27 يوليو 2023

هل انتهت "الديمقراطيّة الإسرائيليّة"؟

<strong>هل انتهت "الديمقراطيّة الإسرائيليّة"؟</strong>

مئات الطيارين الحربيين في جيش الاحتلال لن يمثلوا للخدمة العسكريّة الاحتياطية عند استدعائهم، يدعمهم ما يقارب ألف من القادة والضباط الكبار في سلاح الجوّ، و300 جندي من وحدة السايبر يعلنون أنّهم لن "يطوّروا قدرات تكنولوجية لصالح حكومة مجرمة"، إضرابات في المجمعات والشركات التجارية الكبيرة، ومظاهرات تتخللها حوادث دهس ومناوشات، وغير ذلك من الاحتجاجات على سنّ قانون "إلغاء ذريعة المعقولية" في الكنيست يوم الاثنين الماضي (24 تموز/يوليو 2023). ما الذي يحدث في دولة الاحتلال؟ 

للإجابة عن السؤال، تؤطر تقارير وتحليلات صحافيّة ما يحدث أنّه "نهاية للديمقراطية الإسرائيلية". تقول هذه الأطروحة إنّ معسكر اليمين بقيادة بنيامين نتنياهو، زعيم حزب الليكود، يقود في إطار خطّته المسماة "إصلاح القضاء" معركةً لتحويل "إسرائيل" إلى دولةٍ دكتاتورية، في حين يتظاهر المعسكر المناهض له دفاعاً عن الديمقراطية. إلّا أنّ هذا التحليل، الذي يستند في الغالب للترجمة عن الصحافة الإسرائيلية المحسوبة على المعسكر المناهض لنتنياهو، يُضيّع بُعداً جوهريّاً هامّاً، وهو أنّ المعركة الأساسيّة التي يخوضها معسكر نتنياهو هي معركة على سيطرة النُّخب. إنّها معركة على "من يحكم حقّاً؟"

جذور المعركة

تعود جذور هذه المعركة إلى العام 1977 عندما انتصر معسكر اليمين بقيادة مناحيم بيغن على ما يُعرف بـ"معسكر اليسار" الذي سيطر على الحكم لمدة 30 سنة أعقبت تأسيسه لدولة الاحتلال. ولم يكن هذا الفوز ليحدث لولا دعم التيّار الديني (من الشرقيّين المتديّنين بالتحديد) له، والذي اكتشف قوّته يومها، وكانت تلك نقطة تحول في دخوله وتأثيره في عالم السياسة. منذ ذلك الحين، ولمدة 45 عاماً، فازت الأحزاب المحسوبة على اليمين في معظم الجولات الانتخابيّة واستطاعت تشكيل معظم الحكومات الإسرائيليّة.

خلال تلك السنوات، استطاع اليمين تعزيز وتثبيت برامجه الاستيطانيّة والعدائيّة تجاه الفلسطينيين، وقتل ما سُمّي بعملية السلام، وأصبحت مفاهيمه فيما يخصّ الفلسطينيين هي السائدة على مستوى المجتمع والدولة. إلّا أنّ هناك أقطاباً في ذلك المُعسكر استشعرت دوماً أنّها تملك مقاليد الحُكم على مستوى الحكومة والوزراء والخطاب، إلّا أنّها لا تملك زمام الأمور فعلاً وبشكلٍ تام بسبب سيطرة النّخب المؤسِّسة على مقاليد الأمور. 

تدّعي هذه الأقطاب أنّ تلك النّخب التي تدين بالولاء لقيم المُعسكر المناهض لنتنياهو المؤسس للدولة تمنع سياسيي اليمين من تنفيذ أجندتهم على أرض الواقع. بكلماتٍ أخرى، يدّعي اليمين أنّه يفوز في الانتخابات بطريقة ديمقراطيّة ولكنّ خيار الشعب لا يُترجم على مستوى السياسات لأنّ هناك مجموعة من النخب التي تمنع ذلك بادعاء الحفاظ على القيم الدستوريّة للنظام. 

