3 نوفمبر 2018

"عمليّة كناري"

ملاحقةُ وتعقّب أكاديميي المُقاطعة

ملاحقةُ وتعقّب أكاديميي المُقاطعة

نشرت الصحيفة الأميركيّة "فورورد" الشهرَ الماضي، تحقيقاً عن موقع "عمليّة كناري" Canary Mission، الذي تأسس عام 2015. يهدف الموقع إلى تعقّب وملاحقة الطلّاب والمحاضرين والعاملين في الجامعات والتجمّعات الطلّابيّة في الولايات المتّحدة، ممّن ينشطون في الحركات والمؤسّسات المناصرة للشعب الفلسطينيّ، والداعمة لحركة مقاطعة "إسرائيل".

نشرت "عملية كناري" خلال سنواتها الثلاث الأولى، أكثر من ألفِ ملفّ شخصيّ عن طلّاب ومحاضرين متضامنين مع القضيّة الفلسطينيّة. راكم الموقع الصهيونيّ قوائم سوداء تضمّ معلومات مفصّلة عن الطلاب والمحاضرين، ونشر مواقفهم المناهضة للاحتلال الإسرائيليّ، وشهّر بهم بادّعاء أنّهم "ينشرون الكراهيّة ومعاداة الساميّة". منذ تأسيسه، عمل الموقع على رصد صفحات الناشطين، ومراقبة كتاباتهم، ونشاطاتهم ومشاركاتهم، كما نشر صورهم ومعلومات عن علاقاتهم الشخصيّة والمهنيّة؛ كل ذلك تمّ بسريّة كاملة، دون الإفصاح عن هويّة القائمين على "العمليّة".

تصرّ قيادة التّيّارات اليهوديّة المركزيّة في الولايات المتّحدة على أنها لا تعرف مصادر تمويل "عمليّة كناري". إلا أنّ تحقيق صحيفة "فورورد" (يهودية أميركيّة، كما تعرّف عن نفسها) يكشف بأنّ الموقع يتلقّى تمويلاً ودعماً مالياً ضخماً من الجالية اليهوديّة في الولايات المتّحدة، ولا سيما من "الاتحاد اليهوديّ" Jewish Community Federation في سان فرانسيسكو, وصندوقه على اسم هيلين ديلر Helen Diller، وهي كُبرى المنظّمات اليهوديّة في الولايات المتّحدة وأكثرها تأثيراً. جاء هذا الإنكار عقب ارتفاع عددِ المُلاحَقين من اليهود المناهضين لـ"إسرائيل"، أو حتّى "المعارضين لسياساتها".

من يُطعِم الكناري؟

حسب "فورورد"، تلقّت "العمليّة" مبلغ 100 ألف دولار، من صندوق ديلر فقط، خلال عام 2017. حُوّل هذا المبلغ عن طريق "صندوق إسرائيل المركزيّ" Central Fund of Israel. هذا الصندوق، مُسجّل كمنظّمة خيريّة؛ صفةُ تسجيلٍ قانونية تُمكّن كلّ مواطن أميركيّ من أن يتبرّع لمنظّمة خيريّة أو مؤسسة جماهيريّة (مُصادق عليها من الحكومة الأميركيّة) بمبلغ ماليّ يصل حدّ 50٪ من إجمالي الدخل المعدّل.

يُخصم هذا المبلغ من الضرائب التي يدفعها المواطن للحكومة الأميركيّة. أي أنّ الأخيرة تعتبر هذه المؤسسات الخيريّة جزءاً من الصالح العام الذي تُوجّه إليه الضرائب. "صندوق إسرائيل المركزيّ" منظّمةٌ أميركيّة "خيريّة"، يتبرّع اليهود الأمريكيّون لـ"إسرائيل" من خلاله، ويتم إعفائهم من دفع الضرائب للحكومة الأميركيّة. بدوره، يحوّل الصندوق هذه المبالغ للمنظّمات اليمينيّة في "إسرائيل".

في إحدى الوثائق الرسميّة التي تفصّل جهاتَ تحويل الأموال، يظهر إلى جانب تحويلات صندوق ديلر (بالخطأ، بحسب ترجيح "فورورد") النص الآتي: "Canary Mission via Megamot Shalom"، أي أنّ التحويل قد تم إلى "عمليّة كناري" من خلال منظّمة تسمّى "ميغاموت شالوم"، ومعناها بالعربيّة "منهجيّات السلام"، وهي هيئة مجهولة مسجّلة في "إسرائيل" على أنّها "شركة غير ربحيّة لمصلحة الجمهور".

