18 مايو 2021

من القدس إلى غزّة.. أصالة المقاومة وراهنية الدور

من القدس إلى غزّة.. أصالة المقاومة وراهنية الدور

من الصعب مناقشة المواقف المتحفّظة على المقاومة الفلسطينيّة وأدائها مناقشةً تجريديّة، وذلك لاختلاف منطلقات أصحابها، ما بين رفض المبدأ نفسه، لأسباب إنسانويّة متهافتة، أو لافتقاد الإيمان بقدرات الضعيف وإرادته أمام جبروت القوي، أو رفض التشكيلات المقاوِمة القائمة لأسباب أيديولوجيّة أو سياسيّة. 

لكنّ المتحفّظين على اختلاف منطلقاتهم يؤولون في النهاية إلى نتيجةٍ واحدةٍ، وهي رفض المقاومة بالاستناد إلى مقولاتٍ جاهزة، وتصوّرات مُسبقة، لا مصاديق صلبة لها في الواقع. ولا يدخل في هؤلاء، بالتأكيد، من يؤمن بالمبدأ ولا يَسقطُ في فخّ العبودية للخلاف الأيديولوجيّ والسياسيّ، ولكنّه يختلف مع المقاومة في التفاصيل والحيثيات، بمعنى أنّه قد ينتقدها من على قاعدتها نفسها.

من المفيد أن نقوم بتفكيك تلك المقولات الجاهزة والتصوّرات المُسبَقة المُتحفِّظة والرافضة من خلال عرض المعطيات الصّلبة في واقع المقاومة ونتائجها. إلا أنّه من المفيد كذلك أن نُبيّن الأساسَ الذي تختلف عليه هذه المنطلقات، ما بين المؤمنين بالمقاومة، وهو إيمانٌ عقلانيٍّ خالصٍ، وبين رافضي المقاومة استناداً إلى ادعاءات عقلانيّة، هي أقرب إلى الشعبويّة السّهلة، بخلاف ما يزعمون، وذلك في حال عرّفنا الشعبوية هنا، بأنّها شعارات جاهزة مكرورة تفتقد المعطياتِ الصّلبةَ في الواقع.

آفاق المقاومة الشعبيّة في ظروفنا

تُثبتُ الوقائعُ الصّلبةُ أنَّ استكانةَ الضحية تمنحُ العدوَّ المُستعمِرَ فراغاً لا متناهيّاً من الهدوء للتمدّد فيه، ويمكننا القول إنّ هذا الذي فعلته سياساتُ السُّلطة الفلسطينيّة، حينما شلّت النضالَ الفلسطينيّ، فتمدّد الاحتلال استيطانيّاً في القدس والضفّة الغربيّة، وسياسيّاً واقتصاديّاً وثقافيّاً في المنطقة العربيّة. وبما أنّ الردّ - عند هؤلاء- على هذا المبدأ الجوهريّ في الصراع، سيكون بدعوتهم إلى تصعيد مقاومةٍ شعبيّةٍ لا مسلّحة، فعلينا فحص المعطيات في الواقع.

للبحث في ممكنات المقاومة الشعبيّة، وهل هي كافية لوحدها لاستنزاف الاحتلال أو الضغط عليه، تنبغي ملاحظة الظروف والوقائع المتباينة بين ظروف الفلسطينيّين داخل فلسطين الانتدابيّة. في حين ما يزال البعض يعيش في نوستالجيا الانتفاضة الأولى، فإنّ الواقع يحول دون تكرارِ تلك الحالة الكفاحيّة بسماتِها نفسها، لاختلاف الشُّروط الموضوعيّة.

لو تجاوزنا عن سياسات السُّلطة الفلسطينيّة غير المُتعاطفة، في ألطف التعبيرات، مع أيّ مواجهة مع الاحتلال، مهما كان شكلها وأدواتها، فإنّ إعادةَ انتشار قوات الاحتلال خارج مراكز الكثافة السُّكانيّة في الضفّة، بحسب اتفاقية أوسلو، وإحلال السُّلطة الفلسطينيّة مكانها، يجعل من أدوات العصيان المدنيّ، والالتحام الكفاحيّ بقوات الاحتلال أمراً منعدماً، وهو ما تجري المحاولةُ للتعويض عنه في الهبّات الأخيرة بالزحف لنقاط الاشتباك. 