أين تتحصّن النخب؟ 

يمكن تقسيم النخب في دولة الاحتلال إلى خمسة تصنيفات: 

الأولى: نخبة سياسيّة مُنتخبة، الأقوى فيها هو رئيس الحكومة ثمّ رؤساء الأحزاب المشكّلة للائتلاف الحاكم، ثمّ رؤساء أحزاب المعارضة. تنقسم الساحة السياسيّة في "إسرائيل" إلى معسكرين أساسيين: الأوّل، معسكر نتنياهو. يعتمد هذا المُعسكر على التحالفات التي بناها نتنياهو مع تياري الصهيونيّة-الدينيّة والمتديّنين الحريديم واليهود الشرقيين، والتي بدورها ترى أن تحالفها معه قد رفع صوتها وجعلها تصل إلى أماكن اتخاذ القرار، مستغلين بُعد المعسكر الآخر عن الدّين، ومُستغلّين كذلك إحساسهم بالمظلوميّة تجاه فئة اليهود الغربيين (الأشكناز) العلمانيين من المعسكر الثاني - الذي تُشكّله أحزاب يمينيّة علمانية متحالفة مع اليسار الجديد والدولة العميقة. 

بالتّالي، فإنّ الشّرخ في الساحة الإسرائيلية غير مبني على الموقف من الفلسطينيين (كما سنوضح لاحقاً) أو على القضايا الاقتصاديّة أو على قضايا الديمقراطيّة. الشرخ هو على قضيّة الهوية والدين، ويتكثّف هذا الشّرخ بشكلٍ أساسي حول قضيّة قبول شخصيّة نتنياهو أو رفضه. فتبرز في معسكر نتنياهو قضيّة المظلوميّة على أساس التديّن أو العرق، ويبرز في المعسكر المقابل له القلق على نمط الحياة (لايف ستايل) العلمانيّ وسبل حمايته. 

الثانية: نخبة عسكريّة تلعب دوراً مركزيّاً في السياسة واتخاذ القرارات المصيريّة، وتنتمي للمعسكر المناهض لنتنياهو، بل إنّ قادتها يعتبرون مرشّحون طبيعيّون لقيادة ذلك المعسكر فور إنهائهم للخدمة.

الثالثة: نخبة اقتصاديّة، نشأت على أثر الانفتاح الاقتصادي في الثمانينات، ولها أثر كبير في السياسات الإسرائيليّة، خاصّة مع قدرتها على دعم السياسيين ماليّاً، وكذلك امتلاكها لوسائل الإعلام (غالبية وسائل الإعلام الإسرائيليّة خاصّة)، الّتي تُعتبر وسيلة مركزيّة للتحكّم بالسياسيين من خلال مقايضة التغطية الجيّدة لهم بتصويتهم على مصالح رؤوس الأموال. في السنوات الأخيرة، عُزّزت هذه النّخبة بتصاعد دور شركات الهايتك.

الرابعة: نخبة إعلاميّة، وهي تابعة لمصالح رجال الأعمال، وترى نفسها مدافعةً عمّا تعتبره القيم الأساسيّة للنظام (الصهيونية والعلمانية والليبرالية).

أما الخامسة، فهي النّخبة البيروقراطّية والقضائيّة، وتشمل موظّفي الوزارات المختلفة، وعلى رأسهم موظفو وزارة المالية المسؤولون عن إعداد الموازنة الحكوميّة السنويّة، وكذلك المستشارة القضائية والمستشارون القضائيّون للوزارات، وبالطبع قضاة المحكمة العليا. يرى هؤلاء أنفسهم حُماةً مباشرين للقيم الأساسية للدولة.

