28 ديسمبر 2019

الاتحاد الأوروبيّ وشروطه الجديدة.. المزيد من محاصرة الفلسطينيّين

الاتحاد الأوروبيّ وشروطه الجديدة.. المزيد من محاصرة الفلسطينيّين

ضمن مشاريعه الجديدة في تمويل عدد من المؤسسات الأهليّة الفلسطينيّة، أضاف الاتحاد الأوروبيّ لعام 2019 بنوداً جديدةً في عقوده تُـقيّـد استفادة من يعتبرهم تنظيماتٍ "إرهابيّة" أو أفراداً "إرهابيين" من تلك المشاريع والأموال. البند 1.5 الوارد في الملحق رقم 2 من اتفاقيات التمويل1وردّ هذا البند في الملحق رقم 2، بالإنجليزيّة: ANNEX II: General conditions applicable to European Union-financed grant contracts for external actions، والتي وصلت نسخٌ منها لعدد من المؤسسات الفلسطينيّة التي حصلت على منح من الاتحاد الأوروبيّ، ينصّ على أن المؤسسات الفلسطينيّة مُلزمة بالتأكد أن لا يكون المتعاقدون الفرعيون أو الثانويون معها، أو المشاركون في ورشاتها التدريبيّة، أو من يحصل من خلالها على دعم ماليّ، ممن تندرج أسماؤهم ضمن قائمة "المنع" الخاصّة بالاتحاد الأوروبيّ.2النصّ بالإنجليزيّة: Grant beneficiaries and contractors must ensure that there is no detection of subcontractors, natural persons, including participants to workshops and/or trainings and recipients of financial support to third parties, in the lists of EU restrictive measures.

وتشمل قائمة "المنع" الأوروبيّة (بالانجليزيّة EU restrictive measures) عدداً من الأحزاب وحركات المقاومة الفلسطينيّة، ومنها حركة "حماس"، وكتائب عزّ الدين القسّام، وكتائب شهداء الأقصى، وحركة الجهاد الإسلاميّ، والجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين، والجبهة الشّعبية لتحرير فلسطين- القيادة العامة، بالإضافة إلى ورود اسم حركة حزب الله اللبنانيّة. ولا ترد في القائمة حتى اللحظة أسماء أفراد فلسطينيّين يتهمهم الأوروبيّون بالصّلة مع ما يُسمّيه "الإرهاب".

كما أنّ البند 12.2 من الملحق الثاني يمنح الاتحاد الأوروبيّ الحقّ في فسخ العقد من طرف واحد، إذا تبيّن له -من خلال حُكم قضائيّ نهائيّ أو قرار إداريّ أو من خلال أدلّة في حوزته - بأن المستفيدين من المشروع الذي يموّله متورطون بتهم تتعلق بالرشوة والفساد، أو المشاركة في تنظيمات إجراميّة، أو في ارتكاب "هجمات إرهابيّة" أو في تمويل ما يُسمى "الإرهاب".

وقد أثارت هذه البنود اعتراضَ العديد من المؤسسات الفلسطينيّة، والتي قالت إنّها بنود لم تَرِد في اتفاقيات سابقة، خاصّةً أنّ الموافقة عليها تعني القبول بمقايضة أموال المانحين بموقفٍ سياسيّ يُدين أعمال المقاومة الفلسطينيّة ويقبل بوصمها بـ"الإرهاب" كما تُعرِّفه المعايير الأوروبيّة والأميركيّة الرسميّة. وقد اجتمع ممثلون عن المؤسسات الأهلية الفلسطينيّة منتصف الشهر الجاري، مع ممثل الاتحاد الأوروبيّ توماس نيكلاسون، لمطالبته بالتراجع عن هذه البنود، وسلّموه في نهاية الاجتماع رسالةً تُلخِّصُ اعتراضاتِهم، وقّعت عليها 134 مؤسسة وجمعية أهليّة فلسطينيّة في الضّفة والقطاع والقدس.

وفي معرض دفاعها عن موقفها، أشارت المؤسسات الفلسطينيّة إلى أن البنود الجديدة تتعارض مع البند رقم 32 من قانون رقم (1) للجمعيات الخيرية والأهلية الفلسطينيّة والذي يمنع قبول التمويل المشروط، كما اعتبروها تضييقاً على أعمالهم في "الحيز المتآكل" أصلاً الذي يعملون في إطاره. كما اعتبرت تلك المؤسسات أنّ إلزامها بالتوقيع على هكذا عقود "سيُفقدها شرعيتها مجتمعيّاً". إضافةً إلى ذلك، يُخشى أن يستخدم البند 12.2 قراراتٍ قضائيّةً صادرةً عن المحاكم الإسرائيليّة بحقّ فلسطينيّين والاستناد عليها لرفض استفادتهم من مشاريع مموّلة من الأوروبيّين، إذ أنّ الموافقة على هذا البند تستبطن تجريم أسرى فلسطينيّين.