تلك المحاولات على أهميتها الآنية والراهنة، فإنّها غير قابلة للاستمرار، وهو ما يدركه شعبنا بفطرته النضاليّة الذكيّة. أمّا المقاومة الفلكلورية، كالوقفات الاحتجاجيّة والإضرابات المُفرغة من معاني الصدام، فلا قيمة لها في الحالة الفلسطينيّة إن اتُخِذَت شكلاً وحيداً لمقاومة الاحتلال.

يُحيل ذلك إلى ضرورةِ وجود بُنىً تنظيميّةٍ قادرةٍ على تأطير الجماهير والفعاليات الشعبيّة في مقاومةٍ شعبيّة، تَعرِف أين تستهدف الوجودَ الاحتلالي في الضفّة الغربيّة، ومتّى وكيف. لكنّ ذلك الأمرُ غير متاح، نتيجة السّياسات الأمنيّة للسلطة الفلسطينيّة، وكثافة استهداف الاحتلال لأي محاولات بناء تنظيميّ في هذه السّاحة، فكيف إذا أخذنا بعين الاعتبار تفريغ وجود السّلطة أصالةً للعديد من أدوات الانتفاضة الأولى من معناها، بالإضافة لسياسات الهندسة الاجتماعيّة التي تَهدِفُ أصلاً لتحييد الجماهير، وتوفير ذلك الفراغ من الهدوء الذي يُشترط به وجود السّلطة واستمرارها.

اقرؤوا المزيد: "كيف اختنق الفلسطينيون جميعاً في نفق السّلطة"؟

لا جدال على أنّه لا يمكن الحديث عن انتفاضةٍ شعبيّةٍ مستمرّة ومفتوحة دون التحاق الضفّة بها، وتمركزها فيها. ولمّا كانت ظروف الفلسطينيّين في الأراضي المحتلة عام 1948 والقدس مختلفة، وترتكز هبّاتهم إلى معطيات محلّية، محكومةً بنمطٍ خاصّ من العلاقة بالاحتلال، وكان الاحتلال قد انسحب من قطاع غزّة، فإنّه لا يمكن البقاء في السّكون المُطبق انتظاراً لانتفاضةٍ شعبيّة. 

ومن هنا كان لا بدّ من وجود مقاومة مسلّحة تكسر حالة الاستكانة، لإعادة استنهاض الشّعب وإحياء القضيّة. ولأسبابٍ تاريخيّة وسياسيّة، انحصرت هذه المقاومة في غزّة، بالرغم من أنّها في انتفاضة الأقصى كانت شاملة، فلا يمكن تعطيلها انتظاراً لمقاومة شعبيّة في ساحات أخرى قد لا تأتي قريباً.

المقاومة المُسلّحة وسؤال الخسائر البشرية

تتبيّن بذلك الضرورة المبدئيّة والإستراتيجيّة لوجود مقاومةٍ مُسلّحة، ولضرورة أن تمارس دورها. وفي هذا الإطار سيكون الاختلاف مقبولاً حول التوقيتات والأدوات والأهداف السياسيّة، لا على المبدأ نفسه. بيد أنّ الاتفاق على هذا المبدأ، ينبغي أن يدرك طبيعة العدوّ، وسمات الصراع معه، فالتصوّر بأنّ كلفة المقاومة المسلّحة ستكون على حساب هذا المبدأ، غير دقيق.

إذ يعتقد بعض الرافضين للمقاومة المسلّحة، أنّها توفّر ذرائع البطش الهائل للاحتلال الإسرائيلي. بغضّ النظر عن دراسة تاريخ هذا الاحتلال وطبائعه وسماته، ونزعات الإبادة الكامنة في أيديولوجيته، فإنّ بطشه المتفاقم من انتفاضة الأقصى فصاعداً، مرتبط بوجود سلطة فلسطينيّة، لا بالمقاومة المسلحة، بمعنى أنّه يُفسّر أيّ عملٍ مقاومٍ قادمٍ إليه من أراضي السُّلطة، سواء كان شعبيّاً أم مسلّحاً بأنه قادم من أرض معادية محكومة بسلطة منفصلة. 

