20 أغسطس 2025

لواء رفح: سِيرةُ الدمِ والنارِ على حدود غزّة

لواء رفح: سِيرةُ الدمِ والنارِ على حدود غزّة

لطالما كانت رفح في صلب العقل الأمنيّ الإسرائيلي، لا لأنها بوابة غزّة الوحيدة على العالَم فحسب، بل لأنها تمثِّل أيضاً حلم الفلسطينيين بالتحرّر من قبضة الاحتلال. فالحدود مع مصر، التي قد تبدو خطّاً جغرافيّاً بسيطاً، كانت في الواقع كابوساً يؤرِّق المخطِّطين في "تل أبيب"، لأنها قد تفتح للمقاومة شريان حياة، وتَكسر معادلةَ الحصار، وتَمنح القطاع المتمرد شكلاً من السيادة ولو كان هشًاً.

وحين وضع "أرئيل شارون" خطّة "الانفصال أحادي الجانب" عام 2004، كان "محور فيلادلفيا" -شريط الحدود بين غزّة ومصر- نقطة خلاف حساسة، إذ نصَّت الخطّة على الانسحاب من غزّة، مع الاحتفاظ بوجود عسكري في هذا المحور، إلا أن الجدل احتدم داخل الحكومة، خصوصاً داخل "الليكود"، إذ عارضه وزير المالية حينها بنيامين نتنياهو، ورفضه قادة الجيش، إذ حذَّر رئيس الأركان موشيه يعلون من أن الانسحاب الكامل سيترك فراغاً أمنيّاً ويحول المحور إلى بوابة تهريب للأسلحة والذخائر.

وفي كانون الأول/ديسمبر2004، فجَّر المقاومون نفقاً طوله 600 متر حُفر على مدى أربعة أشهر أسفل معبر رفح العسكري، وأعقب ذلك اشتباك مباشر شارك فيه الشهيد المؤيَّد بالله الأغا من صقور "فتح" ومقاوم من "القسام"، وكانت العملية –التي حملت اسم "براكين الغضب" وأعدّها الشهيدان رائد العطار ومحمد أبو شمالة– بمثابة إعلان رسمي لفشل مشروع السيطرة الإسرائيلية على الحدود، وقد وصفها شارون بـ"الضربة القاسية جداً". 

اقرؤوا المزيد: أبرز محطّات الانتفاضة الثانية.. خطّ زمني

هكذا ساهمت المقاومة في النقاش حول فكرة الانسحاب عبر عملياتها النوعية في سنوات الانتفاضة –من تفجير موقع محفوظة، إلى تحطيم أسطورة "الميركافا"– والتي دفعت الاحتلال إلى التفكير جديّاً في كلفة البقاء في القطاع، وفي الشريط الحدوديّ في رفح كذلك.

واليوم، بعد عقدين، تعود رفح إلى واجهة المخطَّط الإسرائيلي، لكن بصيغة أكثر فتكاً تهدف إلى تحويلها إلى "نموذج أوّلي" لأرض مطهَّرة من المقاومة، تصلح لأن تكُون نواة مشروع تهجير واسع. غير أن لواء رفح –الذي لم يهدأ منذ عام– ردَّ برسالة جديدة، عبر عمليات "أبواب الجحيم" التي اخترقت خطوط الاحتلال في شرقي المدينة، من مناطق المشروع إلى التنور، وفجَّرت بعبوات شديدة وأسلحة مضادة للدروع قوى الاحتلال المتحصنة، لتعيد التذكير بأن هذه المدينة لا تُروَّض بسهولة، ولا تُسلَّم للمخطَّطات.

مخاضُ التأسيسِ الصعب

لم تكن مهمة بناء التشكيلات المقاومة في قطاع غزّة يوماً سهلة، لكن رفح خاضت درباً أكثر وعورة من سواها. كانت المدينة، المحاذية للحدود والمحمَّلة بإرث الجغرافيا والسياسة، تئنّ تحت ضغطٍ مضاعَف، وقد وجدت فيها قوات الاحتلال وسلطة الحكم الذاتي الناشئة ساحةَ اختبارٍ قاسيةً لإرادة المقاومين.