نتنياهو واقتحام النخب

شكّل صعود معسكر نتنياهو للحكم عام 2009 مفترق طرق أساسي في السعي لتغيير النخب. على مستوى الإعلام، أسّس اليمين مجموعة من الوسائل الإعلاميّة الخاصّة على رأسها صحيفة "يسرائيل هيوم" و"القناة 14"، لتُشكّل بديلاً عن وسائل الإعلام الخاصّة المهيمنة والمناهضة له، والتي نجح بإدخال بعض العناصر المقرّبة له إليها أيضاً. إلّا أنّ محاولة تغيير النخبة الإعلامية لم تُكلّل بالنجاح بعد (2 من 3 ملفات الفساد التي يحاكم حولها نتنياهو متعلقة بشبهة تسهيل مصالح رجال أعمال يملكون وسائل إعلام لصالح التغطية الإيجابية)، ولا زالت المعركة فيها محتدمة، ومؤخراً قدّم وزير الإعلام الإسرائيلي مقترحاً لخصخصة القناة الرسميّة "كان" والمحسوبة على المعسكر المناهض لنتنياهو كذلك. 

ومن هذه المحاولات على مستوى الجيش نجِد أنّ تيّار الصهيونيّة الدينيّة، وهو أحد أقطاب معسكر اليمين، دفع أبناءه للتجنّد والترقّي في صفوف جيش الاحتلال، إذ تشير إحدى الإحصائيات إلى صعود نسبة خريجي دورة ضباط المشاة المنتسبين إلى هذا التيّار من 2.5% عام 1990 إلى 37.6% عام 2020. مع العلم أنّ هذه التغييرات لم تُترجم بشكلٍ ملموس على قيادة الصّف الأوّل لجيش الاحتلال، وبالأخص في منصب رئيس أركانه الذي لم تشغله حتى الآن إلّا قيادات أشكنازيّة علمانيّة مقرّبة للمعسكر المناهض لنتنياهو.

وعلى المستوى الاقتصادي، تجري محاولة لتغيير قيادة نقابة العمال العامّة "الهستدروت" التي كانت تُعتبر المعقل التاريخيّ لليسار، وأصبحت مؤخراً أكثر قُرباً لمعسكر نتنياهو، ويُوجَّه لها انتقادات كبيرة في الإعلام على عدم مشاركتها في الاضرابات الأخيرة. 

أمّا بخصوص الاقتراحات لتغيير النخب البيروقراطيّة والقضائيّة، فقد بدأ الحديث بشكلٍ متواضعٍ حول دورها في إعاقة حكم نتنياهو، وعن أهميّة إحداث تغيير في صفوفها منذ بداية ولايته الطويلة مطلع العقد الماضي، وازدادت حدّة النقد تجاهها في السنوات الأخيرة تزامناً مع تقديم لوائح اتهام بالفساد ضدّ نتنياهو واتهامه لها وللصحافة بملاحقته. ومع موجة صعود اليمين الجديد في أماكن أخرى في العالم ازداد النقد أيضاً، إلّا أنّ العمل فعليّاً على "إصلاحها" وفق رؤية اليمين انطلق مؤخراً.

ما الذي استجدّ مؤخراً؟ 

أعطت نتائج الانتخابات الأخيرة (تشرين الثاني/نوفمبر 2022) دفعةً معنويّةً كبيرةً لمُعسكر نتنياهو إذ استطاع لأوّل مرّةٍ منذ سنوات، تشكيل ائتلافٍ يمينيّ متّفقٍ على جُملة كبيرة من القضايا، على رأسها التغييرات في مؤسسة القضاء والقضايا المتعلّقة بالدّين وغيرها.

في كانون الثاني/ يناير 2023، أعلن وزير القضاء الاسرائيلي ياريف ليفين عمّا أسماه "خطّة الإصلاح القضائيّ"، وهي مجموعة من اقتراحات القوانين، أبرزها: قانون يعطي الصلاحيّة المطلقة للحكومة لاختيار القضاة، وقانون يقلّص من صلاحيّة المحكمة العليا في إلغاء قوانين غير دستوريّة يسنّها البرلمان (الكنيست)، وآخر يُقلّص من صلاحيات المستشارين القضائيين للوزارات وغيرها. ويوم الاثنين الماضي (24 تموز)، استطاع الائتلاف سَن أوّل قانون لإلغاء "حجّة المعقوليّة"، وهو يسحب من المحكمة العليا صلاحية إلغاء قرارات الحكومة والوزارات إذا خرجت هذه القرارات عن حدود "المعقول".

