21 مارس 2021

لماذا فلسطين؟

لماذا فلسطين؟

أستحي أن أطرح السؤالَ عارياً هكذا، لأنّ جواب السؤال يفترض أن يكون بدهياً على المستويات جميعها (أخلاقاً، وديناً، وسياسة). صحيحٌ أنّ زماننا قلب دال "البداهة" لاماً، وأنّ أجيالاً رماديّة تدخل الآن غرف المراهقة دون أن تقرأ في مناهجها الدراسية "فلسطين المحتلة"، ودون أن تسكن آذانها ثمّ قلوبها أناشيدُ الانتفاضة وقيمُ الواجب والاستشهاد في سبيله. وصحيحٌ أنّ هذه المساحات الرماديّة بحاجة إلى من يعيد لـ"القضية" أناقتها، وينشل حقيقتها من تحت ركام الشعارات، ويعيد للصراع مع "إسرائيل" أهميّته الاستراتيجية وسط جروحٍ عربيّة مفتوحة، وفي عصرِ سلطويات كادت لفرط بطشها على الأجساد والأرواح أن تجعل "الاستعمار" مجرّد ديكور بلاغي في حفلة الخطابات، رغم أنّ هذا الأخير (أعني الاستعمار، والكيان الصهيوني بالأخص) شرطٌ عميق من شروط الخراب العربي، وشريك أساسيّ في صنعه وإدامته.

صحيحٌ كلّ ذلك، ولكنّني هنا والآن لا أخاطب الرماديّ لإقناعه، فلهذا الخطاب مقام آخر تحمله "الميديا" و"الصورة" باقتدارٍ أكبر من اقتدار الكتابة. إنّني أخاطب أصدقائي من أبناء الخراب أردنيين كانوا أم سوريين أم مصريين، ومن في شرقهم وغربهم وجنوبهم، ومن يطلّ من أيّ حدب أو صوب على هذه النقطة العمياء في نقاشنا السياسي، الفاتكة في واقعنا السياسي بكلّ أشكال الفتك. فكأن سؤالي في حقيقته هو: لماذا فلسطين في الذكرى العاشرة للثورات العربية؟ وبأي معنى؟

أربعة أبواب للبيت الذي ننشده

بدا بأنّ الثورات العربيّة في طلعتها الأولى كانت معركةً مع الاستبداد، فهذا الاستبداد كما ترسّخ في قناعاتنا السياسية هو المُعيق الأوّل أمام كلّ ما نصبو إليه شعوباً وأفراداً وأمةً. وما نصبو إليه كثير ومتنوع: فنحن نطلبُ الكرامة الإنسانية، وأن يحكم الناسُ برضاهم، ونطلب وقفَ الفساد والهدر، ونطلب تنميةَ الاقتصاد وتحسينَ أوضاع الفقراء، ونريدُ تحريرَ بلادنا من الاستعمار الداخليّ والخارجيّ، وامتلاك إرادة سياسيّة تمثّل نوعاً من الـ "نحن" الأصيل، ونتطلّع إلى نوعٍ من الوحدة بين شعوب منطقة تتشارك ذات التاريخ، وذات المأزق، وذات الثورات، ويجب أن تتشارك ذات الأمل و تتساند في ذات العمل.

يُمكن القول بأنّ التيارات الإيديولوجية في النصف الثاني من القرن العشرين قد عبّرت عن ثلاثة مطالب: "النهضة" و"الاستقلال" و"الوحدة" (وهذا يصدق على التيارات الإسلاميّة والقوميّة واليساريّة، وإن اختلفت كلّ واحدة في ترتيب أولويّة هذه المطالب، وفي طرق تحقيقها وصيغته). ويمكن القول بأنّ الإضافة التي أتت بها الثوراتُ العربيّة هي المطالبة بـ"التخلص من الاستبداد الداخليّ"، وجعله الخطوة الأولى في أيّ مسار نحو التغيير. 

