قبل معركة "طوفان الأقصى" بأشهر، كنت أقرأ في كتاب "وفيات الأعيان" لابن خلكان، فمررت في المجلد الأول بتَرْجَمَة أحد الشعراء ويسمى "إبراهيم الغزيّ"، وكما هو واضح من نسبة الرجل أنه غِزيّ (غزّاوي).
يعلم المشتغلون بالتراث العربي، أن كتب الطبقات والتراجم -مثل كتاب وفيات الأعيان-، هي من أوسع المصنفات للفوائد والمعلومات في غير مظانها. فيجد المرء في الترجمة الواحدة ضبطاً لأسماء الرجال، وذكراً للبلدان، وتحديداً للمواقع الجغرافية، وترتيباً للأحداث على السنين، وأخباراً من التاريخ الاجتماعي والسياسي والعلمي. فماذا قال ابن خلكان عن غزّة في ترجمة هذا الشاعر الغزيّ؟ وعن بلده غزّة؟
الجوع: كريم قريش
قال ابن خلكان: "ولد الغِزي المذكور بغزة، وبها قبر هاشم جد النبي صلى الله عليه وسلم… ونُقل عنه [أي عن إبراهيم الغزيّ الشاعر] أنه كان يقول لما حضرته الوفاة: أرجو أن يغفر الله لي لثلاثة أشياء: كوني من بلد الإمام الشافعي [أي غزة]، وأني شيخ كبير، وأني غريب، رحمه الله تعالى وحقق رجاءه".
ثم عقّب ابن خلكان بذكر غزة قائلاً: "وغَزّه - بفتح الغين وتشديد الزاء المعجمتين وبعدها هاء - وهي البُليدة المعروفة في الساحل الشامي، وقد يقع هذا الكتاب في يد من يكون بعيداً عن بلادنا، ولا يعرف أين تقع هذه البليدة، ويتشوق إلى معرفة ذلك، فأقول: هي من أعمال فلسطين، على البحر الشامي، بالقرب من عسقلان، وهي في أوائل بلاد الشام من جهة الديار المصرية، وهي إحدى الرحلتين المذكورتين في كتاب الله العزيز في قوله تعالى: رحلة الشتاء والصيف. وأتفق أرباب التفسير أنّ رحلة الصيف بلاد الشام، ورحلة الشتاء بلاد اليمن… قال مطرود بن كعب الخزاعي يبكي بني عبد مناف جميعاً، وذكر القصيدة، ومن جملتها:
وهاشم في ضريح وسط بلقعة ... تسفي الرياح عليه بين غزات
وصارت من ذلك الوقت تعرف بغزّة هاشم، لأن قبره بها، لكنه غير ظاهر ولا يعرف، ولقد سألت عنه لما اجتزت بها، فلم يكن عندهم منه علم.
ولما توجه أبو نواس الشاعر المشهور من بغداد إلى مصر ليمدح الخصيب بن عبد الحميد، صاحب ديوان الخراج بمصر، ذكر المنازل التي في طريقه، فقال:
طوالب بالركبان غزة هاشم ... وبالفرما من حاجهن شعور"1ابن خلكان، وفيات الأعيان، تحقيق إحسان عباس، 57/1..
لما طالعت كلام ابن خلكان أول مرة -وكان ذلك قبل الطوفان-، قلت في نفسي: لئن احتاج ابن خِلكان المتوفي في القرن السابع الهجري [ت:681هـ] أن يصف غزة كل هذا الوصف في زمانه ليُعرفها لمن جهلها من المسلمين، فإن غزة في زماننا غنية عن أي تعريف، فمَن مِن الناس يجهل غزة؟ بل حُق لأهلها أن يردّدوا قول امرئ القيس:
وَلَكِنَّما أَسعى لِمَجدٍ مُؤَثَّلٍ … وَقَد يُدرِكُ المَجدَ المُؤَثَّلَ أَمثالي
لاحقاً، وبعد الطوفان، حضر هذا الخبر إلى ذهني مرات، وما ذاك إلا لدفن هاشم جد النبي بها، وقد كان هاشم آيةً في الكرم وإطعام الناس وإشباعهم، حتى أنّه أشبع قريش كلها في موسم الحج وهو في غزّة، بينما أهل غزة -وهم الذين استضافوا هاشماً الجواد قديماً وأُطعم الطعام- يموتون جوعاً الآن. فماذا خبر هاشم هذا؟ وما موقعه في غزة؟
هاشم هو أحد أجداد النبي صلى الله عليه وسلم، وكان موسراً وذا فضلٍ في قومه، ولذا عُهد إليه بالرفادة والسقاية للبيت من قريش، واتفق أهل السير أنه أصاب الناس سنة جدب شديد، وكان هاشم قد خرج إلى الشام، وقيل بلغه ذلك وهو بغزة من الشام، فاشترى دقيقاً وكعكاً وقدم به مكة في الموسم، فهشّم الخبز والكعك ونحر الجزر وجعله ثريداً، وأطعم الناس حتى أشبعهم، فسمي بذلك هاشماً، ونحرت الإبل التي حملت، فأُشبع أهل مكة وقد كانوا جَهدوا.