أشعلت خطّة ليفين قواعد المعسكر المناهض لنتنياهو وتظاهر هذا المُعسكر معارضاً للخطة منذ بداية العام. وقد أظهرت الاحتجاجات القوّة الهائلة للنخب الإسرائيليّة في التأثير على مسار الحكومة، بالرغم من وجودها في المعارضة، واستنفارها الهائل للحفاظ على نفوذها وعلى قيمها التأسيسيّة.

ويمكن قراءة هذا الاستنفار من خلال عدة مظاهر: مئات الضباط الذين يعلنون عن توقفهم عن الخدمة في الاحتياط، شركات ضخمة تنضم للإضرابات، عدا عن مساهمتها الماديّة المباشرة في تمويل المظاهرات. كما برز تعامُل الشّرطة "المتفهّم" للمتظاهرين الذين أغلقت مظاهراتهم غير المرخصة أهم الشوارع في تل أبيب والقدس. كُل ذلك بدعم وتنسيق تام مع وسائل إعلام "المينستريم" الداعمة للمظاهرات، لدرجة أنّ المواد الدعائية عند الدخول لمواقعها الإلكترونية تحمل دعوةً مباشرةً للانضمام للمظاهرات.

عندما يتعلق الأمر بفلسطين، هل من فرق؟

لعلّ أفضل ما يؤكّد أنّ الصراع في "إسرائيل" ليس صراعاً على الديمقراطيّة بل على قيم النظام، هو الفرق بين نظرة كل من المعسكرين للفلسطينيين. في الحقيقة، لا فرق بين المعسكرين بالمعنى الحقيقيّ للكلمة في التعامل مع الفلسطينيين، إنما هي تنويعات واختلافات شكليّة حول وسائل وطرق القتل. 

لكي نفهم هذا الأمر، نحاوِل أوّلاً فهم مناطق التشابه بينهما من خلال مقارنة حكومات نتنياهو الأخيرة في العقد 2011-2021 وحكومة نفتالي بينت 2021-2022 المُركّبة من المعسكر المناهض لنتنياهو (أو المعسكر الليبرالي كما يُسمّي نفسه أحياناً) المناهض لنتنياهو.

أولاً، على مستوى توسيع المستوطنات القائمة، أقرّت حكومات نتنياهو بين سنوات 2011-2020، 1350 مناقصةً لشقّة استيطانية بالمعدّل بالسّنة (السنوات الأبرز كانت سنوات ترمب إذ أقرت فيها 3000 شقّة في السنة في كل من سنوات 2017 و2018). بينما أقرّت حكومة بينت "الليبرالية" 1550 مناقصة في السنة.

ثانياً، على مستوى التخطيط للبناء، خطّطت حكومات نتنياهو لـ5,292 شقّة في السّنة بالمعدل، في حين خططت حكومة بينيت لـ7,292 شقّة بالسّنة.

الأرقام الواردة أعلاه هي بالمعدل في العام الواحد خلال فترة ولاية كل حكومة من الحكومات.
الأرقام الواردة أعلاه هي بالمعدل في العام الواحد خلال فترة ولاية كل حكومة من الحكومات.

 

ثالثاً، وصل عدد المستوطنات غير القانونيّة إلى 130، وأضيفت 6 مستوطنات في عهد بينت. "بيّضت" حكومات نتنياهو 21 مستوطنة غير قانونية (بعضها أصبح مستوطنة مستقلة والغالبية أصبحت حارات في مستوطنات)، أي بمعدّل مستوطنتين كل عام، في حين بيّضت حكومة بينت 3 مستوطنات في عام واحد.  

رابعاً، على مستوى المواصلات بدأت حكومة نتنياهو بتطبيق خطّة "توخنيت أف لتحبورا" (خطة مواصلات عامة) التي تصل 13 مليار شيكل لبناء الشوارع الالتفافية الخاصّة بالمستوطنين، مثل شارع التفافي حوّارة وشارع التفافي العروب. تهدف هذه الشوارع إلى بناء منظومة شوارع سريعة تربط المستوطنات المنفردة بالمستوطنات الكبيرة وبقلب أراضي الـ1948، وبالتالي تشجيع الاستيطان فيها. في المقابل، صادقت حكومة بينت، بعد صعودها للحكم على الخطة المذكورة دون وضع أي تحفظ عليها.