كانت الفرضية الحاكمة لمزاج الثوار هي: إن تمكنّا من "إسقاط النظام" وحَكَم الناسَ من يُمثّلهم ويحفظُ لهم حقوقَهم، فإنّه يجب أن يحمل تطلّعاتِهم ويعمل على تحقيقها، ولو بالتدريج. ولو تباطئ ذلك، فإننا على الأقل سنكون في واقعٍ حرّ يُمكن فيه تحويلُ الأفكار إلى برامج سياسيّة والدفع بها، وخلق إجماع حولها. صحيح أنّ تطلّعات هذا الجسم الغامض الذي نسمّيه "الشعب" ليست واحدة ومنسجمة على مستوى التفاصيل، ولكنّ ما لا ينبغي أن يختفي في نقاشنا هو أنّ مجاميع البشر التي ثارت كانت تحمل تطلّعاتٍ أبعد من "التدوال السلمي للسلطة". وإذا كانت الإيديولوجيات القديمة قد أخطأت بتجاهل مشكل "الإصلاح السياسي"، فإنّ البرامج السياسيّة والفكريّة "الديمقراطية" قد تخطئ إن حصرت المشكل في "الاستبداد"، وتجاهلت كلّ ما سواه.

على المستوى العملي، يبدو أنّ حصر المشكل العربيّ بالحاجة إلى "الديمقراطية"، يعود على مشروع التخلّص من الاستبداد بالنقض، فقد كشفت مراحل ما بعد الثورة أنّ التدخّل الدوليّ والإقليميّ يُمكن أن يحوّل "الديمقراطيات" الوليدة إلى ساحة صراع داخليّ، فتصبح الديمقراطية أداةً لفرض الهيمنة بدلاً من أن تكون أداةً لتحرير الإرادة السياسيّة (وهذا يعيد طرح سؤال الاستقلال). 

كما أنّ الدول العربيّة منفردةً كانت أضعف من امتلاك ناصية قرارها الوطنيّ للبدء ببرامج إصلاح اقتصاديّ واجتماعيّ شاملة تخدم مجتمعاتها، بدلاً من الرضوخ لإملاءات صندوق النقد الدولي وفتح أسواقها دون مقاومة أمام الخصخصة وفائض السلع الرخيصة؛ وكانت كلّ دولة منفردة أضعف من مقاومة مغريات مشروع "التطبيع" أو مواجهة مغارمِه، فكلّ دولة تفكّر في مصلحتها "الوطنية" الضيقة والعاجلة ترى بأنّ صفقة تتضمّن تبادل السفراء مع "إسرائيل" في مقابل ضمان "وحدة ترابها" أو "رفعها من قائمة العقوبات" هي صفقة معقولة ومبرّرة (وهذا يعيد طرح سؤال الوحدة). 

وبعد عشر سنوات من الثورة التي لم تُجْهَض (أعني تونس)، لا يبدو أنّ مشروعَ النهوض اقتصاديّاً أو اجتماعيّاً كان جزءاً من برامج التحوّل السياسي، الذي –إن نجح- نجح في الحفاظ على تداول شكليّ للسلطة وخفّف مقدار القمع (وهذا، وإن كان مكسباً جيّداً، فإنّه ما يزال هشّاً، ولا ينخرط في مسارٍ تغييري شامل)، (وهذا يعيد طرح سؤال النهضة الشاملة).

