20 سبتمبر 2019

نعتذر، تخفيف البلاستيك لن يُنقذ الكوكب

نعتذر، تخفيف البلاستيك لن يُنقذ الكوكب

منذ اشتداد حرائق غابات الأمازون في يوليو/ تموز الماضي، لا يكاد يمرّ يومٌ دون أنْ أتعثّر في حساباتي على مواقع التواصل الاجتماعيّ بالكثير من الصّور والمنشورات والتعليقات التي تُعبّر عن قلقها وخوفها على الكوكب. منشورات أخرى تُذكِّرنا بما لا يعدّ ولا يُحصى من النصائح للتعامل مع المشكلة. 

يمكنك الآن التخفيف من ذنبك من خلال إعادة تدوير النفايات، واستخدام أجهزة صديقة للبيئة، والحدّ من استهلاك الطّاقة، وتركيب لوحٍ زجاجيّ فوق سطح منزلك، وغيرها الكثير من النصائح لجعل حياتك “خضراء” ومراعية للبيئة. 

لا يتوقّف الأمر عند هذا. يمتدّ الخوف عند البعض إلى الإيمان بضرورة وقف الإنجاب والتكاثر، فالكوكب بنظرهم غير قادرٍ على تحمّل المزيد، وغير آمنٍ للإتيانِ بطفلٍ وتنشئته. هكذا، كانت واحدة من الاقتراحات في أستراليا أن تُفرض على كلّ ولادةٍ جديدة رسومٌ باسم  “رسوم الكربون”. فيما تُشير مقالة علميّة إلى أنّ مشكلة السمنة تزيد من عبء الكربون على البيئة، وأخرى تفترض أنّ التكلفة الرئيسة للطلاق هي عبء الكربون الإضافي الناتج عن انفصال العائلات والحياة الفردانيّة. 

ولا أذكر في أيّ صحيفة قرأتُ رأياً يقول شيئاً يشبه أنّ “منكري ظاهرة الاحتباس الحراريّ أصبحوا على قدم المساواة مع منكري المحرقة”. فيما اختير اللون الأزرق الشاحب ليكون لونَ الموضة للعام القادم، ليُذَكِّر النّاس بالشُعَب المرجانيّة المُهددة بالانقراض نتيجة لتغيّر المناخ. يعني ذلك أنّك قد تجد كنزةً أو قميصاً يحملان ذلك اللون بعد بضعة شهور من الآن وتدفع ثمنه عشرات أو مئات الدولارات، في الوقت الذي يُفترض بك الحزن والأسى على الحياة البحريّة بدلاً من إنفاق المزيد من المال.

لسنا بحاجةٍ لذكر المزيد من الدراسات والآراء لِنَعلمَ أنّ اللغةَ المُكثفة المُستَخدمة في إعادة صياغة هذه الأحداث تُشير إلى أنّ الأمر يتحوّل شيئاً فشيئاً إلى حالةٍ مشتركةٍ من القلق والخوف العالميّين. يصبحُ السّؤال –بالنسبة لي على الأقلّ- فيما إذا كان التغيّر المناخيّ حقيقيّاً أم لا غيرَ ذي أهمّيةٍ مقارنةً بالسؤال الحقيقيّ عن الخوف حياله وردود الأفعال القَلِقَة المتزايدة الناجمة عنه. ولا عجب أنّ العديد من الدراسات النفسيّة التي انتشرت مؤخّراً تؤكّد بدورها على أنّ التغير المناخيّ يُهَدِّد الصّحة النفسيّة والعقليّة، وبات الآن ما يُعرف في علم النّفس باسم القلق المُناخيّ والاكتئاب البيئيّ.

قلقٌ فرديّ أمام المنظومة

“اليأس اليوميّ الذي لا يهدأ والخسارة التدريجيّة للطبيعة سيؤدّيان إلى بعض العواقب النفسيّة المُزمِنَة”، تؤكّد جمعية علم النفس الأميركيّة في تقريرها الذي أصدرته مؤخّراً بمشاركة عددٍ من المنظّمات البيئيّة. تستطرد الجمعية أنّ التغيّرات التدريجيّة على المدى الطويل يمكن أنْ تتراوح ما بين القلق اليوميّ على مصير الأرض والعالم، إلى الشّعور بالذّعر والعجز واستلاب القدرة على الفعل والتغيير. ما يعني أنّ لدينا الآن نوعاً جديداً من القلق والاكتئاب علينا التعامل معه وتصنيفه، وفصله عن أنواع القلق الأخرى المتزايدة والتي يجد لها علمُ النّفس الحديث اسماً كلّ عام.