ولا نحتاج لإثبات ذلك، سوى التذكير بأعداد الشُّهداء العزّل الذين كان يقتلهم الاحتلالُ يوميّاً على الحواجز في مطلع الانتفاضة الثانيّة. هذا المشهد، بالإضافة لصعوبة الاستمرار في الزحف للحواجز للموت برصاص الإسرائيلي، كان من أهمّ أسباب تحوّل تلك الانتفاضة إلى مسلحة، فقد قتل في أوّل عشرة أيّام منها فقط أكثر من تسعين شهيداً، واستشهد في عام واحد فقط في مسيرات العودة في غزّة وهي شعبيّة بالكامل 281 شهيداً، فضلاً عمّا يقارب العشرين ألف إصابة، واستشهد في يوم التحاق الضفّة بالهبّة الجارية أحد عشر شهيداً في يوم واحد. لذلك، فإنّ التصوّر بأنّ المقاومة الشعبيّة قادرة على امتصاص البطش الإسرائيلي تدحضه الوقائع الصلبة، مهما تفاوتت نسبةُ البطش بين المسلحة والشعبيّة، بحكم طبائع الأشياء.

من يحرف نظر من؟

يحيل هذا المبدأ، إلى نقاش موقع المقاومة المسلّحة من الرأي العام العالميّ، إذ يبني بعض المعقبين على الشأن الفلسطينيّ مواقفهم فقط من هذه الزاوية. في ذلك مشكلة سياسيّة وأخلاقيّة في الوقت نفسه، فمشروعية المقاومة، شعبيّةً كانت أم مسلّحة، تستند إلى مبررات وجودها الأصيلة، لا إلى الموقف العالميّ منها، لاسيما إذا كان العالم منحازاً، ويحتكم إلى قانون وضعه الأقوياء، وهم أنفسهم مؤسسو "إسرائيل" ورعاتها.

لا يعني ذلك، إهمال الرأي العام العالميّ أو عدم العمل على محاولة تطويره لصالح القضيّة الفلسطينيّة. لكن ذلك الرأي جزءٌ من سياقٍ كبير، لا يتفرّد فيه وحده، بل إنّه لا يمكن استثارته لصالح القضيّة الفلسطينية بالاستكانة طالما أنّ شروط توليد مقاومة شعبيّة شاملة وواسعة ومؤثّرة غير متوفّرة بعد، كما سلف شرحه.

وبالنظر إلى تمدّد الهبّة من طابعها الشعبيّ في القدس إلى طابعها المسلّح في غزّة، فالملاحظ أنّ ذلك لم يؤثّر سلباً على لفت انتباه ذلك الرأي، بل تعزّز، وظلّت المظاهرات الضخمة تُنظّم فيه طوال أيام الحرب على غزّة. ذلك فضلاً عن مظاهر أخرى كثيرة، كان منها سياسيّاً إقرار وزارة الخارجية الأميركية بأنّ السّياسات الإسرائيلية في حيّ الشيخ جرّاح بالقدس كانت سبباً في اتساع الأحداث، فلا المقاومة المسلّحة حرفت الأنظار عن قضية حيّ الشيخ جرّاح، ولا شوشّت على الرأي العام العالميّ. هكذا نرى أنّ الوقائع الصلبة تدحض هذه التصورات المسبقة، كما يدحضها تاريخُ القضية الفلسطينيّة مع القوى الغربيّة، فلم يكن تاريخ الفلسطينيين مقاومة مسلحة فحسب. كما أنّ المقاومة المسلحة في غزّة تتجنب المواجهة منذ ست سنوات، مما يعني أنّ الموقف الرافض للمقاومة المسلحة حرصاً على الرأي العام العالمي قد تحوّل إلى دوغما متضخمة على حساب خلايا الوعي والإدراك بما يفوّت إمكانية رؤية الواقع كما هو!

اقرؤوا المزيد: "أعمدةُ المواجهة في باب العامود".

