7 فبراير 2022

"من كلّ حارة وبيت وشارع": عن دور العمارة في مقاومة الاستعمار

"من كلّ حارة وبيت وشارع": عن دور العمارة في مقاومة الاستعمار

ما إن خرج الفلسطينيون منهكين من الحرب العالميّة الأولى حتى وجدوا أنفسهم في مواجهة المشروع الصهيونيّ الاستعماري الهادف إلى إقامة وطنٍ قوميٍّ ليهود العالم على أراضيهم. وعلى مدى السنوات المئة الماضية، أخذت هذه المواجهة أشكالاً وأنواعاً من الرفض والمقاومة، تعدَّدت أدواتُها من عصيانٍ مدنيٍّ سِلميّ إلى مواجهةٍ عسكريّةٍ مُسلّحة. في هذه المواجهة الشرسة ما بين المشروعين، مشروع الاستعمار ومشروع التحرر، كانت عمارة فلسطين: مدينتها وقريتها، بُنيتها التحتيّة وطبيعتها الجغرافيّة، جزءاً رئيساً وأدواتٍ فعليّةً فيها. 

لم يكن وعد بلفور مجردَ وثيقةٍ تؤكد دعمَ بريطانيا السياسيّ لمشروع الحركة الصهيونيّة فحسب، بل كان أيضاً مرجعيةَ عملٍ لسلطات الانتداب بما يضمن إقامة ذلك الوطن اليهوديّ. ولم يكن تشجيع الهجرة اليهوديّة الوسيلة الوحيدة لتهويد الأرض، بل رافقته العديدُ من السياسات والقرارات التي استطاعت تغيير المشهد الفلسطينيّ وتمكين رأس المال اليهوديّ من السيطرة على المشاريع الوطنيّة الكبرى، وإقامة المستعمرات والمدن والمشاريع التي كانت دعائم قيام دولة اليهود، وهذا ما عبرت عنه صحيفة "فلسطين" اليافيّة في عددها الصادر يوم الأربعاء السابع عشر من يونيو/حزيران لعام 1936 (الصورة أدناه). 

كاريكاتير في صحيفة "فلسطين" في عددها الصادر بتاريخ 17/06/1936 يُظهر مُلَخصاً لبعض أساليب بريطانيا في تطبيق وعد بلفور.

وبطبيعة الحال، لم يقف الفلسطينيون مكتوفي الأيدي أمام سياسات بريطانيا، وتعدّدت أشكالُ مقاومتهم لسياساتها. هذه المقالة القصيرة تحتوي بعض جوانب هذه المواجهة، عارضةً نماذج من أساليب الاستعمار في استخدام البيئة المبنية كأداة سيطرةٍ وتحكّم، وفي المقابل أساليب الفلسطينيّين في استخدام البيئة المبنية كأداةِ مقاومةٍ وصمود.  

التخطيط العمرانيّ كأداةِ سيطرة

احتلّ الجيش البريطانيّ فلسطين بعد انتصارِه في معركة غزّة الثالثة في عام 1917، وظلّت فلسطين تحت الحكم العسكريّ حتى منتصف عام 1920 حين تم إنشاء إدارةٍ مدنيّة، وأصبحت رسميّاً تحت حكم الانتداب البريطانيّ عام 1923. ومنذ البداية، وفي فترة الحكم العسكريّ، استخدمت بريطانيا التخطيطَ العمرانيّ كأداةٍ للسيطرة على الأرض والسُّكان في فلسطين. 

فمدينة القدس مثلاً، بدأ تهويدها عمرانيّاً منذ أوّل مخططٍ هيكليٍّ لها بعد الاحتلال، وَضَعه باتريك جيديس عام 1919. وفي سبتمبر/ أيلول من العام نفسه اعترض مسلمو ومسيحيّو المدينة على تعيين جيديس كمخططٍ لها1Roberts, N. E., 2013. Dividing Jerusalem: British Urban Planning In The Holy City. Journal of Palestine Studies, XLII(4), p. 7–26، فقد كان الأخير منحازاً ومناصراً للأجندة الصهيونيّة، وقد عُيّن في ذلك المنصب بتأثيرٍ ودعمٍ من أعضاء في الحركة الصهيونيّة في بريطانيا.2Rubin, N. H., 2011. Geography, colonialism and town planning: Patrick Geddes’ plan for mandatory Jerusalem. Cultural Geographies, 18(2), p. 231–248.