تهدف الهيئة، حسب تسجيلات "الشركة" في "إسرائيل"، إلى "الحفاظ على القوّة والصورة الوطنيّة لدولة إسرائيل، والعمل من خلال نشر المعلومات بالوسائل التكنولوجيّة". وفق التسجيل، يُشرف على الشركة جونثان باش، اليهوديّ ذو الأصول البريطانيّة، وهو عضو في هيئتها الإداريّة أيضاً. في الوقت ذاته، ليست للشركة أي فعاليّة إلكترونيّة ظاهرة، عدا إحالاتٍ على الإنترنت حُذفت هي الأخرى بعد نشر تحقيق "فورورد".

إثر عمل أكاديميين أميركيّين على وقف "عمليّة كناري"، صعّد المشروع من عدوانيّته ضد المنتقدين والفاعلين في الكشف عن مصادر تمويله. ففي خطوةٍ اعتبرتها الصحيفة الأميركيّة "تهديداً" للطلبة والمحاضرين؛ تجوّل ناشطان مجهولان داخل الحرم الجامعيّ لـ"جامعة جورج واشنطن" في العاصمة الأميركيّة، ارتدى أحدهم قناعاً أصفر، أمّا الآخر فتنكّر بزيّ "تويتي" (شخصيّة الكناري الكرتونيّة). جاء في التحقيق أيضاً، تصريحٌ لطالب أُدرج اسمه ضمن قوائم الموقع السوداء، مفاده أنّه بات يخشى التعاملَ مع الطلاب ذوي المواقف الدّاعمة لـ"إسرائيل"، خشية إبلاغ المشرفين عنه، على موقع "عمليّة الكناري".

من له حقّ الدخول إلى الأرض المحتلّة؟ الكناري يقرّر...

ظهرت "عمليّة كناري" مع اشتداد نشاط "حركة مقاطعة إسرائيل" في الجامعات الأميركيّة، بعد تبنّي عدّة نقابات طلّابيّة، ونقابات للمحاضرين نداء المقاطعة. عام 2015 مثلاً، أقرّ المؤتمر السنويّ لـ"جمعيّة الأنثروبولوجيين الأميركيين" تبنّي نداء المقاطعة. قرار سبقتها إليه "جمعيّة الدراسات الأميركيّة"، إحدى أعرق مؤسسات الدراسات الثقافيّة والتاريخيّة الأميركيّة، وأكبرها.

كما صادقت في مارس/ آذار من هذا العام، نقابةُ الطلّاب في "جامعة مينيسوتا" على تبنّي مقاطعة "إسرائيل". إثرَ اشتداد هذه الحملة، صعّدت "إسرائيل" من سياسة طرد الأجانب المسافرين إلى الأراضي المحتلّة، وحظر عودتهم إليها لفترات متفاوتة، إذ سنّ الكنيست الإسرائيليّ، في شهر مايو/ أيّار عام 2017، قانوناً يمنع دخول الأجانب ممن يدعون إلى مقاطعة "إسرائيل". قبل سنّ القانون، اعتمدت هذه السياسة على قرارات سريّة تصدر عن أمن المطارات والمخابرات الإسرائيليّة العامّة.

إثر كشف "فورورد" عن مموّلي هذا المشروع والقائمين عليه، نشرت صحيفة "هآرتس" الإسرائيليّة تحقيقاً آخر يُشير إلى أن المخابرات الإسرائيليّة وأمن الحدود، يستخدمان موقع "عمليّة كناري" كمصدرٍ معتمدٍ لاستقاء المعلومات حول المواطنين الأميركيين. وأنّ منع دخول الأجانب يتمّ على أساس ظهور اسمهم في هذا الموقع. كما يخضعون، قبل إعادتهم إلى بلادهم، إلى تحقيقات تتعلّق بنشاطهم السياسيّ، وتُطرح عليهم أسئلةً عن المعلومات الواردة في موقع العمليّة.

تعزّز هذه المؤشرات، حسب صحيفة "هآرتس"، التقديرَ بأنّ الموقع على صلةٍ مباشرةٍ ووطيدة بجِهات حكوميّة إسرائيليّة، على رأسها وزارة الشؤون الاستراتيجية. مما يعني تشغيل الحكومة الإسرائيليّة لجهاز ملاحقةٍ للمواطنين الأميركيين على خلفيّة مواقفهم السياسيّة.