بالعودة إلى الوقائع الصلبة الراهنة، يُلاحظ أنّ تدخل المقاومة المسلحة قد نقل الهبّة إلى الضفّة الغربيّة، وعزّزها في الأراضي المحتلة عام 1948، وعظّم من التفاعل العربيّ والتضامن الدوليّ، ودَفَع شرطةَ الاحتلال لإصدار قرارٍ مؤقّت بمنع اقتحام المستوطنين للمسجد الأقصى. كما رفع الروح المعنويّة للفلسطينيين والجماهير العربيّة بعد مرحلة انسداد التاريخي، وشوّش على سياسات التطبيع ودعاياتها، وأثبت جدّية المقاومة والممكنات المخزونة في الفلسطينيين، وأعاد موضعة المقاومة في غزّة، وموقع قطاع غزّة نفسه؛ في سياق مشروعٍ تحرريّ واحد ومتكامل، وكسر المعادلة الإسرائيلية التي تريد حصر المقاومة في غزّة بوظيفة سياسيّة لتحسين شروط الحصار. هذا فضلاً عن جملة من الإنجازات في الميدان التي تدلّ على عبقرية هذا الشّعب، ومثابرة مقاومته، ومؤشرات ذلك على المستقبل في الصراع مع العدوّ.

المقاومة المسلحة وبعث الروح المعنوية

إنّ الإنجازات المعنويّة لهذه المواجهة مفصليّةٌ للغاية، وقول ذلك لا ينجم عن معتقدات شعبويّة، وإنما أولاً عن حالة نفسيّة تؤمن بشعبنا ومستقبله، ولا تسلّم لتفوّق العدوّ وحماته، أي هي حالة متخلّصة من الشعور بالدونية والهزيمة الأبدية. 

ومن هنا يأتي الإيمان بفكرة مراكمة القوّة المعنويّة والماديّة، فهذا الصراع لن ينتهي بالضربة القاضية، ممّا يعني توفير الباعث الدائم برفع الروح المعنويّة لتجديد إرادة المدافعة، بما يجدّد الشعب وذاكرته الكفاحيّة ويكسر سياسات التدجين والهندسة الاجتماعيّة. وقد رأينا دور الإيمان والثقة بالنفس وصلابة الإرادة والجدية والصدقية في تطوير المقاومة المحاصرة في ظروف مستحيلة لأدواتها وخططها وقدراتها.

يتصل بهذا الإيمان بشعبنا ومقاومته موضوعُ تفكيك الادعاء الذي يربط دائماً المقاومة المنطلقة من غزّة بالأجندة الإيرانية. يُغفل هذا الادعاء تاريخَ الشّعب في المقاومة المسلّحة بمعزل عن العلاقة مع إيران، مما ينطوي على إهانة بالغة، كأنّه لا يتوفّر الباعث الذاتي عند الفلسطينيين للدفاع والمقاومة وطلب الحقوق. 

كما أنّه يُغفل طول الحصار على غزّة وفشل كلّ محاولات رفعه بالوسائل السلمية، أو بإنجاز مصالحةٍ فلسطينيّة، أو بالذهاب لانتخابات وافقت عليها "حماس" وألغتها السلطة. وعلى الأرجح، فإنّ العديد من سياسات "حماس" في هذا الإطار كانت تخالف التوجّه الإيراني.

كما يُغفل هذا الادعاء، اجتناب المقاومة في غزّة للمواجهة طوال الأزمة الإيرانيّة الخانقة فترة ترمب، في الوقت الذي كانت فيه إيران تحاول تنفيسها بأي طريقة في ساحات الخليج واليمن والعراق.

هكذا، يتضح تماماً، أنه لا يمكن لأصحاب هذا الادعاء أن يتصوّروا تقاطع المصالح في السياسة إلا في إطار التبعية، في ضربٍ، ربما، من الإسقاط النفسي. وهو أمر دالّ على هزيمة نفسيّة، لا تفضي إلّا إلى الرفض المبدئيّ للمقاومة المسلحة.

أمّا الذين لديهم مشكلة مع المقاومة بسبب طبعتها الأيديولوجيّة والسياسيّة، فهؤلاء في التحليل النهائي يؤول بهم الأمر للمساواة بين أصحاب الحقّ، السكان الأصليين، وبين اليمين الإسرائيلي، مما يعني حتماً انحيازهم للصفّ الإسرائيلي، فلا ينبغي والحالة هذه إلا توصيفهم بما هم عليه من الانحياز.