21 نوفمبر 2023

من بدرٍ الكُبرى إلى طوفان الأقصى

من بدرٍ الكُبرى إلى طوفان الأقصى

في السنة الثانية للهجرة النبويّة تجمّع المسلمون، من المهاجرين والأنصار في حضرة النبي الكريم، يتدارسون فكرةَ تنفيذ عمليةٍ بالغة السريّة والدقة، كما أنها بالغة الخطورة وشديدة التداعيات، فالموقف السياسي كان يتمثّل في مجموعةٍ من المسلمين الجدد، المنهكين من تعذيب قريش لهم في مكة، قد خسروا كل ممتلكاتهم بعد سطو قريش عليها، أما البناء العقدي ما يزال في بدايته، والكيان الجديد ما يزال في طوره الأوّل، لا حلفاء له، والأعداء يتربصون من كل مكان.

أمام هذه التركيبة، اجتمع القائد الأكرم مع صحابته ليتدارسوا خطّةً أمنيّةً معقّدة؛ الهجوم على قافلةٍ تجاريّة ضخمة يقودها أبو سفيان نيابةً عن قريش، خرجت من دمشق واقتربت من المدينة المنورة، وهي في طريقها إلى مكة المكرمة. "هذه عِيرُ قريش فيها أموالهم، فاخرجوا إليها؛ لعلَّ الله يُنْفِلُكُموها"؛ هذه كان توجيهات النبيّ بناء على معلومات جاءت بها العيون، فكان القرار واضحاً وقوياً وحازماً؛ التحرك لاسترداد جزءٍ من أموال المسلمين المسلوبة.

في تقدير الموقف، ستكون هذه المباغتة بدايةً لقتالٍ ممتدٍ مع قريش، تلك القبيلة التي تملك المال والسلاح والقوّة والرجال، مقابل مجتمع الصحابة الجديد الفتي الفقير مالاً وسلاحاً ورجالاً.

استدعى الهجوم على القافلة ردة فعلٍ كبيرة من قريش على الرسول وصحبه، فقد بلغ الخبر قريشاً فجهزوا كل أدواتهم القتالية لمواجهة المسلمين، وكان الهدف من المعركة الأولى: القضاء على الإسلام واجتثاث المسلمين ككيانٍ في مهدهم وقتل رموز الصحابة بمن فيهم النبيّ عليه الصلاة والسلام.  

تداعت قريش وأحلافها للحرب وجمعوا ألفاً، معهم مئتا فرسٍ، يقودونها إلى جانب جمالهم، ومعهم القِيانُ يضربن بالدُّفوف، ويغنِّين بهجاء النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه. في حين كان عدد المسلمين نحو ثلاثمئة رجل، ليس معهم من الخيل إلا فَرَسَانِ، وكان معهم سبعون بعيراً يتعاقبون على ركوبها.

في ظل هذا المشهد وعلى أبواب المعركة، قد يكون قرار مهاجمة القافلة قراراً انتحارياً مكتمل الأركان، فالقوّة العظمى ستُنهي قوّة المسلمين وستُنهي الحالة التي تشكّلت حديثاً، لكن… 

أخذت المعركة منحىً آخر، بفضل إيمان المقاتلين بقضيتهم، والأهم حنكة ومكر الحرب الذي تجلّى بهدم آبار بدر ومنع قريش عنها، حتّى انتهت المعركة ببزوغ فجر المسلمين وبداية انكسار قريش استراتيجياً.

نهاية ألمانيا.. نهاية إيطاليا

ربما تتشابة قصة قافلة أبو سفيان مع فعل كتائب القسّام في السابع من تشرين الأوّل/ أكتوبر. ثلة مقاتلة مدفوعة بإيمانٍ منقطع النظير، تحت حصارٍ بريّ وبحريّ وجويّ مضى عليه 17 عاماً، بأدوات قتاليّة بسيطة وربما بدائية، أمام قوّة عسكريّة هائلة، تكنولوجية واستخبارية، بدون حلفاء أو قوى إسناد، وفي ظل أعداء مستعدين لفعل كل شيءٍ لإنهاء وجودها، ومع مجتمع وحاضنة منهكة من الفقر المدقع وضنك العيش.

ضمن هذه المعطيات، ربما يكون السكون والسكوت والبحث عن مخرجٍ سياسيٍّ آمن هو الفعل الأكثر عقلانيّة (ظاهريّاً) والقابل للتنفيذ، لكن تلك الثلة المقاتلة ربما اتصل تفكيرها بتفكير الصحابة في موقعة بدر (17 رمضان - 2 هـ).

وربما أيضاً درسوا عملية "أورانوس" الاستراتيجية (19 - 23 تشرين الثاني/ نوفمبر 1942)، التي نُفِّذت بمنتهى السريّة، وفي ظلِّ انعدام ميزان القوى واختلاله، لكنها انتهت بمحاصرة الجيش السادس الألمانيّ والجيش الثالث والرابع الرومانيّ وضربهم في مقتل، وفتحت أبوابَ معركةٍ طاحنةٍ ضدّ السوفييت عُرِفت بمعركة "ستالينغراد"، التي مثّلت نهاية ألمانيا النازيّة، تلك التي أخضعت العواصم الأوروبيّة لسطوتها ولجبروتها ولقوتها. 