بعد الضربات التي طالت البنية التنظيميّة الأولى لحركة "حماس"، خصوصاً في خلال سنوات التأسيس، كانت رفح واحدة من أكثر المناطق تضرراً، ومع خروج بعض الكوادر من السجون، بدأت محاولات حثيثة لإعادة ترتيب الفعل المقاوم. ومن قلب هذه المدينة، بدأ نجم شابين، عُرِفا لاحقاً باسم "توأم المقاومة"، يسطع بقوّة: رائد العطار ومحمد أبو شمالة. منذ عام 1993، ومع اشتداد المطاردة الإسرائيلية لهما، بدأ اسم رفح يُربَط بحضورٍ مقاوِمٍ يتعاظم.

اقرؤوا المزيد: حرب الفرقان.. الحرب المستمرة إلى اليوم

وما إن خرج محمد السنوار من السجن، حتى اتجه مباشرةً نحو الجنوب، حيث التقى برفيقيه، وبدأ الثلاثة مسِيرةَ إعادة إحياء العمل العسكريّ، وسط بيئة معقَّدة وواقع سياسيّ مُضطرب، إذ كانت "أوسلو" في بدايتها، ومعها جهاز أمنيّ يقف على الضفّة الأخرى من المشهد، يلاحق المقاومين ذاتهم الذين يقاتلون المحتل.

من محفوظة حتى انتفاضة الأقصى

في صيف 1994، جاء القرار من القائد العام محمد الضيف بالاستعداد لسلسلة عمليات نوعية. ولم يتردد الثلاثة، وجاءت البداية من عملية محفوظة، التي أعدَّ لها السنوار والعطار وأبو شمالة بأنفسهم، لدرجة أن الأخيرين تعلَّما قيادة السيارة على عجل لتنفيذها. ثم جاءت عملية خزاعة، وسلسلة هجمات على مستوطنة "موراج"، قبل أن تنتقل العمليات إلى المناطق الحدودية مع مصر، حيث نصبوا كميناً محكماً لجيب عسكري عبر خدعة بسيطة بسُلَّم، ليُقتَل ضابط إسرائيلي بـ28 طلقة في عملية جريئة.

لم تكن تلك الضربات تمر دون أثمان، فقد اشتدّت الملاحقة من أجهزة السلطة، وأُلقي القبض على القادة مراراً، لكنهم لم يتوقفوا، فكلما خرجوا من السجن، عادوا سريعاً إلى الميدان. وبحلول العام 1996، عقب اغتيال المهندس يحيى عياش، تصاعدت الحملة الأمنيّة ضدّ "حماس"، لتبلغ ذروتها مع عمليات "المعالجة"، إذ حاولت السلطة استيعاب بعض المقاومين عبر دمجهم أمنيّاً ضمن قوامها الوظيفي، لكن المسار لم يصمد طويلاً أمام زخم العمل الميداني.

في تشرين الأول/أكتوبر 1998، كانت عملية "غوش قطيف" التي شكَّلت نقطة تحوُّل، فقد بدأت الرؤية تتبلور نحو عمل منظَّم أكثر تطوراً، وشارك فيها كبار قادة الصف الأول في "حماس"، بمن فيهم الضيف، والعرابيد، والجعبري، لتنفيذ واحدة من أُولى العمليات الاستشهادية الكبرى جنوبي القطاع.

اقرؤوا المزيد: "مقذوفات النّار والبارود.. في معنى "لنهدينهم سُبلنا"

لكن المواجهة مع السلطة بلغت ذروتها في العام التالي، حين اتُّهم العطار وأبو شمالة بقتل ضابط في الأمن الوقائي، وصدر حكم بإعدام العطار، والمؤبَّد لأبو شمالة، وردّاً على الأحكام انفجرت رفح غضباً، وخرجت مظاهرات حاشدة أجبرت ياسر عرفات على إصدار عفو خاص، وقد شكَّل هذا الحدث لحظةً مفصليةً في تثبيت الحضور المقاوم في المدينة.

ثم جاءت "انتفاضة الأقصى"، ففتحت بوابة جديدة للعمل المقاوم، وخرج معظم المعتقلين من سجون الأجهزة الأمنية، ليعود الثلاثي التاريخي ويلتحم من جديد. بين العامَين 2000 و2002، بدأت نواة البنية العسكرية الحديثة تتشكل، وصولاً إلى تأسيس المجلس العسكريّ الأول في "كتائب القسام"، ليقود المنطقة الجنوبية محمد أبو شمالة، وبعضوية العطار والسنوار، وتوسعت الضربات، وتراكمت الخبرات، وبدأت رفح تتحول إلى معمل تجريب لأدوات المقاومة، من قذائف "الهاون" إلى قاذفي "البتار" و"الياسين" والعبوات الناسفة.

