"نِشف ريقنا"، تقول هنادي حمايل متنهدةً من عمق صدرها، بعد مضيّ أكثر من أربعة شهور على اعتقال نجلها قسّام (23 عاماً) من قبل الأجهزة الأمنيّة الفلسطينية، وذلك على خلفية ما عُرف بقضية "منجرة بيتونيا". لا إجابات لدى هنادي حول مستقبل ابنها ومصيره، تماماً كما عائلات المعتقلين الستة الآخرين. أما عن وقتٍ ينتهي فيه هذا الكابوس، فلا قدرة لدى الأهالي على تخيّل ذلك لشدّة ما تلقاه أولادهم من تعذيب يروّض الأمل، ويحاول أن يقلب الباطل الذي بُني عليه الاعتقال، إلى حقٍّ لا تزال ألسنة المعتقلين تفضحهم به.
وقائع تأليف "التهمة"
في السادس من حزيران/ يونيو 2022، وقع انفجار في منجرة منذر رحيب في المنطقة الصناعية في بلدة بيتونيا، غرب مدينة رام الله. منذ اللحظة الأولى للحادثة، سارعت الأجهزة الأمنية إلى تهويل الأخبار، معلنةً على لسان الناطق باسم الشرطة "مباشرتها بإجراءات البحث والتحرّي، والتحفظ على مالك المنجرة". كما أعلنت إغلاق المنجرة بأمر من رئيس نيابة محافظة رام الله والبيرة، وتكليف إدارة هندسة المتفجرات والدفاع المدني بإعداد التقارير الفنية اللازمة وفحص المكان للحفاظ على السلامة العامة، وذلك حسب بيان مقتضب نُشر في اليوم نفسه على الموقع الرسمي (وفا).
بالتزامن مع ذلك، باشرت الأجهزة الأمنية بحملة اعتقالات واسعة في بلدة بيتونيا طالت نحو 20 معتقلاً، أفرجت عن معظمهم فيما بعد، بينما أبقت على ستة معتقلين يواجهون يوميّاً تعذيباً قاسياً وظروف احتجاز صعبة، وهم: أحمد هريش، ومنذر رحيب، وقسام حمايل، وأحمد الخصيب (أفرج عنه بتاريخ 25.10)، وخالد نوابيت، وجهاد وهدان.
عبر مواقع مقرّبة منها أو تابعة لها، صوّرت السلطة الحدث كما لو أنّه محاولة "انقلاب" عليها عنوانه: "السعي لاستهداف مقر المقاطعة في رام الله، ومقرات أمنية فلسطينية وشخصيات بارزة". كما ادّعت وجود نفق في المنجرة أُعدّ لتنفيذ ذلك "المخطط"، غير أن عائلة هريش تؤكد على أن النفق الذي تتحدث عنه الأجهزة، هو حفرة امتصاص قديمة.
بعد نحو ثلاثة شهور على التحقيق مع الستة وتعذيبهم، قرّرت السلطة الفلسطينية اعتبار الملف الذي تعاملت معه في البداية من منطلقٍ أمنيّ وسياسيّ كملفٍّ جنائيّ. على إثرها، أعلن المعتقلون الإضراب عن الطعام، مؤكدين أن اعتقالهم جاء بسبب خلفياتهم السياسية، خاصّةً أنَّ معظمهم أسرى سابقون في سجون الاحتلال. كما أكدوا أنّ تهمة "تصنيع المتفجرات" التي وُجّهت لهم لا أدلة عليها، وهي مُلفّقة وغير صحيحة، ولم يُسألوا عنها خلال التحقيق، بل سُئلوا عن انتماءاتهم واعتقالاتهم السابقة في سجون الاحتلال.
وبعد كلّ هذه المدة، يُجيب القاضي والدة المعتقل قسام حمايل عند سؤالها عن سبب تمديد اعتقاله، فيقول: "لم ندرس الملف بعد. من أنت لتخبرينا متى ندرس الملف!". وصدر قرار آخر بتمديد اعتقاله ورفاقه، ورُفضت طلبات إخلاء سبيلهم.