وفي عام 1925 قدّم أهل المدينة مذكرةً لعصبة الأمم تُظهِر كيف استُثنيت حاجاتُهم ورغباتُهم في مشاريع التخطيط العمرانيّ لمصلحة الحركة الصهيونيّة. فمثلاً، تُسهّل طريقة فرز الأراضي الجديدة، حسب المخطط، على الحركة الصهيونيّة شراء المزيد من الأراضي، كما أنّ مشروعَ الصرف الصحيّ في حي مئة شعاريم اليهوديّ – وفقاً للمخطط- يؤديّ إلى إحداث التلوّث في أحياء الشيخ جرّاح ووادي الجوز وباب الزاهرة. كذلك اعترضوا على أن المخطط يشمل إغلاق مقبرة مأمن الله بدواعي "صحيّة"، في حين أن السبب الحقيقي لذلك هو فتح المجال لمزيد من التوسع العمرانيّ اليهوديّ في تلك المنطقة.3راجع المصدر الأول.

اقرؤوا المزيد: "السّلطة تعدم مكان الاحتجاج الرئيس".

وبالطبع، لم يكن التخطيط العمرانيّ المدنيّ هو الوسيلة الوحيدة لإحكام السيطرة على المدينة العربيّة في فلسطين. فمدن فلسطين القديمة كانت تشكّل مصدر قلقٍ واستفزازٍ للجيش البريطانيّ، إذ كانت حاضنةً للثورات والفدائيّين. فطبيعة العمران في المدينة العربيّة الفلسطينيّة القديمة تُعطي أفضليةً في السيطرة المكانيّة لسُكانها على جنود الاحتلال، وهذا ما دفع جيش الاحتلال البريطانيَّ إلى انتهاج العمليات العسكريّة كأداةٍ لإعادة رسم وتخطيط المدينة العربيّة. 

مشهد في مدينة يافا يُظهر تدمير المباني السكنية أثناء عملية المرساة لفتح طرق واسعة داخل المدينة القديمة، خلال فترة الانتداب البريطاني.

أوضحُ مثالٍ على ذلك ما قامت به القوات البريطانيّة في مدينة يافا عام 1936 ضمن عملية المرساة  Operation Anchor، إذ هدمت خلالها مئات البيوت في يافا القديمة لفتح شوارع عريضة تسمح بدخول عربات الجيش بسرعةٍ إلى قلب المدينة.4Weizman, Eyal, interview by Phillip Misselwitz. 2003. Military Operations as Urban Planning وبالرغم من أنَّ السلطات ادعت أنَّ العمليةَ تسعى لتجميل المدينة وتحسين ظروفها الصحيّة والبيئيّة، إلا أنَّ إحكام السيطرة العسكريّة على معقل الثورة الفلسطينيّة الكبرى كان الهدف الأساس من العملية. وبالطبع لم تكن يافا الضحية الوحيدة لهذا الأسلوب، فعملياتٌ مشابهةٌ حدثت في جنين وفي نابلس، و لكن بوتيرةٍ اقلّ. 

المباني العسكريّة

وفي أسلوبٍ آخر من أساليب استخدام العمران في السيطرة الأمنيّة على المدينة الفلسطينيّة، انتهج جيشُ الاحتلال البريطانيّ سياسةَ عسكرةِ البيوت السكنيّة والمباني المدنيّة، وتحويلها إلى ثكناتٍ عسكريّة للسيطرة على مراكز المدن أو مفترقات الطرق. فمن خلال مراجعات الأخبار اليوميّة في الصحف الفلسطينيّة خلال فترة الانتداب يتبين أنَّ هذه الممارسة كانت سياسةً دارجةً في العديد من المدن العربيّة. ففي نابلس مثلاً، كانت القوات البريطانيّة تحتل مبانٍ عامّة أو مبانٍ سكنيّة، وتقوم بتحصينها وإغلاق محيطها و نصب مدافع رشاشة على أسطحتها، وبالتالي تحويلها إلى مراكز عسكريّة تُحيط بالبلدة القديمة، وتُسيطر على مداخلها. وكان من بين تلك البيوت عمارة القمحاوي في شارع غرناطة، والنادي العربيّ في شارع حطين، وفندق فلسطين في حيّ الشويترة وغيرها الكثير من المباني.