ولمَّا تضخمت المهمات، جاء قرار تقسيم الجنوب إلى لواءين: أحدهما بقيادة العطار في رفح، والثاني بقيادة السنوار في خان يونس، فيما تفرَّغ أبو شمالة لإدارة الإمداد وخطوط التسليح.

اقرؤوا المزيد: "أنفاق رفح التجارية.. الحفر من أجل البقاء" 

في يونيو/حزيران 2006، كان قطاع غزة على موعد مع حدث من الأحداث الأكثر محورية في تاريخ القطاع والعمل المقاوم، إذ حلت عملية "الوهم المتبدد" تتويجًا لمسار، حين خطف المقاومون الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط، بمشاركة "جيش الإسلام" و"ألوية الناصر صلاح الدين"، وكان قد اضطلع في تخطيطها الشهيد جمال أبو سمهدانة –اغتيل قبل التنفيذ بأيام-، وبرز اسم رفح بوصفها مركز قيادة وتنفيذ للعملية، كما كانت نموذجاً مركزيّاً في العمل المقاوم المشترك والتكاملي.

لاحقًا، تطورت وبجهود مركزيّة من قيادة رفح تقنيات الأنفاق من ممرات للتهريب أو هجمات محدَّدة، إلى سلاح استراتيجي للمناورة والتذخير والدعم الناري، وتحوَّلت رفح إلى مختبر حيٍّ لهذا التحول.

ثم جاءت لحظة أخرى من ذروات الفعل المقاوم في رفح، في خلال عدوان 2014، بعملية أسر الضابط الإسرائيلي هدار غولدن، التي حيَّرت جيش الاحتلال، والتي وُصفت لاحقاً بـ"الصندوق الأسود لرفح". لكن هذه المواجهة حملت معها أيضاً أثماناً كانت باهظة؛ إذ استُشهد القائدان العطار وأبو شمالة في غارة واحدة، بعد حياة حَفرت اسمَ رفح في ذاكرة الصراع.

ومع استشهادهما، انتقلت القيادة إلى محمد شبانة (أبو أنس)، أحد أبرز مقاوِمي رفح والذي عمل نائباً للعطار في قيادة اللواء، والذي يُنسب إليه تطوير قدرات الرصد والتصوير الاستخباراتي في الكتائب، وتولى قيادة اللواء في مرحلة استثنائية من المواجهة.

وتنقسم كتائب لواء رفح إلى أربع: الشرقية، ويبنا، والشابورة، والغربية، تعمل بتوزيع جغرافي محكم، من الحدود إلى الساحل. وعلى الرغم من اغتيال القادة المؤسِّسين، بقي اللواء متماسكاً، حيّاً، وقادراً على الابتكار، ما جعله دائماً من المعادلات الأصعب في كل مواجهة عسكرية تشهدها غزة.

اجتياح رفح ومعادلات المواجهة

حينما أشار المتحدث باسم جيش الاحتلال إلى رفح بوصفها "المنطقة الآمنة" لتوجيه النازحين إليها في خضم حرب الإبادة، كانت المدينة الجنوبية على موعد مع فصل جديد من الألم والمقاومة. تحوَّلت في خلال أشهر إلى خيمة عملاقة، يكتظ بها أكثر من مليون ونصف المليون نازح، جاؤوا من كل بقعة مدمّرة في قطاع غزة، لينزلوا بثقلهم فوق مدينة لا تتجاوز مساحتها 63 كيلومتراً مربعاً. ارتفعت الكثافة السكانية إلى 27 ألف نسمة في الكيلومتر الواحد، واختنقت كل شوارعها وأحيائها وأزقتها بالمخيمات.

لكن تحت هذا الركام البشري، كان لواء رفح يحاول أن يعيد ترتيب سلاحه، ويبحث في زوايا مكتظة عن شقٍّ لممر أو نقطة كمين، وهو هامش لم يكن متاحاً. فكل مساحة أُعدَّت لتكون مسرح مواجهة، باتت مخيماً للنازحين، والشارع الذي وُضِعت له خطة دفاعية قبل الحرب، صار مزدحماً بالأطفال.