عاقب النازيّون السوفييت بحصارٍ شاملٍ وهجومٍ كاسحٍ بمختلف الأسلحة. دفع السوفييت ثمناً كبيراً في ستالينغراد، لكنهم قاتلوا قتالاً شرساً، فخرجوا من وسط الركام الذي دمرته الطائرات الألمانيّة، ومن تحت أنقاض المصانع، وخرجوا حتى من بين بالوعات المجاري للقتال، حتى قال الألمان: "احتلينا المطابخ وما زلنا نقاتل السوفييت".

لا مجال للتفصيل في المعركة، ولكنها تشكّل واحدةً من أعظم المعارك في العصر الحديث، فقتال الشوارع فيها يُعلّمنا كيف يُهزم ويُسحل جيش عرمرم في الشوارع ولا يستطيع مقاومة مقاتلين خسروا كل قدراتهم العسكرية وسط كل الضحايا ومحاولات الاجتثاث، وفي النهاية ينتصرون ويسجّلون لحظةً تاريخيّةً في شكل العالم القادم.

هل يمكن أن نقول إنَّ عملية أورانوس كانت بمثابة عملية انتحار سوفيتية غير محسوبة؟ غالباً أن مثل هكذا توصيف قد خرج خلال الحرب، لكن اليوم وبعد كل هذه السنوات، لا توصف هذه العملية إلا بكلمة واحدة: "نهاية النازية".

هل سمعتم يوماً بمعركة "عدوة" عام 1896؟ هذه المعركة كانت أيضاً بمثابة السابع من أكتوبر، ولكن بنسخةٍ أثيوبيّة أفريقية. مثّلت هذه المعركة بوابة التحرّر الأفريقي، ورمزاً للاحتفاء بإنهاء الاستعمار الإيطالي، الذي كان رأس الاستعمار الغربيّ في أفريقيا.

تخرج من وسط ذلك فكرة الانقضاض على الوحش بدون الغرق في حسابات الربح والخسارة المضنية، فكانت خطة فائقة السرية، عظيمة التناغم والفهم العميق، من إقليم "تغراي"، الذي استُدرجت في جباله قوّات الجيش الإيطالي، حيث التقوا بالمقاتلين الأثيوبيين، قليلي العدد والحيلة والعدة، ووقعت معركة قُتل فيها في ثلاثة أيام 12 ألف أثيوبي، أُحرق الأثيوبيون فيها وهم أحياء، وهُدِمت بيوتهم ومقراتهم بجنون لا يمكن تخيله، لكن كان وراء تلك المقتلة وذلك الفعل المقاوم، انهزام مدوي للطليان في أثيوبيا، امتد صداه في كل أفريقيا، وأذهل العالم الذي كان يرى في إيطاليا قوّةً عسكريّةً لا تمكن هزيمتها.

هل هو فعل انتحاري؟

نعيش اليوم في ظلال السابع من أكتوبر، الذي أحدث صدمةً كبيرةً على مستوى التفكير الجمعيّ والفرديّ في مجتمعنا العربيّ الإسلاميّ، ففي الوقت الذي كنا نراقب فيه مشاهد المقاتلين داخل المقرات العسكرية في "غلاف غزة"، ومشاهد سحلهم للجنود، كانت هناك أصوات تتعالى متخوفةً من ردّ العدو، تقول: "الله يستر من ردة فعل إسرائيل".

وبعد مضي 46 يوماً، واستشهاد أكثر من 13.500 فلسطينيّاً، وتدمير عشرات الآلاف من البيوت ومئات المباني للمؤسسات العامة والحكومية، وإخراج العشرات من المستشفيات عن الخدمة، والتغوّل البرّي في شمال القطاع، وتهجير الكثيرين من سكان الشمال إلى الجنوب، بدأت تخرج أصوات تطالب بالتقييم وبالمراجعة النقدية لفعل المقاومة، وتصفه على أنه "فعل انتحاري"، والانتحار هنا يأخذ وصف الفعل الجنونيّ غير المحسوب في لحظة انهزامٍ واكتئاب. 

كما أن هذا التوصيف قد جاء بعد أن عُرف أن قرار السابع من أكتوبر كان قراراً منفرداً بعيداً عن الحلفاء السياسيين والعسكريين، وحتى بعيداً عن المؤسسة السياسية الممثلة بالمكتب السياسي لحركة "حماس"، المعنية بتوفير الغطاء السياسي للفعل المقاوم.