نرى ذلك القلق “المَرَضي” في الموسم الثاني من مسلسل Big Little Lies الذي أنتجته HBO. يُصاب الأطفال بنوبة ذعر أثناء تعلّمهم عن تغيّر المناخ في المدرسة، ما يستدعي تدخّل الأخصّائي النفسيّ للتعامل مع الحالة. رغم أنّ المشهد قد يكون مبالغاً فيه بالفعل، إلّا أنّنا نعلم جيّداً تِبَعاً لنشرات الأخبار أنّ هناك بين اليوم والآخر مجموعة من الأطفال يقررون التسيّب عن المدرسة والاحتجاج في الشّارع على ما يحدث، مُستَجْدِين آباءهم والبالغين من حولهم بضرورة التحرّك لوقف تدمير الكوكب.

في السّياق نفسه، يشتغل فيلم  First Reformed (إنتاج 2017) بهذا الموضوع، ولعلّه أوّل عمل سينمائيّ بارز يتناول أزمتنا البيئيّة في القرن الواحد والعشرين. تنتحر إحدى شخصيات الفيلم -وهو رجل- لشعوره بالعجز وعدم القدرة على التغيير وحماية الأرض. قبل انتحاره، يصوّر لنا الفيلم القلق الذي يطغى عليه ممّا يحدث، والذعر الذي يصاحب حمْل زوجتِهِ وفكرة أنه سيأتي بكائنٍ جديدٍ إلى عالمنا الآخذ بالدمار. يأخذنا الفيلم إلى أبعد من ذلك بسؤاله إذا ما كانت البشرية تستحقّ النجاة والغفران الإلهيّ بعد الذي اقترفته في حقّ الطبيعة والأرض من تلوّثٍ وخرابٍ.

وبتساؤله هذا، يسلّط الفيلم الضّوء على التغيّر المناخيّ لا بوصفه مسألة قلقٍ فرديّ تمسّ المشاعر النفسيّة للأفراد وحسب، بل ومخاوفهم الدينيّة وشكوكهم الإيمانيّة ومساعيهم للخلاص كذلك. لكنّه في الوقت نفسه يصل بنا إلى صلب الموضوع: ليس الاحتباس الحراريّ والتغيّر المناخيّ قضية علميّة تستدعي انتباه الأفراد وحسب؛ ولكنّه قبل كلّ شيء قضية سياسيّة واقتصاديّة لا يمكن تناولها بمعزلٍ عن سياق المنظومة الرأسماليّة التي تُسيطر على جميع نواحي حياتنا.

“لا يوجد شيء اسمه مجتمع”

تكمن المشكلة الأساسية في أنّنا عادةً ما نتعامل مع المشاكل والأزمات الكبرى على أنّها مُنفصِلة، سواء السياسيّة منها أو الاقتصاديّة أو الاجتماعيّة أو النفسيّة، دون أن ندرك تماماً أنّ جميعها تتقاطع وتتشابك مع مصالح المشروع السياسيّ والأيديولوجيّ للرأسماليّة النيوليبراليّة، وتدعم صعوده واستمراره، وذلك بدءاً من الاستعمار، ومروراً بالأزمات الماليّة العالميّة، ومشاكل الفقر والبطالة، وانهيار التوازن البيئيّ والاحتباس الحراريّ، والأزمات الجندريّة والاجتماعيّة، وحتى صعود دونالد ترمب وبوريس جونسون وأمثالهما للسلطة في الآونة الأخيرة.

وبصرف النظر عن نوع الأزمة والمشكلة وآثارها الواضحة وغير الواضحة، فإنّ الأيديولوجيا الرأسماليّة تسعى دوماً إلى تحويلها إلى تحدّيات فرديّة بحتة. يصبح حينها الخطابُ المتحدّث عن الأزمة مُنصَّبَاً على تذكيرنا بمسؤولياتنا الفرديّة حيالها. هذا ما أكّدت عليه مارغريت تاتشر، رئيسة وزراء بريطانيا سابقاً، بشكلٍ علنيٍّ حين روّجت للمشروع السياسيّ للنيوليبراليّة، قائلةً بأنه “لا يوجد شيء اسمه مجتمع”، قاصدةً أنّ الأفراد، لا المجتمع، هم المسؤولون عن حياتهم وخياراتهم وقراراتهم ومصائرهم، وهو ما يصوّر شكل المجتمعات الغارقة في الثقافة الاستهلاكيّة والفردانيّة، والتي تتعامل مع المشاكل الكبرى بجهود فرديّة مُصَغّرة.