اقرؤوا المزيد: السرّ الكامن في زقاق جباليا: حوار مع سعيد زياد

لم تكن هذه مأساة إنسانية فحسب، بل كانت أيضاً معضلة أمنيّة. فالتداخل السكاني الكثيف، وتدفق الصحفيين والوفود الدولية، جعل من رفح أرضاً مفتوحة أمام الاختراق، وساعد جيش الاحتلال في شباط/فبراير 2024 على تنفيذ عملية خاطفة لتحرير أسيرَين في حي السلام. وقد كان درساً مريراً، ومؤشراً على صعوبة الإمساك بالأرض وسط هذه الفوضى المُبرمجة.

إلى جانب ذلك، حمل النازحون معهم مآسيهم، وأثقلوا الذاكرة الجماعية لأهالي رفح، حتى بات الصمود النفسي ذاته على المحك. ومن يعيش في خيمة لا يملك ما يخسره. لذلك، حين قرر الاحتلال اجتياح المدينة في مايو/أيار 2024، كانت الأحياء تُفرَّغ من سكانها بسرعة، تحت وطأة الخوف المشبع بالتجربة، ما أسهم في أكبر موجة نزوح جماعي عن رفح في فترة قياسية.

وعلى الرغم من هذه الظروف، لم يكن لواء رفح بلا فعالية سريعة. فمع الانضباط المؤقت الذي أبداه الاحتلال في الأيام الأولى من الاجتياح، تمكنت الكتيبة الشرقية من ترتيب دفاعاتها، ونصبت كمائن مؤثِّرة أوقعت خسائر مباشرة في صفوف القوات المتقدمة.

لكن كانت ثمة خسائر أيضاً. فاندفاعة الاحتلال نحو محور صلاح الدين "فيلادلفيا" حَيَّدت بسرعة كتيبةَ يبنا، إحدى أقدم وأقوى وحدات اللواء، كون مجالها الحيوي يلاصق ذلك المحور الحدودي، وقد سقطت معظم عقدها القتالية، وخرجت من الميدان، تاركةً فراغاً ثقيلاً لا يُسدُّ بسهولة، وعلى الرغم من محاولات المشاغَلة ما أمكن، فإنّ حمماً من القصف قضت على ما تبقَّى من بنيتها فوق الأرض وتحتها.

في المقابل، أظهرت الكتيبة الغربية، خاصةً في أحياء تل السلطان والسعودي ومخيم كندا، روحاً خارقة في الثبات والمشاغَلة، وتحوَّلت الأزقة الضيقة إلى ساحات استنزاف مستمر، أحرجت الاحتلال مراراً، وأوقعت فيه الخسائر على الرغم من مزاعمه المتكررة بشأن تفكيك اللواء.

وأما الحدث الذي هزّ "إسرائيل" والرأي العام العالمي، فكان ظهور يحيى السنوار، القائد العام لـ"طوفان الأقصى" ورئيس المكتب السياسي لحركة "حماس"، في قلب المعركة، يقاتِل في الميدان جنباً إلى جنب مع قائد كتيبة تل السلطان الشهيد يوسف حمدان. في حضور لم يكن رمزيّاً، بل مشاركة قتاليّة فعليّة انتهت باستشهاد السنوار في اشتباك مباشر، في صدمة حقيقية للاحتلال، وهزّة للسردية التي حاول أن يصنعها حول ادعاءات هروبه واختبائه.

اقرؤوا المزيد: "يحيا السنوار: عن وقوف الألف في وجه الموت".

وقد سبق هذا الحدثَ فعلٌ صارخٌ آخَر، ففي أيلول/سبتمبر 2024، عُثِر على جثث 6 أسرى إسرائيليين، فقدوا حياتهم بسبب اقتراب جيش الاحتلال والعمليات العسكرية من مكان احتجازهم، بعدما التزم الآسرون بتعليمات مشدَّدة من قيادة "القسام" بخصوص قواعد الاشتباك، عقب محاولة التحرير الفاشلة في النصيرات. وقد فتح هذا الحدثُ فجوة عميقة في ثقة الجمهور الإسرائيليّ بجيشه، وعقَّد قرارات التوسُّع العسكري.