وبالإضافة إلى عسكرة المباني المدنيّة، وفي خضم محاولاتها لقمع ثورة عام 1936، عادت بريطانيا إلى استنساخ أسلوب العمائرة أو القلاع الدفاعيّة. فقصة الـ 66 قلعة، والتي تعارف عليها بقلاع تيجارت، بدأت كاستراتيجيةٍ بريطانيّةٍ عسكريّة لتعزيز السيطرة الأمنيّة على فلسطين وقمع ثورتها الكبرى. بناءً على تجربته في قمع البنغاليين في الهند، استُدعي السير تشارلز تيجارت لفلسطين لتقييم الوضع. وبعد جولةٍ في فلسطين المُستعمرة، أوصى بأنّه يجب إعادة احتلال الأرض عسكريّاً واقترح إنشاء شبكةٍ من 77 مركزاً عسكريّاً مُحصَّناً في جميع أنحاء البلاد، وفي أماكن قريبة من المراكز الحضريّة الكبيرة أوعلى مفترقات طرقٍ رئيسيّة.5Cahill, Richard. 2018. "The Tegart Police." Jerusalem Quarterly (Institute for Palestine Studies). 

ستة وستون مركزاً مُحصّناً بُنيت من بين الـ77 المقترحة، وتلك القلاع هي ما تعارفنا على تسميته بـ"المقاطعة"، فمقاطعة رام الله التي حوصر بها الرئيس الراحل ياسر عرفات، ومقاطعة نابلس التي هدمتها دبابات الاحتلال، وغيرها من المقاطعات هي بعض ما ورثناه من الحكم العسكريّ البريطانيّ. 

وجديرٌ بالذكر أنّ تلك المقاطعات كانت بمثابة قلاعٍ ٍعسكريّة مُعدّة لإسكان الضباط وعائلاتهم، ومجهّزة للدفاع والصمود أمام هجماتٍ مُسلّحة أو عمليات حصارٍ متوقعة. فمقاطعة نابلس كانت مُجهّزةً بأبواب مُحصنة، وأبراج مراقبة، وجدرانٍ خرسانيّة مُسلّحة، وخزان مياه يكفي سكّان المقاطعة من ضباطٍ وعائلاتهم لمدة شهرٍ كاملٍ في حال الحصار. 

الريف الفلسطيني، طبيعة مقاومة

ومن جانبهم، اتخذ الفلسطينيون أشكالاً مختلفة من المقاومة استُخدِمت فيها البيئةُ المبنيةُ والطبيعيّة في تكتيكات الهجوم والدفاع ضدَّ السلطات البريطانيّة. في مذكراته أوضح بهجت أبو غربيّة أنّه في فترة الثورة الكبرى عام 1936 كانت شبكة طرق السيارات في المناطق الريفيّة لا تزال متخلفة، وتتألف أساساً من طرقٍ زراعيّةٍ ضيّقة يمكن إغلاقها أو تخريبها بسهولة، وهذا ما جعل المناطق الريفيّة الطبيعيّة والقرى أماكن مُفضَّلة للثوار لشنّ الهجمات واللجوء وتخزين ذخائرهم.6أبو غربية، بهجت . 1993. في خضم النضال العربي الفلسطيني. بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية. 

اقرؤوا المزيد: "كيف ابتلعت غاباتُ "إسرائيل" أراضينا المُهجّرة؟".