عُرف الإضراب عن الطعام بصفته أداةً للأسير الفلسطيني في سجون الاحتلال يلجأ إليها لانتزاع حريته وحقوقه، إلا أن خمسة معتقلين سياسيين يخوضون اليوم الإضراب عن الطعام في سجون السلطة بأجساد أنهكها التعذيب وسوء التغذية على مدى الأشهر الأربعة الماضية، مطالبين بالإفراج الفوري عنهم. pic.twitter.com/STIujOthH5
— متراس - Metras (@MetrasWebsite) October 16, 2022
الهيكل العظمي
قسّام الذي أمضى عامين في سجون الاحتلال (2018-2020)، اعتقل بعد 20 يوماً من حدث المنجرة، إذ اعترض عناصر من الأجهزة الأمنية بلباسٍ مدنيّ حافلة كان يستقلها وهو عائد من جامعته بيرزيت. أُخضِع قسّام لتحقيقٍ حول خلفيته السياسية ونشاطه الطلابي، وبعد قرابة الشهر وجد "تهمة المنجرة" تُلفّق له، ووجد نفسه مع المتهمين الآخرين الذين لم تكن له معهم أيُّ صلةٍ سابقة. تختصر والدتُه شهادة نجلها التي نقلها إليها: "كلّها كذبة باطلة، لا إله ولا عليه فيها"، وهو ما تدعمه تسريبات وصلت العائلة من شخصيات في الأجهزة الأمنية لمّحوا أنّ قسّام لا علاقة له بهذا الملف.
تحوّل قسّام إلى هيكلٍ عظمي، بعد أن فقد نحو 20 كيلو غراماً من وزنه جرّاء التعذيب وسوء التغذية وظروف الاحتجاز القاسية. لم يعد كما كان، ولم ينطق لسانه يوماً عن حاله بقدر ما نطق جسده الماثل أمام والدته من خلف زجاج الزيارة. تقول هنادي: "في كل زيارة يلتف حولنا عناصر الأجهزة الأمنية ويمنعوا قسّام من الحديث عن ظروف احتجازه وعن التعذيب".
أما المعتقل أحمد هريش (28 عاماً)، فقد نال نصيباً مضاعفاً بأصنافٍ وأشكالٍ جديدة من الشبح والتعذيب. يُعلّق محاميه مهند كراجة من مجموعة "محامون من أجل العدالة": "منذ عام 1994 وحتّى اليوم، يعتبر أحمد هريش واحد من بين خمسة معتقلين سياسيين تعرّضوا لأقسى أنواع التعذيب في سجون السلطة. معجزة إلهية التي ما زالت تبقي أحمد حياً حتى الآن".
اقرؤوا المزيد: "في كل مرّة يكون الشبح أشدّ وجعاً": عن الاعتقالات لدى السلطة
خلال السنوات العشر الأخيرة، لم يمض عام كامل على أحمد هريش وهو حرّ، إذ اعتقل خلالها ست مرّات في سجون الاحتلال؛ كان أطولها بين عامي 2017-2021. واعتقل 14 مرّة في سجون السلطة، هذا الاعتقال هو الأطول والأصعب. خلال جلسة عقدت في محكمة أريحا في 13 حزيران/ يونيو الماضي، صرّح هريش أمام القاضي عن تعرضه للتعذيب، والشبح على شباك الحمام، والضرب بقضيبٍ حديدي على أطرافه، وشبح الموزة، وربطه إلى الخلف مع تثبيت طوبة وسط ظهره، وتعرّضه للفلقة، إضافة لاحتجازه في "المقبرة"؛ وهي زنزانة ضيّقة لا تتعدى حجم الفرشة، وذلك لمرّات عديدة طيلة 33 يوماً. كما أبلغه أنّه لا يعرف التهمة الموجهة إليه، فهو فقط يتعرّض للتعذيب والضرب دون تحقيق، وكشف عن أجزاءٍ من جسده كانت عليها علامات التعذيب.
كان ردّ القاضي على كلّ ذلك، وباستهتار تام: "15 يوماً آخر حتى تعرف لماذا أنت هنا"، في إشارة إلى قرار تمديد اعتقاله. تقول أسماء هريش التي استمعت لشهادة شقيقها خلال الجلسة: "كان أحمد منهكاً، كان يبكي، لم يكن أحمد الذي نعرفه". وتؤكد أن شقيقها تعرّض لتعذيب مضاعف في جولات التحقيق اللاحقة على مدار 90 يوماً بقي خلالها بالعزل، وذلك انتقاماً منه بعد إدلاء تلك الشهادة أمام القاضي. بعد ذلك، لم يعد أحمد يروي للقضاة ما يتعرّض له، "أنا متت لأني حكيت".
محاولة اغتيال معنويّة
استغلت الأجهزة الأمنية انشغال الرأي العام بإضراب نقابة المحامين في حزيران/ يونيو من هذا العام، لممارسة تجاوزات عدّة بحق المعتقلين السياسيين، بدءاً بتعذيبهم واحتجازهم بظروف قاسية، مروراً بنقلهم المتكرّر إلى المحاكم دون إبلاغ محاميهم والسماح له بحضور جلسات المحكمة، وصولاً لتمديدهم بحجة استكمال التحقيق لفترات زمنية طويلة وصلت إلى 45 يوماً.