كما أنّ هاشماً هو "أول من سن الرحلتين لقريش: رحلتي الشتاء والصيف، وأول من أطعم الثريد للحجاج بمكة، وإنما كان اسمه: عمراً، فما سمي هاشماً إلا بهشمه الخبز بمكة لقومه"2أبو الفرج الحلبي، السيرة الحلبية، 11/1..
هذا هو هاشم، أحد وجهاء قريش وسادتها، وأحد أجداد النبي، وأحد كرماء العرب. وقد ذاع كرمه حتى غلب اسمه المنسوب إلى الكرم بهشمه الخبز ونحر الإبل وإطعام الناس "هاشم"، اسمه الحقيقي "عمرو".
ومن المفارقات أن هذا الرجل الكريم مات في هذه الأرض الطيبة؛ غزة، المحاصرة منذ حوالي 6 أشهر، ولا يجد من فيها قوت يومهم وليلتهم. ثم كان موت هاشم إبان رحلته إلى الشام المذكورة في القرآن الكريم، فحوت أرض غزة في تُربتها نموذجاً من الكرم العربي الأصيل، الذي هو مضرب المثل بين العرب بالكرم والإطعام. لكن هذا الكرم المدفون في ترابها لم يشفع لأهلها في إيجاد قوت يومهم يوم حاصرهم العدو وناصره أعوانه.
وهذا الكرم الهاشمي لم يتوقف عند هاشم، بل تعداه إلى نسله من بعده، فامتد إلى حفيده أبي طالب، عم النبي صلى الله عليه وسلم، والذي آوى النبي والمؤمنين في أول حصار لهم في في شِعب أبي طالب.
الحصار: شِعب أبي طالب
وأبو طالب من ولد ولد هاشم، وهو عمّ النبي صلى الله عليه وسلم، وكان من أَجلّ من أعانوا نبينا الكريم في دعوته بمكة، رغم موته على غير دين الإسلام. فاحتفى أبو طالب بابن أخيه محمد عليه الصلاة والسلام وحامى عنه، ومنعه من المشركين فلم يستطيعوا إيذاءه، حتى اغتاظ المشركون بحماية أبي طالب للنبي، وعزمت قريش على مخاصمة محمد وقومه من بني هاشم ورميهم عن قوس واحدة، فضربوا على بني هاشم حصاراً ألجأهم إلى شِعب بين جبلين، عُرف بـ"شعب أبي طالب"، فلا يجالسونهم ولا يُبايعونهم ولا يُناكحونهم، حتى أكلوا ورق الشجر. وقد قالت له قريش: "يا أبا طالب، إن لك سناً وشرفاً ومنزلة فينا، وإنا قد استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهه عنا، وإنا والله لا نصبر على هذا من شتم آبائنا، وتسفيه أحلامنا، وعيب آلهتنا، حتى تكفه عنا، أو ننازله وإياك في ذلك، حتى يهلك أحد الفريقين -أو كما قالوا له- ثم انصرفوا عنه، فعظم على أبي طالب فراق قومه وعداوتهم، ولم يطب نفساً بإسلام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لهم ولا خذلانه"3محمد بن جرير الطبري، تاريخ الرسل والملوك، تحقيق: محمد أبوالفضل إبراهيم، 323/2..
في هذا الحصار العصيب، انحاز بنو هاشم وبنو المطلب -مؤمنهم وكافرهم- إلى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا أبا لهب. واستمر الحصار ثلاث سنوات، "واشتد الحصار، وقطعت عنهم الميرة والمادة، فلم يكن المشركون يتركون طعاماً يدخل مكة ولا بيعاً إلا بادروه فاشتروه، حتى بلغهم الجهد والتجأوا إلى أكل الأوراق والجلود، وحتى كان يسمع من وراء الشعب أصوات نسائهم وصبيانهم يتضاغون من الجوع، وكان لا يصل إليهم شيء إلا سراً -وكانوا- لا يخرجون من الشعب لاشتراء الحوائج إلا في الأشهر الحرم، وكانوا يشترون من العير التي ترد مكة من خارجها، ولكن أهل مكة كانوا يزيدون عليهم في السلعة قيمتها حتى لا يستطيعوا الاشتراء"4صفي الرحمن المباركفوري، الرحيق المختوم، 98..
