1 يناير 2022

السّلطة تُعدِمُ مكانَ الاحتجاج الرئيس

السّلطة تُعدِمُ مكانَ الاحتجاج الرئيس

في الخامس والعشرين من ديسمبر/ كانون الأول 2021، وفي مشهدٍ مليءٍ بالاستعراض العسكريّ والرمزيّ وبعد قمعٍ تصاعدت حدّته في الأشهر السابقة، شاركت مركباتٌ من أجهزة الأمن الفلسطينيّة في "قافلة الميلاد" التي جابت شوارع رام الله احتفالاً بعيد الميلاد المسيحيّ. يقول ذلك المشهد الكثير، لكن لعلّ أبرز ما يقوله ويُدلل عليه هو محاولة السُّلطة الفلسطينيّة المستمرة لاستعادة سيطرتها وحضورها في الفضاء العامّ، وفرض شروطها ورموزها عليه. 

لم تكن تلك المحاولة منفردةً، فقد شهد دوار المنارة؛ الميدان الأبرز الذي يحتضن الاحتجاجات والمظاهرات في رام الله، تغييراتٍ متعددة استُحدِثت في الفترة الأخيرة، وبوتيرةٍ متسارعةٍ لم يشهدها المكانُ منذ قرابة 15 عاماً.

كاميرات، مظلات، ورصيف ضيّق

بعد أن هدأت الاحتجاجاتُ التي تبعت اغتيال نزار بنات على أيدي أجهزة أمن السُّلطة، وتقريباً في نهاية أغسطس/ آب 2021، ركّبت الأخيرةُ كاميرات مراقبة في ساحة دوار المنارة. لا تحتاج تلك الخطوة الكثير للتعليق عليها، فمن الواضح دور الكاميرات ورقابتها في نقل رسالة "تحذير" وربما ردعٍ للمتظاهرين من المشاركة في المظاهرات، وتعكس سعياً للسيطرة على الفضاء الاجتماعيّ للاحتجاج وضبطه، وفرض شروطٍ جديدةٍ على المكان.

كما أنّ أيّ زائرٍ لدوار المنارة هذه الأيام سيُلاحظ المظلّة حديثةَ التركيب وعليها شعار الشرطة الفلسطينيّة، والمُخصّصة لاستخدام أفرادها. وقد نُصبت تلك المظلة في موقعٍ مُشرفٍ على الساحة الرئيسة في الميدان (جنوبه تقريباً)، لتكون أنظارُ أفراد الشرطة فيها موجهةً مباشرةً للمكان الذي يقف فيه المتظاهرون عادةً، بينما يديرون وجوههم متجاهلين المارّين خلفهم على الرصيف، والذي لا يحتمل أنّ يقف عليه المارّون أصلاً لضيقه. وحتى على افتراض وقوفهم، فكاميرا المراقبة الموضوعة حديثاً تقع تماماً فوق رؤوسهم.

المظلة التي نُصبت لخدمة أجهزة الأمن عند دوار المنارة. تصوير: نور الدين أعرج.

يترافق ذلك مع تواجدٍ مُتزايد ومُستمرٍ لأفراد الشرطة الفلسطينيّة ومختلف أجهزة الأمن على دوار المنارة. يُشير هذا بالضرورة إلى إقحام رموز أجهزة الأمن في الفضاء العام، وإعادة فرض شروط ورؤية "الدولة" عليه. كما أنّ مظلّة أخرى نصبت بالقرب من دوار الساعة، وثالثة في شارع الإرسال بالقرب من موقف سيّارات بيرزيت، وهذان الموقعان، بالإضافة إلى دوار المنارة، هي مواقع الاحتجاج الرئيسة في رام الله، هو ما يعزّز الطرح السابق بكون هذه التحولات محاولة لإعادة رسم مساحة الاحتجاج.