 الأعداء في سلّة واحدة

في قلب هذه الإخفاقات تكْمُنُ "إسرائيل" كعدوةٍ شرسةٍ أمام أيّ تغيير يسعى إلى "إسقاط" النظم الفاسدة، وتمثيل الناس، فهذه الدولة الهشّة جيوسياسياً كانت منذ تأسيسها جبهةً متقدّمةً للاستعمار الغربي وأداة يقترن وجودها بـ 1) خلق نخب حكم فاسدة لا تستمدّ مشروعيّتها من شعوبها، وإنما من ولائها الخارجي (مشكل الاستبداد والاستقلال) 2) تفتيت المنطقة العربيّة على نحوٍ يمنع إقامة أيّ تعاون اقتصاديّ أو اتصال جغرافيّ بين المشرق والمغرب (وهذا فجّ الوضوح في موقعها الخنجري)، بل إنّ مشروع التفتيت هذا لم ينتهِ بعد، ويريد أن يستمرّ بتفتيت المُفَتت معتمداً على تعزيز الحساسيات الطائفيّة والمناطقيّة والفصائليّة داخل الدول القُطريّة (السودان، العراق، اليمن، ليبيا، ...) (مشكل الوحدة) 3) إبقاء الدول العربيّة في حالة من الضعف الاقتصاديّ والعسكريّ لضمان التفوق النوعيّ العسكريّ لـ"إسرائيل" (حتى على الدول الحليفة والموالية لها)، ولضمان بقاء الشعوب مشغولة بعوزها واحتياجاتها الاقتصادية، فكأنّها دوماً في غرفة إنعاش، لا هي تصل إلى حدّ الموت فتثور غاضبة، ولا هي تغادر الغرفة (في قاع هرم ماسلو) فتتفرغ للتفكّر في مطالبها السياسيّة.1كان ألكسيس دي توكفيل قد أشار إلى ظاهرة لافتة، عُرفت لاحقاً باسم "ثورة ارتفاع التوقعات" ومفادها أنّ الثورات غالباً ما تندلع بين الشرائح التي بدأت تشهد لتوها نوعاً من التحسن الاقتصادي (على خلاف التوقع السائد بأنّ المشاعر الثوريّة تكون أقوى بين المحرومين والفقراء. وقد تمّ تعليل ذلك بالقول إنّ المراحل الأولى من النمو الاقتصادي، وما يصاحبها من تحسن ظروف العيش، تدفع البشر إلى إدراك حاجاتهم غير المُلبّاة،  وترفع سقف توقّعاتهم وقدرتهم على تخيّل واقع أفضل، الأمر الذي يجعلهم شراسة في السعي إلى التخلّص من المظالم الواقعة عليهم. لاحقاً، تمّ تطوير هذا النموذج لتفسير الثورات الأمريكية والإنجليزية والروسية، وثورات الجنوب عقب الحرب العالمية الثانية. وقد عملت "إسرائيل" وما زالت تعمل بشعارات مختلفة على إضعاف دول الطوق وإفقار الدول العازلة بجوارها، وبناء تحالفات أمنيّة واستراتيجية مع طوق أوسع يحيط بالمنطقة العربيّة (تحالفات نشهدها مع الهند وجنوب السودان وإثيوبيا وعدة بؤر في وسط إفريقيا، والروس وأربيل وغيرهم) (مشكل النهضة).

اليوم، يبدو المشروع الصهيونيّ في أوج لحظات ظفره وانتصاره، مهيمناً على المنطقة الخراب، في لحظة من "سكرة" القوّة التي تعمى عن التداعيات البعيدة لما خلقته سياساته وسياسات حلفائه من انعدام في الاستقرار ومن رسوخ لمنطق التوحّش والعسكرة، ومن مزاج راديكالي يئس من كذبة إمكانية إصلاح الأنظمة العربيّة. في قلب هذا الانتصار الكبير، أصبحت وجوهُ الأعداء متداخلةً في وجهٍ واحد، فاليوم لم تَعُد "إسرائيل" مجرّد بوابة للرضا الأميركي، بل باتت حليفاً موضوعيّاً للأنظمة السلطويّة العربيّة، تمدّها بالتقنيات العسكريّة وبأدوات التجسس على شعوبها، وتنقل لها خبرتها في السياسة الحيويّة والسيطرة على التجمعات البشريّة وإدارة الديموغرافيا وغير ذلك.