هكذا، بقيت رفح، حتى في لحظات النزف، صندوقاً أسود للمفاجآت. لا تتوقف عن إرباك الحسابات، ولا تكفُّ عن إنتاج ما يَكسِر المألوف.

معادلات الاستنزاف والمواجهة الاستراتيجية

لأكثر من عام، كانت رفح تُقاتِل بلا توقف، ولم تُمنَح هذه المدينة الجنوبية فرصةً لالتقاط الأنفاس، لا هدنة مؤقَّتة، ولا انسحاباً تكتيكيّاً، فقط قتال مستمر، واستنزاف هو الأكبر بين ألوية المقاومة في غزة. لكن الأشدّ وقعاً لم يكن في كثافة النيران فحسب، بل فيما حمله المشروع الإسرائيلي للمدينة، وذلك عبر خطط تحويلها إلى النموذج الأول "للأرض المُطهَّرة" من المقاومة، وأن تُرسَم فوق أنقاضها ملامح ما بعد غزة.

ومع أُولى جرافات الاحتلال التي دخلت المدينة، كانت الرؤية واضحةً بتدمير شامل لا يكتفي بالقصف والنسف، بل يشمل التجريف المُمنهَج، واستدعاء شركات مقاولات خاصة لإزالة كل أثر للحياة، ضمن مخطَّط يهدف لشطب رفح من جغرافيا قطاع غزة.

في وجه هذا الواقع المرعب، كان على قيادة المقاومة في رفح أن تبتكر من جديد، لا في أسلوب القتال فحسب، بل في فلسفة إدارة الموارد نفسها، إذ لم يعد الأمر معركة لصد التوغلات أو نصب كمائن تقليدية، بل معركة "إدارة الذخيرة والمقدرات"، حيث كل رصاصة لا بد من أن تُصيب، وكل عبوة تُفجَّر بعد تدقيق، فليس ثمة مخزون يُعوَّض، ولا مساحات لإعادة الانتشار.

هكذا وُلدت المعادلة الرفحية المشتقة من الاستراتيجية الدفاعية للمقاومة في قطاع غزة، إذ ركّز لواء رفح على الاستنزاف الذكي طويل الأمد، القائم على الدفاع المرن، والعمل خلف خطوط تقدم العدو، ومراكمة الكلفة الميدانية على الجنود المتحصنين في قلب الركام.

اقرؤوا المزيد: نُصرت بالرعب: كيف أدارت المقاومة الحرب النفسيّة؟

وفي أيار/مايو 2025، ومع انقلاب نتنياهو على اتفاق التهدئة، والتنصل من بند الانسحاب من محور فيلادلفيا، أطلقت "كتائب القسام" سلسلة عمليات مباغتة من شرقي المدينة إلى غربيها. لاحقاً أعلن الاحتلال عن البدء بفصل رفح عن غزّة من خلال "محور موراج"، وذلك يعني تحويل رفح إلى المختبر النهائي لتصفية القضية الفلسطينية في القطاع. لكنَّ المقاومة ردَّت بسلسلة عمليات "أبواب الجحيم"، التي واصلت ضرباتِها الاستنزافيةَ ضد تمركزات الجيش، خصوصاً شرقي رفح.

أن تقاتِل تحت هذا الضغط النفسي والميداني، وأن تُطيل أمد المواجهة، وأن تُحافظ على جذوة النار مشتعلة، فهذا ليس تكتيكاً، بل استراتيجية وجود. وقد أتقنها لواء رفح. وبمرور عام على الاجتياح، لم يستطع الاحتلال فكَّ شيفرة المواجهة، إذ يقاتل أشباح يتقنون التخفي والضرب والانسحاب، وكلما طال زمن التمركز، تحوَّل جنوده وتحصيناته إلى أهداف أسهل، تنتظر لحظة الرصد الأدق، والضربة الأنجع.

وليس استمرار الاشتباك في رفح معركة دفاع فحسب، بل إنه الضمانة الوحيدة لمنع تحقُّق المشروع الإسرائيلي بتحويل المدينة إلى "سجن مرحلي" أو "معبر عبور" لتهجير سكان القطاع. وما دام في رفح قتال، فإن كل الخطط الإسرائيلية تبقَى في مهب الريح وحبيسة عقول واضعِيها، فلن تُقطَع رفح عن غزة، ولن تكون محطةَ تهجير، بل ستبقَى في قلب معادَلة الصراع.