

المراقبة التي يفرضها موظّفو المؤسسات على أنفسهم وعلى تعبير مؤسساتهم تشكّل مثالاً على كيفيّة تغيّر رواية تاريخنا النضاليّ الفرديّ والمؤسساتيّ. وفيما يُتوقّع من الأفراد أن يتمسّكوا بمقولاتهم، وألا يخضعوا للملاحقة الأمنيّة ومحاولات التخويف، فمن المتوقّع أيضاً أن تتحمّل المؤسسة على عاتقها عبء مقاومة الضغوطات، والدفاع عن هؤلاء الموظّفين بدلاً من إقصائهم، والبحث عن إمكانيات الوجود خارج اشتراطات التمويل الغربيّ وضغوطاته.

تبني المنظّمة الصهيونيةُ عملها على منطق أن المؤسسات تتغيّر مع تغيّر أفرادها. ولكن المقولة العكسيّة صحيحة كذلك: يُمكن للمؤسسات أن تساهم في مساندة أفرادها أمام الضغوطات وتتخذ مواقف نضاليّة تتحمّل كلفتها، من أجل الحفاظ على مساحة من التعبير السياسيّ الوطنيّ، والحفاظ على ما تبقّى من نفسٍ نضاليّ في مواجهة تهديد ومراقبة NGO Monitor.

*يُنشر هذا المقال ضمن برنامج زمالة الكاتبات والصحافيات الذي بدأه "متراس" منذ يناير/ كانون الثاني 2021.