هذه الوضعيّة من اتحاد الأعداء في صفّ واحد، تجبرنا على التفكير في ضرورة المقاومة على جبهات مطالبنا الأربع سويةً وفي وقت واحد. يراهن كاتب هذا المقال على أنّ مثل هذه المقاومة المتعددة الجبهات لن تؤدي إلى تشتيت الجهد وصرف العمل عن أولى الأوليّات، بل إنّ من شأنها أن تضبط بوصلة المقاومة والعمل التغييري وأهدافهما البعيدة، وأن تبعث في الناس طاقة من الأمل والحلم الذي يمكن أن يولّد نوعاً أكثر مثابرة وشراسة من الفعل السياسيّ، وأكثر كفاءة وعقلانية أيضاً. 

وحتى من دون هذه المراهنة، لا يبدو أنّ الأمر خيار، بقدر ما هو ضرورة واقعيّة، فمن غير الواقعيّ أن تحارب خصماً مباشراً، وتؤجّل مواجهة القوى والشروط التي لن تكفّ عن إنتاجه، وعن تبديد نتائج مقاومتك له، تلك القوى والشروط التي أثبتت أنّها قادرة على توليد عدد لا يحصى من الطغاة وقادة المليشيات، وعن سفك الدماء والأحلام بلا تورّع، عبر تغذيتها لحروب وكالة لا تتطلّب منها تلويث يديها.

المستحيل الواقعيّ

يستهين "الواقعيون" بطاقة الحلم عند النّاس، ومعهم حقّ جزئيّ حين يقولون بأنّ هذه الطاقة يُمكن أن تستنفد نفسها قبل تحقيق النتائج المرجوّة، فهي مفيدة في لحظات الاندفاع الأولى، ولكنّها لا تمتلك القدرة على استدامة الفعل؛ ولكنّهم يلحنون بالقول حين يتجاهلون أنّ هذه الطاقة هي تحديداً ما غيّر خريطة المنطقة العربية في نهاية 2010، فعندما كسر الناس حاجز الخوف المستتب وجازفوا بأعمارهم وأموالهم في مغامرة مفتوحة، لم يخرجوا لمجرّد تحسين النمو الاقتصادي بنسبة 3.5% أو لتقليل نسبة البطالة بواقع 7 درجات، بل خرجوا مشبعين بآمال كبرى عن إمكانيّة الولادة الشخصية والسياسية من جديد. 

قد يكون التحليل الاقتصاديّ مفيداً في الفهم بأثر رجعيّ أحياناً، ولكنّه دوماً ما يخفق في التنبؤ، ومن السهل أن يتحوّل إلى خيانة إن أصبح هو عنوان النضال. في لحظات "الاستيئاس"، يصبح "المستحيل هو الواقعي"2وهو شعار رفعه المتظاهرون في ثورة مايو 1968 في فرنسا.، وفي لحظات "سكرة القوة" التي تدفع قوى الاستبداد والاستعمار لفعل كلّ ما يحلو لهم دون تفكير في أيّ عواقب، تصبح الساحة مستعدّة لتقبل الجنون المضاد، الجنون العاقل جداً. فالحلم يكبر بقدر ما تكبر الفكرة.

بعد هزيمة الـ67، فكّر العرب بأنّ مشروع تحرير فلسطين قد لا يتمّ على النحو المباشر الذي تخيّلوه، فاتجهت التنظيرات إلى ضرورة بناء محيطٍ عربيّ حرّ وقويّ وموحّد يستطيع أن ينجز هذا المشروع. اليوم، ندرك الدرس التالي: لا يمكن بناء محيط عربيّ حرّ وقوي وموحّد في ظلّ وجود "إسرائيل" ودورها الفتّاك في المنطقة. وعلى خلاف ما يظنّ أصحابُ التصوّرات الخطّية، فإنّ كلتا الخلاصتين السابقتين صحيحة، وهما صحيحتان حين تعملان معاً؛ وكلتاهما خاطئة إذا تمّ العمل على كل واحدة منفردةً. 

