13 يناير 2019

لماذا تفشل خططنا للسنة الجديدة؟

لماذا تفشل خططنا للسنة الجديدة؟

تُشكِّلُ بداية السّنة إغراءً للبدايات ووضع الخطط وتصوّر القادم من الأيام، ومناسبةً لخطابٍ تُلقيه على نفسك بأنّ الأمور ستكون مختلفة. وسواء كتبتَ خطّتَك القادمة على ورقٍ أو أخبرتَ بها نفسك؛ فإنّ عزاءً ما ينمو داخلك: إنجازاتُك ستكون هذه المرّة على نحوٍ مغايرٍ. هذا رغم أنّك لم تنجحْ في خطّتك السّنوية الفائتة، إذ نسيتَها بعد شهرٍ واحدٍ غالباً (إن لم يكن قبله)، ورغم أنّ "الأجندة" السّنوية، التي اشتريتَها بعد أن نَظّمتَ عليها قائمةَ المهام في أول أسبوعٍ من السّنة، استحال أمرُها إلى دفترٍ إضافيٍّ من دفاترك.

مع إطلالة العام الجديد، تُقنِع نفسك أنّ الأحوال ستتبدّل لمجرّد أنّ رقم "9" وُضِعَ بدلاً من رقم "8" في كتابة السّنة، وهكذا يُشكِّلُ التّبديل الشّكلي للأرقام عزاءً خارجيّاً لذيذاً؛ وبما أن لا أحد يملك لنا عزاءً آخر، فعليه ألاّ يُفسِدَ علينا الأمر.

السّؤال هو لماذا يفشل تخطيطُنا السّنوي؟ هل يتعلق الأمرُ بنا أم بالخطط نفسها؟ أم بالواقع الذي يتآمر ضدّنا على عكس ما أخبرنا به قانون "السّر" وباولو كويلو؟ (إن لم تكن قد سمعت بكلاهما، فقد نَجَوْت -ولو بشكلٍ جزئيٍّ- من الاستماع لترهات قدّمت نفسها على أنها روحانيّة معاصرة).

في الغابة قانونٌ يسري في كلّ مكان

يسكن التّخطيط داخل تكويننا البيولوجيّ، بمجرّد أن مُنحنا عينين قاصرتين عن رؤية المشهد كاملاً؛ تلك الإشكاليّة الأصيلة في تكويننا. وبما أننا ننتمي إلى الحيوانات المُفترسة فقد كُنّا متأخرين عن طرائدنا في مجال الرؤية.

كلّ ما تحتاجه الطرائد كي تنجو هو أن تطوّر من سرعتها، فيما كنا -نحن- بحاجة إلى تطوير خيالنا، وأن نخطّط لنستدرك ما غاب عنّا من مجال الرؤية، أي أن نخطّط لخطواتنا القادمة وأن نتوقع حركة طريدتنا؛ أن ننسق مع الآخرين للإمساك بها، ونتخذ مساراً ليس بالضرورة مستقيماً تجاه ما نريد: طريقٌ فرعيٌّ نتخيل أنّه يُفضي إلى ما نريدُ الإمساك به.

التخطيط هنا مسألةٌ تقع في صلب نجاتنا، ومكتوب على من لا يملك غير ارتجاله أن يعود جائعاً، في حين أنّ الذي لا يعرف شيئاً عن مهارة الارتجال محكومٌ عليه أن يأكل نفس الطّعام إلى الأبد.

تمتلكُ معارفنا وتطلّعاتنا خاصيّة الطّرائد؛ إنّها تُطوّر ركضها الخاصّ مبتعدةً عنّا، في حين أنّ فرصتَنا في القبض على شيءٍ منها منوطة بالرؤية وبالتّخطيط الذي يأخذ على عاتقه تحويلها إلى مواد وإنجازاتٍ محسوسةٍ. وكما في قصة "ماوكلي"، فإنّ على قائد قطيع الذئاب الذي يفشل مرّةً في صيد طريدته أن يتنحّى عن قيادة القطيع، لذلك ليس صحيحاً أنّ كلّ فشلٍ ينتظم كدرسٍ مفيدٍ يُراكم على خبرتنا من أجل المستقبل، بل إنّ ذلك قد يَطرد ذئابَنا النهمة باستمرار، ويجعلها ترتد قانعة بأدوار بدائيّة.