الردّ الأوروبيّ 

وفيما يبدو استخفافاً بمطالب المؤسسات الفلسطينيّة المتعلقة بحذف البنود الجديدة، جاء ردُّ ممثلي الاتحاد الأوروبيّ مُركّزاً على توضيح تلك البنود المرفوضة وشرح آليات تطبيقها باستفاضة. مثلاً، تضمّن الردُّ شرحاً لكيفية البحث عن أسماء التنظيمات الممنوعة أوروبيّاً من خلال الموقع الإلكترونيّ للاتحاد. وهو ردٌّ يُشير إلى أن احتمالات تراجع الأوروبيّين عن شروطهم الجديدة هي احتمالات ضئيلة للغاية. 

كما حاول الردّ الرسميّ للاتحاد الأوروبيّ في الاجتماعات والمراسلات التخفيف من وقع هذه الشروط، بالقول إنّها أُضيفت لكلّ الاتفاقيات التعاقديّة التي يعقدها الاتحادُ حول العالم، وليس فقط في فلسطين، وإنّها موجودة منذ سنوات في التعليمات العامّة لتمويل المشاريع أوروبيّاً. كما أشار الرّد إلى أنّ هذه البنود "لن تؤثر" كثيراً -حسب ادعائهم- على عمل المؤسسات، إذ أن قائمة المنع الأوروبيّة الخاصّة بالأفراد لا تحمل أي اسمٍ لأي شخص فلسطينيّ. مع ذلك، فإنّ هذه القائمة –وفق الردّ الأوروبيّ نفسه- قابلة للتحديث ويتم تحديثها دوريّاً، مما يعني أن أسماءً فلسطينيّةً قد تُضاف لاحقاً، هذا إضافةً إلى الرفض المبدئي للتمويل المشروط سياسيّاً ورفض وجود قوائم تُصنف النّاس أو الحركات الفلسطينيّة وفق معايير أوروبيّة للـ"إرهاب".  

وفي حالة الرفض المطلق، وعدم استلام هذه الأموال والتوقيع على الاتفاقيات،  قال الأوروبيون إنّهم سيحوّلونها إلى مؤسسات فلسطينيّة أو دوليّة أخرى تعمل داخل فلسطين وتقبل بهذه الشروط، أو سيحوّلونها لتمويل مشاريع لهم في بلاد أخرى خارج فلسطين.

مؤسسات القدس.. ماذا ينتظرنا؟

ينعكس أثر هذه الشروط الجديدة بالذات على نشاطات المؤسسات العاملة في القدس، باعتبارها واحدةً من أبرز المؤسسات الفلسطينيّة التي تحصل دوريّاً على تمويل الاتحاد الأوروبيّ. وقد وافق الاتحاد الأوروبيّ منتصف العام الجاري على تمويل عدّة مشاريع في القدس تُنفذها عدة مؤسسات بالشراكة. على سبيل المثال، حصلت "شبكة شفق"، والتي تضمّ اتئلافاً لمؤسسات ثقافيّة فنيّة كمركز يبوس الثقافيّ ومعهد إدوارد سعيد وغيرها، على موافقة الاتحاد بتمويل مشروع يمتدّ لـ3 سنوات بقيمة مليون و800 ألف يورو. كما حصلت شبكة من المؤسسات الحقوقيّة تضمّ 6 مؤسسات، كمركز القدس للمساعدة القانونيّة وحقوق الإنسان، ومؤسسة سانت إيف الحقوقيّة، والائتلاف الأهلي للدفاع عن حقوق المقدسيين، على تمويل بقيمة 2 مليون يورو لتنفيذ مشروع حقوقيّ مشترك لمدة 3 سنوات. 

هذه المؤسسات وغيرها من المؤسسات الفلسطينيّة تلقت ردّاً بقبول طلباتِها للتمويل من الاتحاد الأوروبيّ، لكنّها بعد أن علمت بوجود البنود الجديدة طالبت بحذفها، وامتنعت عن التوقيع على الاتفاقيات حتى هذه اللحظة. وبما أنّ الاتحاد الأوروبيّ -كما يبدو- لن يتراجع عن بنوده، فمن المتوقع أن يَطلبَ من هذه المؤسسات ردّاً نهائيّاً بخصوص توقيع الاتفاقيات خلال شهر يناير/ كانون الثاني المقبل، بعد انتهاء عطلة الأعياد. 