خامساً، على مستوى هدم البيوت هدمت حكومة نتنياهو 474 بيتاً لفلسطينيين يسكنون في مناطق "ج" بالسّنة، في حين هدمت حكومة بينيت 641 بيتاً في سنة حكمها.1يمكن مراجعة موقع صحيفة هآرتس، المقال بعنوان: "من البناء وحتى الأموال الجديدة للمستوطنين: كيف مرّ العام الأول للحكومة شرقي الخط الأخضر"، نشر في 24 حزيران 2022.

تُشير هذه المعطيات إلى ذوبان الفوارق بين المُعسكرين فيما يتعلّق بالفلسطينيين بالضفّة الغربيّة، ويمكننا القول إنّ المعسكرين يتّفقان على الخطوط العريضة المتعلّقة بتعزيز الاستيطان وبربط مُدُنه لتكون جزءاً لا يتجزأ من دولة "إسرائيل" بل لتكون المستوطنات في "قلب إسرائيل".

اقرؤوا المزيد: "الضمّ الصامت: كل الطرق تؤدّي إلى تل أبيب". 

على الرغم من هذا الاتفاق الواسع بين المُعسكرين من المُهم أن نرى الفروقات بينهما فيما يتعلق بنا كفلسطينيين. يمكننا الحديث هنا عن فرقين أساسيين: 

أوّلاً: يعتبر معسكر نتنياهو، وبشكلٍ خاصٍّ تيّار الصهيونية-الدينية، أنّ الضّفّة الغربيّة أو كما يسمّيها "يهودا والسّامرة"، هي قلب أرض "إسرائيل" وأنّها لا تقِل أهميّة عن تل أبيب بل قد تزيد، وذلك لادعائهم بأنّ مملكتي اليهود اللتين كانتا في عصر ما يسمّونه بالهيكل الأوّل كانتا في الضّفة، فواحدة يهودا وعاصمتها القدس والثانية السامرة وعاصمتها في سبسطية. بالتالي فإنّ هذا المعسكر يعتبر الوجود في الضّفة جزءاً من عقيدته التي يستعد أن يبذل الغالي والنّفيس من أجلها. 

أمّا المعسكر المناهض لنتنياهو، فصحيح أنّ التيّار اليميني فيه يؤمن بالاستيطان وتعزيزه بالضفّة إلّا أنّ القضيّة عنده ليست عقائديّة، أمّا تيّار اليسار الجديد فالاستيطان ليس على أجندته في السنوات الأخيرة، لكن من المهم القول إنّ كلا التيّارين داخل هذا المعسكر يتعاملان مع الاستيطان باعتباره الجبهة الأماميّة للمشروع الصهيونيّ وأنّه يحقق أهدافاً أمنيّةً استراتيجيّة.

ثانياً: في حين يتوجّه معسكر نتنياهو –وبشكلٍ خاصٍّ تيّار الصهيونية الدينيّة والقوة اليهودية- إلى إطلاق يد العنف تجاه الفلسطينيين، يتّجه المعسكر المناهض له إلى العنف المحسوب والمصحوب بمغريات ماديّة للفلسطينيين، وذلك لما يرونه من مصلحة عليا لدولة الاحتلال في استخدام هذا الأسلوب. 

على سبيل المثال، قدّم حزب "القوة اليهودية" برئاسة بن غفير، اقتراح قانون يمنح جنود الاحتلال حصانة مُطلقة من المحاكمة الداخلية في حال اعتدوا أو أقدموا على قتل فلسطينيين. أثار اقتراح القانون حفيظة أقطاب في المعسكر المناهض لنتنياهو الذي يريد أن يحافظ على منظومة الرقابة الداخليّة لجيش الاحتلال لما في ذلك من تنجيع لعمله ولآليات القتل فيه. كما عبّر قادة في ذلك المعسكر عن خوفهم مما قد يتعرض له جنود الاحتلال من ملاحقة دولية، إذ تشكّل منظومة الرقابة الداخليّة لجيش الاحتلال حاجزاً أمام تعرّضهم للمحاكمة الدولية، حول ذلك نشرت المستشارة القانونية للحكومة اعتراضها على القانون مُعللّة ذلك بأن: "اقتراح القانون يُعرّض العاملين باسم الدولة لإمكانية أن تقدّم ضدهم لوائح اتهام جنائية ومدنيّة في محكمة الجنايات الدولية وفي دول أجنبيّة [..]".