اقرؤوا المزيد: قمعُ حراك المحامين بـ "المُبادرة" لا بالهراوة
إذن، لم تكن "تصنيع المتفجرات" التهمة التي يُحقق فيها مع معتقلي المنجرة، رغم أنها التهمة التي وُجِّهَت لهم أمام النيابة، بل تهم أخرى تتعلق بنشاطهم السياسيّ وانتمائهم الحزبي، وسنوات اعتقالهم في سجون الاحتلال والتهم التي وجهها إليهم، إضافةً إلى التحقيق معهم حول معتقلين آخرين في سجون الاحتلال، أحدهم أسير محكوم بالسجن المؤبد.
إلا أن التحقيق أخذ منحى خطيراً عند محاولة إجبار هريش والمُعتقلَين قسّام وجهاد على الاعتراف بتهمة "التخابر مع الاحتلال". تؤكد أسماء هريش أنَّ شقيقها أبلغ النيابة أنه يتعرض لتعذيب لإجباره الاعتراف بتهمة التخابر، إلا أن النيابة رفضت توثيق شهادته، بحجة أنها "مش منيحة بحقه تنحط بملف التحقيق". ويعتبر توجيه هذه التهمة للمعتقلين ودفعهم للاعتراف بها محاولةً للاغتيال المعنويّ لشخوصهم أمام عائلاتهم وفي مجتمعهم.
الزميلة أسماء هريش تتحدّث عن تعذيب شديد يتعرّض له شقيقها أحمد هريش، المعتقل منذ أيام لدى الأجهزة الأمنية، ونقل مؤخرًا إلى أريحا، على خلفية "انفجار" منجرة بيتونيا. pic.twitter.com/dquhCGCYQw
— mujahed moflh | مجاهد بني مفلح (@mujahedmoflh) June 13, 2022
لماذا التضامن ضعيف؟
بعد أكثر من مئة يوم، وافقت المحكمة في 25 تشرين الأول/ أكتوبر على طلب إخلاء سبيل المعتقل المحامي أحمد الخصيب، بعد تراجع في وضعه الصحي إثر إضرابه عن الطعام، وأُفرج عنه فعلياً في اليوم ذاته، فيما تبلّغت عائلات المعتقلين الآخرين بشكل غير رسمي أن إخلاء سبيل أبنائهم سيكون تباعاً. وهو ما يطرح السؤال مجدداً حول حقيقة قضية "منجرة بيتونيا"؛ سؤالٌ لا يجاب عليه بمعزل عن سياق الأحداث المتسارعة التي يشهدها الشارع الفلسطيني في الشهور الماضية.
تأتي قضية المنجرة في سياق تصاعد الاعتقالات السياسية التي تشنها الأجهزة الأمنية، إذ وثقت مجموعة "محامون من أجل العدالة" منذ شهر حزيران وحتّى شهر تشرين الأول 259 حالة اعتقالٍ سياسي، وتوقعاتهم أنّ العدد فاق الـ 400، وذلك بسبب تكثيف الأجهزة الأمنية من التغطية على هذه الاعتقالات أمام المؤسسات الحقوقية والمحامين، من خلال التنقّل بالمعتقلين بين المدن أو بتمديد اعتقالهم على ذمة المحافظ.
اقرؤوا المزيد: على "ذمّة المحافظ".. اعتقالات الضفّة التعسفيّة
في ظل هذا الكم الكبير من الاعتقالات، برزت قضية المنجرة بشكل خاص، إذ استخدمتها السلطة كأداة ترهيبٍ وتخويف للناس، تستعرض من خلالها عضلاتها الأمنية والقمعيّة. وقد أدت الروايات التي اختلقتها السلطة حول المعتقلين إلى إضعاف التضامن معهم، واستفرادها بشخصيّات محسوبة على تيّارات معارضة كنوع من تصفية الحسابات.
هكذا، وعلى أكتاف هؤلاء المعتقلين -حرفيّاً-، تسعى السلطة إلى تغطية عجزها في ضبط وقمع حالة المقاومة المتصاعدة في الضفّة. فتستعمل قضية مثلَ المنجرة، وشباباً مثلَ هؤلاء، لإثبات أنّها لا تزال تؤدي دورها الوظيفي للاحتلال. تقول أسماء هريش: "أحمد والمعتقلين الآخرين حتى لو خرجوا من عند السلطة، سيتم اعتقالهم على الفور من الاحتلال".