وفي هذا الحصار الشديد قال أبو طالب لاميته الشهيرة، والتي ينعى فيها على قبائل العرب حصارهم محمداً وقومه من بني هاشم، ويُخبرهم أن بني هاشم عازمون على نصرته صلى الله عليه وسلم مهما كلفهم ذلك من ثمن، حتى وإن كلفهم قتال قومهم، والتي فيها من وصف نبينا صلى الله عليه وسلم:
وأبيضَ يُسْتَسْقَى الغَمامُ بوجههِ … ثِمالُ اليتامى عِصْمةٌ للأراملِ
يلوذُ به الهُلاّكُ من آلِ هاشمٍ … فهُم عندَهُ في نِعمةٍ وفَواضلِ
كَذَبْتُم وبيتِ اللَّهِ نُبَزى محمدا … ولمّا نُطاعِنُ دونَهُ ونُناضِلِ
وإنِّي لعَمرُ اللَّهِ إنْ جَدَّ ما أرى … لَتَلْتَبِسَنْ أَسيافُنا بالأماثلِ
الدرس: ملوك الطوائف
كان الحصار في شعب أبي طالب هو أول حصار في الإسلام، وقد وقف أبو طالب فيه وقفته المشرفة رغم إشراكه بالله وموته على غير دين محمد صلى الله عليه وسلم، وما ذاك إلا لنخوة العربي. فلم يُرد أبو طالب أن يُسلم محمداً صلى الله عليه وسلم لعدوه وبينه وبينه نسب القبيلة والعشيرة والرحم، كما أن أبا طالب كان كَلِفاً بُحب محمدٍ صلى الله عليه وسلم. ولم يرض بنو هاشم أيضاً أن يُحاصر نبيّنا محمد ويُمنع عنه الطعام والشراب، فيجوع ويعطش هو وأتباعه، بينما ينعمون هم بالطعام والشراب وملذات الدنيا وأُنس الحياة.
لقد كانت القضية لدى أبي طالب قضية مبدأ ونخوة في الأساس، ولذا لما طال الحصار المضروب على المؤمنين في الشعب وبلغ ثلاث سنوات، لم يتراجع أبو طالب عن مواقفه.
كانت هذه الأحداث في الخامس السادس الميلادي (ولم يكن التاريخ الهجري وُجد بعد)، أي يفصلنا عن هذا الحصار أكثر من أربعة عشرة قرناً من الزمان. أما في القرن الذي نحن فيه الآن (الخامس عشر الهجري/ الواحد والعشرين الميلادي)، فيُحاصر أهل غزة التي دُفن في أرضها أحد سادة العرب وكُرمائهم الذين أطعم الناس حتى أشبعهم، ويموت النساء والأطفال جوعاً، ومع ذلك لا يُحرك أحد من العرب ساكناً لفك هذا الحصار أو للتضامن الحقيقي الجاد مع أهل عزة، كما فعل أبو طالب مع محمد صلى الله عليه وسلم.
كان الكفار هم من يُحاصرون المسلمين في شِعب أبي طالب ليتركوا دينهم، فلم يدخلوا إليهم طعاماً ولا شراباً، لكنهم -في الوقت نفسه- وجدوا من يواسيهم من بني هاشم الذين لم يرضوا بأن يفارقوا بني عشيرتهم ويركنوا إلى قريش في ظلمها لهم، وإن كانوا على دين واحد.
أما الحال مع أهل غزة فمختلف، فالذي يحاصرهم هم كفار اليهود، بينما ينصرف العالم كله عنهم، مسلمه وكافره، فلا يناصرهم أحدٌ من ذوي الشوكة. فلا يدخل إلى أهل غزّة طعامٌ، ولا يجدون ما يصلح للشُرب، حتى مات فيهم الرضيع وهو في حضن أمه من شدّة البرد بعد اشتداد الضعف. هذا بالطبع إن لم يمت -هو وأمه- بصاروخ مُوجّه من طائرة أميركية الصنع. كل ذلك وجيران غزة من المسلمين والعرب يشاهدون -في كل يوم- بكاء هؤلاء الأطفال الصغار وهم يشتهون الخبز الأبيض، أو يبكون بحثاً عن مأوى يحميهم من البرد والصقيع، ثم لا يُحرك ذلك شيئاً في نفوسهم، ولا يؤثر على من بيده القرار لرفع هذا الوهن عن أمة الإسلام!