ولكي لا تكون كلماتي خلاصات كبيرة ولاتاريخية، أقول: لا بدّ أن يتزامن الوعيّ بالأعداء، وأن تكون الحركة في أيّ مستوى مدركة لضرورة العمل الشامل على كافة الأصعدة، حتى لو اتخذت سياسةً من التدرّج والمرحلية. قد لا تكون الترجمة السياسيّة لما تخلص إليه المقالة واضحة وجاهزة، وأنا قانع بذلك بل وأحتفي به، فقد علّمنا التاريخُ السياسي أنّ الأحداث تولد خارج خريطة الفكر النظريّ، بل إنّ شرط ولادتها هي أن تقبع في النقطة العمياء من توقّعات الخصم. 

ولكنّ المقالة حتماً تريد أن تقول بأنّ على الفاعلين في كلّ ثورةٍ عربيّة مقبلة (وهذا أمرٌ سيحدث بحكم طبائع الأشياء) أن يدركوا بأنّ المعركة لا تتوقّف عند لحظة التحوّل السياسي، وأنّ أشدّ الأفخاخ خداعاً هو الفخّ الذي يؤجّل استحقاقات الاستقلال والنهضة والوحدة لطلب إتمام هذا التحوّل، ويغفل عن أنّ هذا التأجيل سيعود بالنقض على نجاح التحول السياسيّ نفسه.

إذا كانت الأفكار السابقة تقول للثوار العرب: عليكم أن تمدّوا أعينكم وأيديكم إلى فلسطين (وما تمثّله فلسطين) بوصفها بؤرة سياسية استراتيجيّة، متصلة ومتشابكة مع الداخل القطري لكلّ بلد عربيّ، فإنّ واجب المقام يقتضي القول بأنّ عيون الفلسطينيين وأيديهم يجب أن تمتدّ هي الأخرى إلى عمقها العربيّ، وأن ترى في تحرّره من الاستبداد – وأخصه استبداد الأسد واستعمار من وراءه - مقدّمةً استراتيجية للتحرير. 

متراس - Metras · ما أوسع الثورة!

لقد مثّلت لحظة 2011 إمكاناً لمثل هذا الاصطفاف الواجب (مرة أخرى: ديناً وأخلاقاً وسياسةً)، ولكنّ هذا الاصطفاف سقط نتيجة أسباب معقّدة، ذاتيّة وموضوعيّة. لم يكن سقوط هذا الاصطفاف (بين القوى السياسية المنظّمة)، وما نجم عنه من انقسام في الأهداف الكبرى، سقوطاً حتمياً، بل كان بعضه نتيجة ضعف في الرؤية الاستراتيجية والقدرة على التفكير في خيار ثالث بين النقيضين، وأحياناً كان نتيجة لافتقاد الشجاعة في اللحظة المواتية. ولعلّه في جزء عميق منه كان قائماً على فقدان الثقة فيما بيننا، فحين تتوقع الأسوأ من حليفك، ستبادر أنت –قبله- إلى محالفة عدوك وعدوه. وقديماً قال المتنبي:

إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه ... وصدّق ما يعتاده من توهّمِ
وعادى محبّيهِ بقول عداته ... وأصبح في ليلٍ من الشك مظلمِ

الوهم الذي يشلّ أيدينا

ثمّة شيء وهميّ في قوّة "إسرائيل"، فهذه القوّة لا تقوم بذاتها بقدر ما تقوم بوهمها، وبقدر ما تقوم على أساس "النصر دون حرب". فبيت العنكبوت الحافل بالتناقضات البنيوية هذا يفتقد إلى العمق الاستراتيجي ويعوّد مواطنيه على مستوى من رفاه دول العالم الأوّل، لا يحتمل الحرب الجدّية. لا توجد قبّة حديدية تحتمل رشقةً من 50 صاروخاً، ولا يوجد جيش دفاع قادر على ضبط حدوده على ثلاث جبهات أو أربع. إنّ قوّته تكمن في ضعفنا، بل قل: في عجزنا عن المحاولة.  