ومن أشهر قصص الثورة في هذا الجانب معركة بلعا. ففي يوم الجمعة 4 سبتمبر/أيلول 1936 نشرت صحيفة "بلفاست تلغراف" البريطانيّة خبراً عن كمينٍ لجنود بريطانيين على الطريق بين نابلس وطولكرم قرب قرية بلعا. وقدّمت الصحيفة تفاصيل عن القتال الذي استمر لعدة ساعات يُظهِرُ أنَّ المُقاتلين الفلسطينيّين استخدموا بشكلٍ مُبدعٍ تضاريسَ المكان لشنِّ الهجوم على قافلة الجند، ومهاجمة وعرقلة قوات الإسناد، بل وحتى إجبار طائرةٍ عسكريّةٍ على الهبوط بعد إصابتها بإطلاق النّار. 

طائرة مقاتلة بريطانية أثناء عمليات المراقبة فوق الجبال المحيطة بمدينة نابلس سنة 1936.

لم يكن هذا الهجوم الوحيد الذي يتم في المنطقة وبهذه الطريقة. فتكرار تلك العمليات بنفس الأسلوب وفي نفس المنطقة جعل الجيش البريطاني يطلق على ذلك المنعطف مصطلح Windy Corner. ففي تلك المنطقة استخدم الفدائيّون العرب أفضلية التلال المُحيطة بالشارع العامّ، بالإضافةِ إلى الصخور والنباتات التي يكمنون من خلفها لمفاجأة قوافل الجيش البريطانيّ. 

وفي نابلس نفسها، كان مقرُّ قوات الجيش البريطانيّ في مبنى القشلة القديم والذي يقع في المنطقة الأضيق ما بين جبلي عيبال وجرزيم، ما جعل الفدائيين العرب يتخذون من صخور ونباتات الجبلين سواتر لتنفيذ عملياتهم ضدّ الجنود البريطانيّين، وهو ما جعل الجيشَ البريطانيّ يستعين بالطائرات العسكريّة لصدّ تلك الهجمات. 

طالعلك يا عدوي طالع من كل بيت وحارة وشارع

بالإضافة إلى استغلالهم تضاريس وطبيعة البلاد، وخصوصاً في المناطق الريفيّة أو على أطراف المدن، استغل الثوارُ الفلسطينيّون العرب البيئةَ العمرانيّة، وخصوصاً في المدن، لممارسة تكتيكات عسكريّةٍ في الهجوم والانسحاب ونصب الكمائن والقنص والمراقبة، وغيرها من العمليات العسكريّة.

في المدن، استخدم الفدائيون معرفتهم الحدسيّة المتأصلة بالمكان، بالإضافة إلى شبكاتها الاجتماعيّة في تأمين عمليات الكرّ والفرّ والهجوم والتمويه والاختفاء، خصوصاً في مدن القدس ويافا وحيفا ونابلس. فبهجت أبو غربيّة مثلاً، يصف في مذكراته المنشورة في كتاب "في خضم النضال العربي الفلسطينيّ" كيف كانت خصائصُ المباني والشوارع والأزقة جزءاً من عمليات التخطيط والتنفيذ لعملياتهم. ورغم أنّه لم يكن يقصد التدليل على مكانة الحيّز العمرانيّ في العمليات، إلا أنَّ وصفَه لعمليات التخطيط والتنفيذ يُظهِرُ مدى أهميّة تلك الخصائص العمرانيّة فيها. ففي معركة المصرارة عام 1948 على سبيل المثال، استخدم أحدُ رجاله سطح أعلى بنايةٍ في المنطقة لزيادة مدى قذائف المورتر التي تُطلق تجاه القوات الصهيونيّة.

وفي حادثةٍ أُخرى، وصف أبو غربية كيف تم التخطيط للانسحاب من عملية تفجير سينما أديسون في القدس عام 1936، إذ تم اختيار أحد الأزقة المتعرجة كطريقٍ للهروب لأنّه يُوفّر إمكانية الوصول إلى قلب القدس القديمة دون الحاجة إلى الركض في الشوارع العريضة حيث يمكن للعساكر البريطانيين تتبعهم وملاحقتهم. 