كما أنّ بلدية رام الله (وللمصادفة البحتة؟) قرّرت مؤخراً تضييق الرصيف المقابل للبنك العربيّ، الواقع في الجهة الشماليّة من دوار المنارة، بما يقارب النصف متر، حتى بات الرصيفُ مع تواجد الصرّافين قبالة البنك لا يحتملُ أنّ يقف فيه أكثرُ من شخصٍ واحد، وهكذا يسهل إغلاقُه أمام الناس وتعطيل حركتهم فيه. 

نُشير هنا إلى أنّ الرصيفَ يحظى بأهميّةٍ بالغةٍ في الدراسات الحضريّة، ومن الممكن قراءته بكونه مجالاً للاحتجاج يشهد صراعاً من أجل ضبط النّاس باعتباره مساحةً تُمثّل جزءاً من حياتهم اليوميّة في الفضاء العام.

اقرؤوا المزيد: "السلطة في مواجهة الناس: موجزُ سيرة القمع".

بالعودة إلى التغيرات، فإنّ هنالك تغيراً مباشراً يعكس محاولة السيطرة على الفضاء العامّ حدث مؤخراً، وهو محاولة ضبط وإعادة تشكيل مكان الوقوف الأساسيّ للمتظاهرين بشكلٍ تام. فقد عمدت جرافاتُ السّلطة الفلسطينيّة إلى وضع التراب تحت أشجار النخيل التي لطالما وقف المتظاهرون حاملين شعاراتِهم ولافتاتِهم تحتها (في الجهة الغربيّة الجنوبيّة من الدوار، بالقرب من بنك فلسطين). كما عمدت إلى إضافة سورٍ يفصلُ بين ممرّ المشاة القريب من صراف بنك فلسطين وساحة دوار المنارة. 

كاميرا مراقبة تعلو أحد الأعمدة في محيط دوار المنارة. تصوير: نور الدين أعرج.

وربما لنفس هذا السبب لم تُزل السلطة الفلسطينيّة الغطاء عن دوار المنارة نفسه بعد أنّ قامَ أحدُهم بتكسير بعض تماثيل الأسود فيه، مع أنّ ترميمها انتهى في 21 أكتوبر/ تشرين الأول 2021، أي منذ أكثر من شهرين. شكّلت تلك المساحة، بين تماثيل الأسود، في الفترات السابقة مكاناً ينصب فيه الصحافيّون كاميراتهم لتوثيق الاحتجاجات، وقد وثّقت مؤخراً الكثير من اعتداءات أفراد الأمن الفلسطينيّ على الناس. وبالتالي قد يكون تأجيل إزالة الغطاء عن الميدان محاولةً أخرى لضبط الاحتجاج، وتضيق المساحة المتاحة له.

تحديد "الهدف" بدقّة

أتذكر تماماً ذلك المشهد، شاب ملقى على سيارة الشرطة يحاول إبعاد يد الشرطي عن رأسه ويُكرّر عبارة "أنا بس كنت بتفرج، أنا بس كنت بتفرج". كان هناك "لبسٌ" كبيرٌ في التفرقةِ بين من هو "متورّط" ومن هو "متفرّج" (بمفاهيم السلطة الفلسطينيّة)، فخلف تلك النخلات، كان بعض الشباب يحملون أكواباً من القهوة ويتكئون على مبنى صراف بنك فلسطين، وينظرون إلى المُحتجين، فيما ينظر إليهم أفراد الأجهزة الأمنيّة مترددين من موقفهم، لا يعلمون توجهاتهم السياسيّة ولا مواقفهم، لا يعلمون على وجه التأكيد هل هم من جماعة "المتفرجين" أم من جماعة "المتورطين".

لا داعي للقلق بعد الآن، إذ عملوا على إزالة أي إمكانية لأي لبس، فمن السهل الآن قَمعُ كلّ من هو داخل ساحة الاحتجاج، فقد باتت تلك المنطقة التي يجلس فيها هؤلاء الشباب مفصولةً تماماً عن ميدان الاحتجاج، فمع وضع التراب والسور اللذين يفصلان ساحة المنارة عن الممرّ القريب من صراف بنك فلسطين، صار الآن كل "المتورطين" أمام ناظريك.