لذلك، يبدو سؤالنا عن فشل التّخطيط السنويّ سؤالاً عن الأشياء التي نتخلّى عنها كلّ سنة تحت قناعة أنّه لا يمكن إنجازها، لأنّها بطبيعة الحال لم تُنْجَز في السّنة الفائتة، وينتهي بنا الحالُ أن يقود ذئابَنا الجسورةَ قطٌ منزليٌّ غير مدرّب على خشية البيوت الآمنة، يسترخي داخلنا قنوعاً بما يُـتيـحه الـ"سيستم" من فتات الموائد.

العشب ضدّ الشّجرة

تضع الشّركاتُ خططها السّنويّة والخماسيّة (وربما لخمسين سنةٍ قادمة)، ومع إدراكها لتقلبات الواقع، إلا أنّه بالمجمل يمكن ضبط منتجها وفق خطّةٍ تقودها من نقطة محددة نحو ما تريد إنجازه. يبدو تخطيط المؤسسات قريباً في منطقه من شكل الشجرة، ينمو من بذرةٍ ويتفرعُ في أغصانٍ يعرفها؛ ليُحقق ثماراً متوقعةً سلفاً. إنّنا نعرفُ شجرةً ما من ثمارها حتى وإن لم تكن مثمرة.

تقتبسُ دروسُ التّنمية البشريّة من هذا النموذج نصائحها المُرهِقَة للأفراد، وينتهي الأمرُ بهذا التّصوّر ليتحوّل إلى توبيخٍ مُستمرٍ لنا حول عدم جديّتنا في الالتزام بما سبق وتعهّدنا به أمام أنفسنا.1في الواقع ليست التنمية البشرية وحدها التي اقتبست نموذج الشجرة، الفلسفة فعلت الشيء نفسه في رؤيتها للأفراد ولنفسها كمنظومة تفكير، وهي من المآخذ التي يحملها الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز عليها، مُستعيناً بنموذج العشب.

وعلى عكس ما تدّعي هذه الدروس لنفسها فإنّها تُشتّت انتباهَنا ولا تمنحنا التّركيزَ الذي يفيدنا. ذلك لأنّ الأمور تبدو أكثر تعقيداً في حالة الفرد، داخلنا شبكة متشعبة من المستقبلات والنزوعات التّي تَخلِقُ جذوراً متعددة، يحصل كلُّ جذر منها على ما يريده من ماء بشكلٍ مُستقلٍ، ليواصل النمو بالتّوازي، وربما بشكل يتعارض مع جذور أخرى داخلنا. على الدوام، تُبنى العلاقات فيما بينها، وهي غير مُعطاة بشكل قبلي -كما في حالة الشجرة أو الشركة- بل تتكشّف خلال الطريق. ولأننا لا نستطيع حصر هذا التّكوين المُتشعب والفراغي داخلنا، فإنّنا نميل إلى تجاهله كلياً، مع أنّه يبرهن كل مرّة عن حقيقيّة وجوده.

تضعُ بدايةَ السّنة قائمةَ كتبٍ تُريد قراءتَها ولا تقرأ ربعها في أحسن الأحوال. وإذا وضعنا الكسل جانباً، فإنّ فكرة واحدةً مُغريةً تلوحُ لنا من كتاب، تستطيعُ جعلَنا نركض وراءها بنهمٍ لافتراسها، وتأخذنا إلى تشعباتٍ جديدةٍ، نحو كتب أُخرى لم تكنْ واردة، فلا يعود من معنى للقائمة التي قمنا بإعدادها؛ ننبذ القوائم وكأنّه لا هدف منها سوى نبذها باستمرار.

لذلك، تبدو قوائم القراءة مسألةً لا تتعدى الإخبار عن الإصدارات، مثل الدليل السّياحيّ الذي يُخبرك عن معالم المدينة، لكنّه لا يحدّد لك كيف تستكشف ما يخصّك فيها. في الواقع، تُبنى القوائم الحقيقيّة خلال سعيك الحثيث لتتبّع تلك التفريعات التي تأخذ بالنمو تدريجياً داخلك؛ القوائم الحقيقة دائماً تُكتب بأثرٍ رجعيٍّ.