ثمة نوع سقيم من الحجج يبدأ بـ "جربنا كذا ولم ننجح": جربنا الحرب النظاميّة مع "إسرائيل" مرات ولم ننجح؛ جربنا الوحدة العربيّة مع عبد الناصر ولم تفلح؛ جربنا الثورة السلميّة هنا وهناك وهزمنا؛ جربنا الثورة العنيفة وجنينا الانقسامات؛ جرب الدواعش إقامة الدولة الإسلاميّة وخسروا؛ وجربت الأحزاب مسار التحوّل الديمقراطيّ ووقعنا في الاستبداد؛ ... تتابع الحجّة بالقول: علينا أن نتعلّم من فشل هذه التجربة وألا نكرّرها، وأن نجرّب طريقاً وطريقة جديدين.

في هذا النوع من الحجج مغالطات كثيرة، تزداد خطورتها في أزمنة الهزيمة، إذ تصبح ذريعة لتبرير أسوأ المسالك وتشريع الخيانات، وترسيخ نوع رديء من الواقعيّة (أو الوقوعية). تتعامى هذه الحجج عن تفسير طبيعة الفشل وأسبابه، وتنتقل -دون كثير تأمّل- من فشل التجربة إلى فشل المبدأ.

اقرؤوا المزيد: "هل "إسرائيل" أرحم من الأنظمة العربيّة؟"

لنفكّر بشيء من التبسيط في ثلاثة مستويات للفعل السياسي: الغاية والاستراتيجيّة والتكتيك. فشل التكتيك لا يعني فشل الاستراتيجيّة، وفشل الاستراتيجيّة لا يعني فساد الغاية. وفوق ذلك، هذه المستويات تتعلّق بالفاعل، ولكنّ النجاح والفشل يعتمدان على الفاعلين الآخرين أيضاً: الخصوم من أشباه وأضداد. ولذلك، أحياناً يمكن أن تنجح التجربة الثانية بعد فشل التجربة الأولى، لأنّ الظروف المحيطة قد تغيّرت. أضيف أيضاً أنّ المثابرة وتكرار المحاولة شكل من أشكال الفعل أيضاً: الفأس ضرب الصخرة 100 مرّة ولم تنكسر. كانت بانتظار الضربة الواحدة بعد المئة!

نعم، علينا الاعتبار مما مررنا به، وعلينا الاستفادة من دروس الهزيمة ومراجعة أدواتنا في العمل وتطويرها. ولكنّ تشويه التجارب واختصارها في عناوين الفشل والنجاح طريقة سيّئة للتعلّم. وفي أزمنة الهزيمة، حين تصبح المسافة بين المأمول والواقع هائلة، كثيراً ما يميل نظامنا العصبيّ إلى طلب الراحة بخفض سقف المأمول، وكثيراً ما تُزيّن "الثقافة" ذلك بعبارات حكيمة (وجبانة!)، ولكنّ البنية النفسيّة التي تحكم هذه العمليّة قد لا تختلف عن البنية النفسيّة التي يعرفها من أخفق في علاقة عاطفيّة، فقال: الحب ليس إلا كذبة للمراهقين الحالمين! 

ضميمة: من نحن؟ وماذا نجدي؟

في مقالة نشرها ولي نصر مؤخّراً في الفورين بوليسي، يقول الرجل بأنّ لحظة العرب قد ولّت، وأنّ الصراع في المنطقة بات بيد ثلاث قوى غير عربيّة: "إسرائيل" و"تركيا" و"إيران". المفارقة التي ينتهي إليها مقال الرجل – الذي تحوّل إلى مفكّر للإمبراطورية- هي أنّ الأمريكان إن أرادوا أن ينسحبوا في المستقبل فعلاً من مستنقع الشرق الأوسط، فإنّ عليهم أن يتدخّلوا الآن بمزيد من الجهود الدبلوماسيّة لتقريب حلفائهم من بعض، ونزع فتيل الحرب مع إيران، وإعادة بناء منظومة الأمن الإقليمي. ولكنّ المفارقة الكامنة في صلب المقالة هي قوله إنّ ما يحرّك السياسة اليوم في المنطقة لم يعد الإيديولوجيات ولا الشعوب، وإنّما السياسات الفعليّة المصلحيّة للدول الثلاثة.