تشجّع هذه السرديّة لعلاقة الفرد بمجتمعه على العزلة الاجتماعيّة، وذلك من خلال الإشعال الدائم لفتيل المنافسة، بهدف نزع القدرة على أيّ تغييرٍ يجسّد إرادة الأفراد والشعوب. في الوقت ذاته، لا تعمل الرأسماليّة النيوليبراليّة على جعل الأفراد مُستهلكين محكومين بقوانين السّوق والبيع والشّراء من خلال استغلالهم وحسب، ولكنها تلجأ كذلك إلى استراتيجياتٍ ذكيّة توهِمهم بقدرتهم على الاختيار واتخاذ القرارات بحريّةٍ ومرونةٍ كبيرتين. 

لذلك، تجد الآن من يظنّ نفسه متمرّداً ضدّ الرأسمالية برفضه للّحوم المصنّعة واختياره الشّراء من متاجر الأطعمة العضويّة والنباتيّة، في حين أنّه قام فقط بتبديل العلامات القابلة للاستهلاك، وتغيير نشاطه الاستهلاكيّ إلى نوعٍ جديدٍ من المنتجات. كما أنّ معظم المبادرات والنصائح بإخبار الناس ماذا يشترون وأين يتسوّقون تعزّز المبدأ الرأسماليّ الأساسيّ: أنّنا أولاً وقبل كلّ شيء لسنا سوى مستهلكين.

استثمار الصدمة

تنتهز الرأسمالية أيّة أزمة وتحوّلها إلى بقرةٍ حلوبٍ تدرّ عليها الربح المُطلق؛ تصبح الحروب وفترات عدم الاستقرار والأزمات الاجتماعيّة والبيئية فرصاً لزيادة الاستهلاك ليس إلا. ما يعني أنّ الحرب على العراق وإعصار كاترينا ومشكلة التغيّر المناخي وغيرها ما هي إلا بطاقاتٍ رابحة في يد الأحزاب السياسيّة التي تسبّب الكوارث وتوظّفها فيما بعد لتسهيل توسّعها وسيطرتها الاقتصادية. يحتاج الأمر قبل كلّ شيء إلى إحداث “صدمة” عند الشعوب، من خلال استغلال وقوع كارثة أو حرب أو أزمة ما وتحويلها إلى فرصةٍ تسويقيّة مثيرة، من خلال إشغال الأفراد بطرق معالجتها والتخلّص منها، أو الحدّ من آثارها، أو من خلال ملء السوق بالحلول الاستهلاكيّة التي تستطيع شريحة معيّنة من الأفراد تحمّل تكاليفها دوناً عن غيرهم.

تُعَزِّز صدمةُ التغيّر المناخيّ إذن الشعورَ الفرديّ بالمسؤولية عن حماية الكوكب، وتُغذّي أحاسيس الذنب واللوم الذاتيّ لكلّ ما يفعله الفرد وما يقوم به في حياته اليوميّة بظنّه أنّه -هو بذاته- يعرّضُ النظامَ البيئيّ لخطر الانهيار والتدهور. وتستدعي هذه الصّدمة منه القيام بخطواتٍ فرديّةٍ، يجد مقترحاتٍ لها في صفحات مواقع التواصل الاجتماعيّ أو الكتيّبات الجاهزة. هذا في الوقت الذي تستمرّ فيه الرأسمالية بضخّ البضائع في الأسواق، واستخدام الوقود الأحفوريّ، وبالتّالي زيادة انبعاثات الكربون، جنباً إلى جنب مع خلق الحلول الاستهلاكيّة قصيرة المدى، والترويج للأفكار العلاجيّة التي تُخَدِّر الأفراد، وتقف عائقاً بينهم وبين أيّ ممارسةٍ سياسيّة واقتصاديّة شاملة قابلة لإحداث التغيير اللازم والعاجل.

بالطبع نحن بحاجةٍ، كلّ الحاجة، إلى أنْ نستهلك أقلّ، وأن نصرف كمّياتٍ أقلّ من الطاقة، ونزيد من المساحات الخضراء، ونبتكر طرقاً مُستَدَامة للتخلّص من النفايات. لكنّنا قبل كلّ شيء يجب أنْ نعي أنّ أزمة المناخ هي أزمتنا مع الرأسماليّة التي حوّلت علاقتنا مع الكوكب إلى صدامٍ محتومٍ بين المطالب المتزايدة للبشرية وبين الموارد المحدودة للطبيعة. علينا كذلك أنْ نعيَ أنّ خروجنا من ظلّ الممارسات والمبادرات الفرديّة هو الخطوة الأهمّ في مساعينا لحماية البيئة، فما نحتاجه في نهاية المطاف هو مواجهة جماعيّة للنظام الاقتصاديّ والشركات التي تديره وتؤثر فيه.