ينسحبُ الأمرُ على أهدافنا كلّها، نحتاج إلى تطوير نوعٍ من الشّجاعة الكافية، القادرة بدورها على أن تلقي جانباً كلّ ما خططنا له أمام فتنة "الجديد" و"المبهج" و"اللافت"، الذي يقيم لقاءً لا نتوقعه مع أرواحنا، أو يفتح لها أفقاً لم يكن في حسبانها، أو في مواجهة "المُفزع" و"الطارئ" الذي يترصّد بنا، ويقيم علاقة خلّاقة وخشنة مع فكرتنا عن أنفسنا، لذلك فإنّ التخطيط الحقيقي المتّصل بنا يتجاوز دائماً أهدافه ويخونها.

بتعبير نابليون: "لا يذهب بعيداً من يعرف مسبقاً إلى أين يريد الذهاب". وكثيراً ما كان يُفزعني ذلك النوع من المثابرين الذين يلتزمون خططهم بحذافيرها؛ إنهم يعرفون جيداً ما يريدون لدرجة أنهم لا يتغيّرون.

كما العشب تنمو ذواتنا من المنتصف، لا بداية لشيء من نقطة الصفر، ولا تنتهي الأشياء في نقطة مُعلقة في طرف ثمارها. لا توجد خطّة من البداية بل من المنتصف دائماً، ولا أعرفُ تعبيراً أذكى من الذي صاغه كافكا حول هذه الفكرة: "إنّ كل الأشياء التي تحدث لي لا تبدأ من جذورها، بل من منتصفها تقريباً، ومحاولة المرء الإمساك بها تشبه محاولات الإمساك بعشب يبدأ نموه من منتصف ساقه". يتحرك العشبُ البريّ داخلنا ليملأ السّهول الممتدة على زمن إقامتنا في الحياة، وكلّما رأى شقوقاً في جدار كلّما اكتسب ممكناً جديداً له. يُجتزّ عُشبنا باستمرار لكنه يمتلك الوقاحة الكافية الطافحة باخضراره.

لماذا، رغم هذا، لا زلنا نضع الخطط السنويّة؟

لأن الأمور ستكون أسوأ في غيابها، لأنّنا نحتاج أن نمتلك تصوراً مبدئيّاً لما يمكن أن نكونه، حتى يمكننا تعريف الخروج عنه. ولأننا أيضاً نشعر بلذة خفيّة حين نملك مخططاً ما، ونملك لذّةً تفوقها حين يفاجئنا طريقنا بما لا نعرف. نحتاج للخطّة لأن الأمور ستكون أسوأ بطريقة لا يمكن فيها احتمالها، وإذا نحيّنا نموذج التخطيط المؤسساتي، فإنّ أقرب تصوّر لما يصلح لنا هو "التخطيط العسكريّ".

يصف تشرشل الأمر بدقةٍ حربيّةٍ بالغةٍ حين يقول: "التّخطيطُ ضروريٌ ولكنّ الخطط بلا فائدة"، أشياء كثيرة يفاجئك بها ميدانُ المعركة لم تكن في الحسبان، لدرجة تجعل من الخطّة بلا فائدة، لكنها كانت ستكون كارثةً مفجعةً لو لم يجرِ ذلك التّخطيطُ الذي يسبقها، أن يتغيّر تعريفنا للفشل فيما يتعلق بخططنا هو خطوة أولى، ليكون التخطيط مثمراً.

في المجمل، يُمكنك وضع خططك بإحكام؛ شريطة ألاّ يُعطل ذلك من رهافة حاسة السّمع لديك، يقظاً كحيوان يشرب الماء، لا يتخلى عن انتباهه حتى وهو في وسط العاديّ واليوميّ والمعروف.



27 مارس 2023
يوم انطوى العالم في حذاء

هذه سلسلة تسعى لقراءة إرث كنفاني في القصة القصيرة. وتبدأ كل حلقة بموجزٍ للقصة المعنيّة، وتنتهي بهامشٍ يحاور النص ويحاول…