والمفارقة أن ذلك يحدث وغزة تقع على حدود أكبر دولةٍ عربيّةٍ من حيث الكثافة السكانيّة. ولئن كان أول حصار للمسلمين في عهد النبي صلى الله عليه وسلم في شِعب أبي طالب، فإنه كان -في النهاية- حصار من الكفار للمسلمين. وأما حصار المسلمين للمسلمين، أو على الأقل خذلان المسلمين للمسلمين في أوقات ضعفهم، فلم يُعرف في تاريخ الإسلام إلا في أحلك فترات من الضعف والهوان والذلة، وكان عادة ما يعقب هذه الفترات هلاك وشيك للأمم المستضعفة، واستبدال قريب لمن والى الكافرين من أعداء الله على المسلمين.
وبما أننا بدأنا مقالنا بابن خلكان وما قاله عن غزّة، فنختم بكلامه في الكتاب ذاته "وفيات الأعيان"، وهو يحدّثنا عن سنة الاستبدال حين يخذل المسلمون إخوانَهم رغبةً فيما عند الفرنج. قال ابن خلكان في ترجمة "المعتمد بن عباد"، صاحب إشبيلية في الأندلس: "وكان الأذفونش ملك الإفرنج بالأندلس قد قوي أمره في ذلك الوقت، وكانت ملوك الطوائف من المسلمين هناك يصالحونه، ويؤدون إليه ضريبة، ثم إنه أخذ طليطلة في يوم الثلاثاء… بعد حصار شديد… وكان المعتمد بن عباد أكبر ملوك الطوائف وأكثرهم بلاداً … فلما سمع مشايخ الإسلام وفقهاؤها بذلك اجتمعوا وقالوا: هذه مدن الإسلام قد تغلب عليها الفرنج، وملوكنا مشتغلون بمقاتلة بعضهم بعضا، وإن استمرت الحال ملك الفرج جميع البلاد، وجاءوا إلى القاضي عبيد الله بن محمد بن أدهم وفاوضوه فيما نزل بالمسلمين وتشاوروا فيما يفعلونه، فقال كل واحد منهم شيئاً، وآخر ما اجتمع رأيهم عليه أن يكتبوا إلى أبي يعقوب يوسف بن تاشفين ملك الملثمين صاحب مراكش يستنجدونه، فاجتمع القاضي بالمعتمد وأخبره بما جرى، فوافقهم على أنه مصلحة وقال له تمضي إليه بنفسك، فامتنع فألزمه بذلك، فقال: أستخير الله سبحانه، وخرج من عنده، وكتب للوقت كتاباً إلى يوسف بن تاشفين يخبره بصورة الحال، وسيرة مع بعض عبيده إليه، فلما وصله خرج مسرعاً إلى المدينة سبتة، وحتى خرج القاضي ومعه جماعة إلى سبتة للقائه وإعلامه بحال المسلمين فأمر بعبور عسكره".
وبهذا الالتحام وهذا التماسك بين المسلمين وبعضهم، وبعبور جيش ابن تاشفين المجاور للأندلس نصرةً لأهلها حُفظت الأندلس من السقوط ثلاثة قرون كاملة، حتى أتى عصر أواخر ملوك الطوائف وغلبت الخيانات بين المسلمين وبعضهم البعض، وتفشّى في ملوكهم نصرة أعداء الدين من الفرنج، فسقطت منذ ذلك اليوم الأندلس ولم تعد حتى الآن.
فهل التاريخ يُعيد نفسه؟ وهل يستوعب العرب هذا الأمر؟ فلئن لم يُناصر المسلمون غزةَ -نخوة للجيرة والعروبة- أسوة بأبي طالب في الشِعب ورفضه إسلام محمد صلى الله عليه وسلم لأعدائه، فلا أقل من التأسي بالمعتمد بن عباد، إن أرادوا حفظ ملكهم وممالكهم، فالظلم عاقبته وشيكة، وسنة الاستبدال قد جرت على كل طاغٍ وظالم في التاريخ، وصدق المعتمد بن عباد لما قال: "لئن أرعى الجمال في بلاد يوسف بن تاشفين خير لي من أن أرعى الخنازير عند الأذفونش".