في السياق ذاته نجِد أنّ المَحكمة العليا التي تدور حولها نقاشات المعركة الآنيّة بين المعسكرين مدعومة من المعسكر المناهض لنتنياهو لأنّها تعطي صبغةً ديمقراطيّة للدولة، وهي مناسبة لهذه المعادلة التي يقودها هذا المعسكر، فمن ناحية تُعطي الفلسطينيين الحق في الالتماس لها حتى تظهر "عدالتها"، ومن ناحية أخرى تُقِر كل آليات القمع الاسرائيليّة: فقد أقرّت الاستيطان ومصادرة الأراضي والجدار وهدم البيوت وسياسة الاغتيالات وغيرها إذا ما نُفّذت بحسب قواعد القانون والأنظمة الديمقراطيّة!

ماذا بعد؟

أججت المعركة الرّاهنة الشّرخ الهويّاتي داخل المجتمع الإسرائيلي. بيد أنّ هذه المعركة لم تنتهِ بعد، ومع أنّه من الصعب استشراف ما سيحصل في المستقبل، فإنّ السيناريو الأرجح، هو أن يتراجع أو أن يُجمّد نتنياهو قسماً كبيراً من تلك القوانين والتعديلات، وذلك على ضوء الضغط الهائل الذي يُمارس عليه من قبل النخبة العسكريّة والاقتصاديّة، وأيضاً على ضوء "العنف المجتمعيّ" الآخذ بالازدياد في الشارع بين المعسكرين. قد يعني هذا الخيار "تراجعاً غير مقبول" أمام النخب لبعض أقطاب معسكر اليمين، بالتالي قد يؤدّي إلى سقوط حكومته أو إلى استبدال أحد أحزاب اليمين في الائتلاف بأحد أحزاب المعارضة، مثل حزب بيني غانتس، أو حزب منصور عباس.

أمّا السيناريو الآخر، الذي تؤيدّه بعض الأطراف في الحكومة مثل وزير القضاء ووزير الأمن الداخليّ، وهو الاستمرار في الخطوات لتغيير النّخب، والدخول في معركة متواصلة تستمر عدة أشهر وسنوات، ربما حتى الانتخابات القادمة وبعدها. هذا السيناريو معناه أن تزداد حدّة التوتّر والفوضى، خاصّةً أنَّ المُعسكر المناهض لنتنياهو في أعلى درجات تنظيمه واستنفاره على مستوى الشارع وساحات التأثير المختلفة. ما يستبعد هذا السيناريو هو إدراك قيادة معسكر نتنياهو أنّ النظام في "إسرائيل" مُعتمد على النّخب بشكل لا يُمكن الانفكاك عنه، وأنّ الأفضل هو المهادنة معها ومحاولة إجراء تغييرات بطيئة من الداخل. 

في المحصلة، فإنّ دولة الاحتلال تعيش اليوم شرخاً عميقاً آخذ بالتوسّع. ويبدو أنّ حلّه عبر صندوق الاقتراع يزداد مع الوقت صعوبة. ما يهمنا كفلسطينيين ليس معرفة الفروق الدقيقة بين التيارات بغية معرفة الأقرب منها علينا، فجميع التيارات هي تنويعات هدفها واحد: زيادة فاعليّة مشروع الصهيونيّة، بل المهم في دراسة هذه الفروقات هو إدراك التناقضات ونقاط الضعف داخل هذه المنظومة بغية التصدّي لها.



29 مارس 2021
الإضراب العام وأولاده

شكّلت فكرةُ الإضراب العام قطعةً هامّةً في صورة النضال الفلسطينيّ عموماً، وفي تصوّر النضال داخل الأراضي المحتلّة عام 1948 على…