وقد عجّت الصحفُ اليوميّة في فلسطين وفي بريطانيا بتفاصيل عمليات الفدائيّين والتي تَظهَرُ فيها أساليبُهم في استخدام البيئة المبنية، وخصوصاً أثناء الثورة الفلسطينيّة الكبرى. كانت عمليات القنص من على أسطحة المباني والهروب عبر الأسطحة المتلاصقة على سبيل المثال مصدر قلق وتحدٍّ للقوات البريطانيّة. ففي رسالة من قبل مكتب قيادة منطقة يافا العسكريّ7من مراسلات محفوظة في أرشيف دولة الاحتلال.، برّر قائد المنطقة طلبه باقتراح موقعٍ جديدٍ لقيادة المنطقة بعدة أسباب، كان من بينها أنَّ المقاتلين العرب يتمكّنون من إطلاق النَّار والمقذوفات من على أسطح البيوت المجاورة مما يُشَكِّلُ تهديداً أمنيّاً عليهم.

قصصٌ أُخرى مشابهة تكرّرت في عدة مدن، ومنها مدينة نابلس حيث كان العساكر البريطانيون يحتلون بيوت المدينة كما أسلفنا سابقاً، غير أنَّ المُقاتلين العرب كانوا يتخذون من النسيج العمرانيّ المجاور نقاط انطلاقٍ لِهَجماتِهم، ومن ثمّ الانسحاب إلى داخل أحياء البلدة القديمة والاختفاء عن أعين الجنود. 

حرب البُنية التحتيّة

وإن كان المقاتلون العرب قد استخدموا البيئة الطبيعيّة في المناطق الريفيّة، والبيئة المبنية في المناطق الحضريّة، فإنّهم لم يغفلوا أيضاً عن استهداف البنية التحتيّة الواصلة ما بين المراكز الحضريّة والريفيّة لعرقلة عمل قوات الجيش البريطانيّ والمستوطنين اليهود وعصاباتهم المُسلّحة. ومن أهمِّ تكتيكاتهم في ضرب البُنية التحتيّة كان استهداف خطوط سكة الحديد عن طريق زرع عبواتٍ داخل المقطورات، أو على سكة الحديد أو حتى تدمير بعض الجسور. 

وكان من بين العمليات التي استهدفت البُنية التحتيّة واللوجستيّة أيضاً استهداف خطوط الهاتف والتيليغراف وخطوط إمداد البترول. ففي تقريرٍ لـ"شرطة فلسطين" السنويّ لعام 1938، ذُكِرَ 720 هجوماً استهدف خطوط الهاتف، و341 هجوماً استهدَفَ سكك الحديد، و104 هجماتٍ استهدفت خطوط إمداد البترول و335 هجوماً استهدف خطوط المواصلات.8عبد الرازق، فيصل عارف. 1995. أمجاد ثوريّة فلسطينيّة وحياة بطلٍ من أبطالها. الطيبة.

صورة من صحيفة The Sphere البريطانية تظهر مقاتلين فلسطينيين على أحد النوافذ في مدينة القدس.

عرضنا في هذه المقالة في عجالة بعضاً من أشكال المواجهة العمرانيّة أو المكانيّة ما بين مشروعي الاستعمار ومشروع التحرّر الوطني، وما زالت هناك أشكال أُخرى لا تقلُّ أهميّةً عنها، مثل حرب البلوكات الحضرية Urban Blocks، أو حرب خطوط المواصلات، أو حرب الهويّة العمرانيّة، أو حرب المشاريع الوطنيّة الكُبرى، وغيرها الكثير من جبهات المواجهة المتعلقة بالتطور العمرانيّ وبناء الدولة. 

 

غير أنَّ المهم هنا ليس سرد تلك الأعمال بقدر ما هو التدليلُ على بنيوية المقاومة ضدّ المشروع الاستعماريّ. فالمشروع الصهيونيّ هو مشروعٌ استيطانيٌّ إحلاليّ يستبدل شعباً مكان شعب، وبالتالي فالمقاومة في هذه الحالة ليست آنيةً أو ردّة فعلٍ، بل هي هوية بنيويّة في شعبٍ لا يقبل باستبداله، وبالتالي تصبح عمارتُه، بيئتُه المبنية، وطريقةُ استخدامه للمكان جزءاً من هويّته المقاومة والمتمردة.