اقرؤوا المزيد: "اغتيال نزار بنات: السُّلطة في أوضح صورها".

ولعل أبرز نتائج هذا الضبط ظهرت في المسيرة التي نظّمتها الحركة الطلابيّة في جامعة بيرزيت، بتاريخ  23 ديسمبر/كانون الأول، احتجاجاً على اعتقال السلطة الفلسطينيّة 8 طلاب من طلبة الكتلة الإسلاميّة.  خلال تلك المسيرة، تركّز حشد المشاركين فيها في المنطقة القريبة من البنك العربيّ (شمالاً) لا في المنطقة القريبة من صرّاف بنك فلسطين (غرباً) كما اعتادت كلّ المسيرات والمظاهرات،  ذلك لأن تلك الأخيرة - كما ذكرنا - قد أُعيد تشكيلها من خلال التراب والسور الذي حدّ من مساحة الوقوف فيها. 

كما أنَّ تجمعَ المشاركين لم يأخذ شكلاً دائريّاً كما في كلّ مرة، وإنما حصرته المساحةُ المعاد تشكيلها ليأخذ شكلاً أُفقيّاً، مما حصر تجمع الناس. كما تُضيف إحدى الشاهدات على المسيرة أنَّ الصور التي وصلت منها كانت قليلةً بالمقارنة مع المسيرات السابقة، ولم تغطي كافة أحداثها، وذلك لما ذكرنا سابقاً من إغلاق دوار المنارة بساترٍ يمنع الصحافيّين من الوقوف فيه ومتابعة التطورات.

لمن الشارع؟

تُشير كل هذه التغيرات على دوار المنارة وعلى شكل تجمع الناس في المسيرة الأخيرة إلى المحاولة الدائمة للسلطة الفلسطينيّة لضبط الفضاء العام الذي يمثل فضاء الاحتجاج العلنيّ للجمهور. كما تعكس سعيها الدائم لفرض شروطها على الحيز المكانيّ، وإعادة تشكيل المكان، بما يتناسب مع سيطرتها على الناس، ومساعدة أجهزتها في ترهيبهم وضبطهم واعتقالهم.

إنّ للفضاء العامّ دورٌ لا يخفى في تشكيل بُنى الاحتجاج، ففي حين يقول محسن بوعزيزي إنَّ غياب الفضاء الاجتماعيّ يؤدّي بالضرورة إلى غياب لممارسسات الاحتجاج، يحاول مانويل كاستلز الربط بين عملية التحضر من جهة، وتنامي الحركات الاجتماعيّة من جهةٍ أخرى، فبحسبه يرتبط الفضاءُ المجتمعيّ ارتباطاً وثيقاً بآليات الإنماء الكليّة في كلّ مجتمع، ومن بينها الاحتجاج. 

وإذا أردنا أن نفهمَ معنى المدينة، فإنَّ علينا أن نتقصى عمليةَ استحداث أشكال المكان وتحوّلاته، فذلك يُساعدنا على فهم أشكالٍ مخلتفةٍ من الصراع والنزاع بين مختلف الجماعات في المجتمع. بعبارةٍ أُخرى، فإنَّ البيئات الحضريّة تمثّل التجليات الرمزيّة للتفاعل بين فئاتٍ عريضة من القوى الاجتماعيّة والسياسيّة. في هذه الحالة بالتحديد فإنّها تُمثّل الصراع بين من رفضوا قمع السّلطة، وبين السُّلطة الفلسطينيّة نفسها.



14 نوفمبر 2018
ليبرمان والتلاعب بِزرّ الـDelete

بنى وزير الحرب الإسرائيليّ المستقيل أفيغدور ليبرمان شخصيّته السياسيّة منذ تأسيس حزبه "يسرائيل بيتينو"/ "إسرائيل بيتنا" عام 1999، على أساس…