تخلق حركات المقاومة وأفعالها جدلاً كبيراً، فهي تسير على خيطٍ رفيعٍ بين الفعل والجمود، فالفعل دائماً ما يجلب عليها الويلات والدمار، والجمود يجلب عليها أيضاً الذلّ والهوان والخسارة، ولكن دائماً ما تذهب حركات المقاومة للفعل، والفعل هنا مبرّر وجودها، فلو لم تكن المقاومة مرتبطة بالفعل لما سُمّيت "حركة مقاومة". وهذا الفعل ممتدٌ عبر السنوات، ومتناقلٌ عبر الرايات، فهذه حركة "فتح" قد قاتلت الاحتلال عبر سنوات طويلة بأدوات قليلة وعدة أقل، ولكنها فتحت للشعب الفلسطيني باباً لم ينسد في مقارعة العدو، تتجذّر إرثاً كبيراً ممتداً، جغرافيّاً وتاريخيّاً وعبر الأجيال.

وقبل "فتح"، كان الشيخ عزّالدين القسام، الذي كان مع ثلة من شبابه في أحراش "يعبد" في جنين، يقاوم مشروعاً صهيونياً ملتحماً ببريطانيا "الإمبراطورية العظمى التي لا تغيب عنها الشمس". قرر الشيخ أن يبادر بالفعل المقاوم، ففتح جبهة للقتال انتهت باستشهاده، ولكن استشهاده هذا بث أفعال مقاومة لا تنتهي، وها هي روحه تحولت لثقافة وجيش مقاتل عنيد لا يستهان به، يقاتل اليوم تحت اسمه وفي ظل تاريخه. 

وبعده جاء الشيخ أحمد ياسين، والذي أعلن عن تنظيمه العسكريّ بأدواتٍ بدائيّةٍ في مواجهة احتلالٍ غاشمٍ اعتدى قبلها بسنوات قليلة، تحديداً عام 1982، على بيروت فيما صُوّر على أنه "نصر" له. استلهم الشيخ ياسين روح وفكرة المقاومة، ليخرج في وقت يُعتبر فيه حتى مجرد الإعلان عن نفسك كمقاومٍ ضرباً من ضروب الجنون، ولكنه كان مصدر إلهامٍ للشعب الفلسطينيّ، وإرهاقٍ للمشروع الاستعماري.

تتجلّى جذرية المقاومة وإرثها أيضاً في مخيّم جنين، بما يُمثّله المخيم من روحٍ مقاتلةٍ عنيدةٍ تتوارث عبر الأجيال، وإلا فماذا يعني أن تخرج ثلة من الشباب وسط كل هذا الجنون الإسرائيلي، الذي تسنده السلطة الفلسطينية، ليعلنوا عن تشكيلهم "كتيبة جنين" مستندين على إرث من سبقوهم. عندما قرأت هذه الكتيبة بيانها الأول، كانت تقرأ بالتوازي معه حكم إعدامها. مع ذلك، فهؤلاء كانوا أطفالاً عام 2002، حين اجتاح الاحتلال المخيم ودمره فوق رؤوسهم، وربما شهدوا أبطال المخيم وهم في السجون بين مريضٍ ومتعبٍ وفاقدٍ للأمل من الحريّة، لكن قرّروا أن يُشعلوا جذوة التاريخ المخضب بالدم والفعل، وقد نجحوا في ذلك، ونقلوا التجربة لغيرهم، كـ"عرين الأسود" و"كتيبة طولكرم" و"كتيبة بلاطة"، وذلك رغم أن قيادات الصف الأول وربما الثاني من المقاتلين الجدد، قد استشهدوا، ودفعت المخيمات ثمناً كبيراً لاحتضانهم.

في حياة المقاوم الفدائي، دوماً هناك نهاية مرتبطة بالبداية. النهاية إما أن تكون تحرّراً كاملاً غير منقوص، أو نهايةً لجسد المقاوم وانتقال روحه لمقاوم آخر. بهذا المعنى، يشكّل السابع من أكتوبر بداية ونهاية في آنٍ واحد، فهذه نهاية الهيمنة العسكريّة الإسرائيليّة على الوعي الفلسطيني، ففيه تجاوزت المقاومة “السياج الفاصل” بحوالي 40 كم داخل أراضينا المحتلة، وسيبدأ التخطيط بعدها لتخطي مسافة أبعد منها، تماماً مثلَ صواريخ المقاومة التي كان يزداد مداها مع الوقت إلى أن غطت غالبية جغرافيا البلاد المحتلة. والسابع من أكتوبر أيضاً بداية لمرحلة جديدة، بأن المقاومة لم تعد واحدة من خيارين في مقابل السلام، بل تجذّرت بأنها الخيار الوحيد لإنهاء المشروع الصهيوني واسترداد البلاد كاملة غير منقوصة.



13 يناير 2019
لماذا تفشل خططنا للسنة الجديدة؟

تُشكِّلُ بداية السّنة إغراءً للبدايات ووضع الخطط وتصوّر القادم من الأيام، ومناسبةً لخطابٍ تُلقيه على نفسك بأنّ الأمور ستكون مختلفة.…