كما حصلت مؤسسة الرؤيا الفلسطينيّة في القدس على الموافقة بتمويل مشروع مشترك بينها وبين جمعية ACT للدراسات والوسائل البديلة لحل المنازعات، والجمعية الفلسطينيّة الأكاديمية للشؤون الدوليّة –PASSIA، بقيمة مليون ونصف يورو لـ3 سنوات، يتعلق بإنشاء وحدة ضغط ومناصرة. وقد وقعّت مؤسسة الرؤيا -باعتبارها المنفّذ الرئيس للمشروع- على اتفاقية التمويل بشروطها الجديدة في يوليو/ تموز الماضي، إلا أنّها نشرت مساء الخميس 26 ديسمبر/ كانون الأول الجاري بياناً قالت فيه إنّها "ملتزمة بالموقف الوطنيّ"، وإنّها تقف "خلف مؤسسات المجتمع المدنيّ الفلسطينيّ بما تراه ملائماً للتعامل مع هذه المعضلة"، دون أن تذكر بشكلٍ واضح وصريحٍ في بيانها فيما إذا كانت قد جمّدت أو سحبت توقيعها على الاتفاقية أم لا. وقد ذكرت بعض المصادر أن مؤسسات أخرى وقّعت فعلاً على البنود الجديدة، ولكن لم يتسنَ التأكد من ذلك حتى اللحظة.

وبما أن الأوروبييّن لن يتراجعوا على الأغلب، فإنّ المقلق اليوم هو ما يطرحه البعضُ في معرض نقاش "الحلّ" والمخرج من هذه "الأزمة"، إذ طرح البعض خياراً يبدو أقرب للتراجع منه إلى الرفض، يتلخص بالموافقة على توقيع العقود، مع إضافة "التحفظ" على البنود المرفوضة، واعتبارها "غير ملزمة" للمؤسسات الفلسطينيّة، على حدّ تعبيرهم. البعض الآخر طرح إضافة رسالة توضيح تُضاف مع الاتفاقية تُعبّر فيها المؤسسات عن موقفها من النضال الوطنيّ الفلسطيني وتعتبره مشروعاً وفق القانون الدوليّ وترفض اعتباره "إرهاباً"، على أن تُعتبر هذه الرسالة -وفق طارحي هذا الخيار- مُلحقاً من ملاحق الاتفاقية، وهو خيار يبدو غير منطقيّ وغير واردٍ في عرف الاتفاقيات والعقود. وفيما يوجد من يطرح "حلول الوسط" هذه ويدافع عنها، فإنّ هناك من يرفضها جملة وتفصيلاً. ولذلك، فإنّ المقلق أكثر، أن الموقف المؤسساتيّ الذي أُجمِعَ عليه في الرسالة الرسميّة التي سُلّمت إلى الاتحاد الأوروبيّ قد يكون عرضةً للتفكك، وقد تطرح كلّ مؤسسة "حلاً" يناسبها بناء على فهمها وتفسيراتها، أو ببساطة قد تسمح لنفسها أنّ "ترتاح إلى تطمينات" الاتحاد الأوروبيّ الذي يزعم بأنّ هذه الشروط لن تُحوّلها إلى "شرطي أمنيّ".

الضغوطات من الاحتلال مرة.. ومن الممول مرّة

تأتي هذه الاشتراطات الجديدة في وقت تعاني فيه المؤسسات الأهليّة الفلسطينيّة أصلاً من تراجع في قدراتها الماليّة، وسط تحريض واستهداف من مجموعات ضغط صهيونيّة تنشط في رصد نشاطات بعض هذه المؤسسات، وتحاول تعطيل حصولها على تمويل أجنبيّ، أشهرها مؤسسة NGO Monitor الصّهيونيّة.

كما يأتي هذا التطوّر في وقت يزداد فيه تغوّل المؤسسات الإسرائيليّة في المجتمع الفلسطينيّ في القدس، سواء على شكل مراكز جماهيريّة، أو برامج تعليم لا منهجيّ، أو مؤسسات خاصّة مدعومة إسرائيليّاً، تحاول فرض نفسها واجهةً وعنواناً مُفضّلاً وسهلاً للمقدسيين، أو حتى من خلال قيام مؤسسات فلسطينيّة بتقديم طلب تمويل مشاريع من بلدية الاحتلال لتنفيذها في مدارس القدس. كما إنّه يأتي في وقت تزداد فيه شراسة سلطات الاحتلال الإسرائيليّ في إغلاق المؤسسات ومنع الفعاليات في القدس، بادعاء تبعيتها للسلطة الفلسطينيّة، وبذلك تتكاثف حلقات التضييق في القدس دوليّاً وإسرائيليّاً.

وبعيداً عن لوم صاحب المال الذي يتفاخر بـ"حقّّه" في أن يشترط كما يُريد، فإنّ هذا التضييق يُذكّرنا بضرورة إعادة النظر في آلية عمل المؤسسات الأهليّة في فلسطين. إذ أنّ غالبية مؤسسات المجتمع المدنيّ الفلسطينيّ تراخت في الاعتماد على مصادر التمويل الخارجيّ، حتى أصبح جلّ نشاطها وميزانياتها معتمداً على ما تحصل عليه من الدول الأوروبيّة المانحة، أو من الصناديق العربيّة، دون أن تنبي خلال سنوات عملها الطويلة والممتدة استراتيجيات للفكاك من هذا التمويل واشتراطاته، أو لخلق بدائل تمويليّة أخرى، كالمشاريع التجاريّة المُدرة للدخل وغيرها.