يبدو القول بأنّ العرب قد باتوا خارج خارطة القوى التي تتحكم بمنطقتهم قولاً صادقاً ومقنعاً للغاية إذا ما نظرنا إلى السياسة بوصفها ما تفعله الدول فقط. إذ يبدو فعلاً أنّ القوى الشعبية والفاعلين هم خارج لعبة القوى الصلبة التي تحكم السياسة في منطقتنا اليوم، ولكنّ هذا التصوّر يسقط في الفخّ الذي يسميه أصحاب الدراسات الاستشرافيّة بفخّ "الفيل الأسود"3يقولون: الفيل في الغرفة، ولكن لا أحد يتحدّث عنه. الفيلة السوداء هي أحداث مرجّحة الحدوث، يمكن لمعظم الخبراء أن يروها، ولكنّ المؤسسات وصناع القرار غالباً ما يتجاهلونها، حتى ساعة وقوعها. أمثلة ذلك في الدراسات الاستشرافية كثيرة، الكل يعلم بأنّ تضخم الاقتصاد المالي يُمكن أن يؤدّي إلى أزمات اقتصادية حادة؛ والكل يعلم أنّ تصاعد ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي يعني تغيّراً مناخياً غير محمود. ولكنّ شبكة المصالح القائمة تمنع معالجة هذه الاختلالات العميقة، خاصّة أنّ وقوعها أمرٌ لا يمكن تعيين زمانه ومكانه بالضبط.، فالفيل الأسود في المنطقة هو حركة الشعوب التي لا يمثّلها اليوم أحد، وهي التي قلبت الطاولة قبل عشر سنوات وأخرجت المنطقة من مستنقع "الاستقرار"، ولم تخرج اليوم من المعادلة إلا بعد أدخلت عشرات القوى التي اتفقت على عدوّ مشترك (هو "نحن") ولكنّها لن تتفق على توزيع حصص هذا الانتصار الزائف فيما بينها.

الحديث عن البداهات واستعادة الوضوح السياسي اليوم له دوران اثنان: 1) أنّ السياسات القمعية والحربية والسلطويّة ليست سياسات مستدامة، ولا تمتلك القدرة على الرسوخ إلا إذا استندت إلى نوع من القبول الشعبيّ (أو قل: الإذعان). ومن ثمّ، فإنّ المقاومة الذهنية (وإنكار المنكر في القلب) يعني رفض التطبيع النفسيّ مع الاستبداد والاستعمار والتجزئة والخراب، ويولّد –حتى في لحظة الهزيمة التي نعيشها- خطوط دفاع لا يستهان بها، ويدعّم تعريف الـ "نحن"4انظروا مثلاً إلى الحملات الشعبية المناهضة للتطبيع، والتي تؤثّر طبعاً في تباطؤ بعض الدول في الجري نحو التطبيع، أو تزيد من الكلفة السياسية والشعبية له عند من "باعوا"، ولنتأمّل في الحدث الشعبي و"الريزومي" الذي مثّلته لحظة الانتصار للنبي الأكرم –صلى الله عليه وسلم- في وجه السياسات الفرنسية وما نتج عنه من حملة مقاطعة اقتصاديّة لا تكمن أهميّتها فقط في ما تلحقه فعلاً من ضرر اقتصاديّ، بل فيما تعنيه في تعريف وتمتين الـ"نحن" التي نقاتل عنها. وهو رفض يُمكن له 2) في اللحظة المواتية أن ينقلب إلى فعل شعبيّ عام ومشترك، واضح الأهداف، يعرف طبائع السياسة وألاعيب الأعداء ومكر "الأصدقاء" ويعلم علم اليقين أنه "لله المكر جميعاً".