17 يوليو 2019

الإجراءات اللبنانيّة

دقّ الأسافين بين الفلسطينيّ والسوريّ

دقّ الأسافين بين الفلسطينيّ والسوريّ

نظّم "ائتلاف حقّ العمل للاجئين الفلسطينيين" يوم الثلاثاء المنصرم مسيرةً للاحتجاج على الإجراءات الجديدة التي تتّبعها السّلطات اللبنانيّة لملاحقة وخنق العاملات والعمّال الفلسطينيين. كان يُفترض أن تكون هذه المسيرة ردّاً على "حملة محاربة اليد العاملة الأجنبية غير الشّرعية" التي أُطلقت بموجب قرار وزارة العمل الصّادر في مايو/ أيّار من العام الجاري. إلا أنّ السلطات اللبنانيّة منعت المسيرة إذ رفضت إصدار التراخيص اللازمة لها، كما اعترضت الحافلات القادمة من عين الحلوة وصيدا وأخضعتها لتفتيشٍ دقيقٍ. 

هكذا، رغم الإضراب والتحرّكات التي شهدتها مخيّمات البدّاوي والرشيديّة وعين الحلوة وبرج البراجنة، والتي أغلقت أسواقها أمام استلام البضائع من الخارج، والوقفات الاحتجاجيّة التي نُظّمت، إلا أن الحالة تعرّضت للاحتواء، وانتهت إلى وقفةٍ خجولة لم يزد عدد المشاركين فيها عن مئة شخص. 

كانت محاولة التظاهر، التي كان يُفترض أن تتّجه إلى مقر المجلس النيابيّ، المرّة الأولى منذ زمنٍ طويلٍ التي ينظّم فيها الفلسطينيّون أي فعاليّة تعترض على الحكومة اللبنانيّة بشكلٍ مباشرٍ في الحيّز العام اللبنانيّ، إذ انحصرت مثل هذه الاحتجاجات في الغالب داخل المخيّمات. أما الحيّز العام اللبنانيّ، فيُستخدم عادةً من قبل المؤسسات الفلسطينيّة وغيرها للتضامن مع الفلسطينيّين داخل الأرض المحتلّة.

لم يكن للفلسطينيين من متسعٍ لتدارك ما حصل: فاجأتهم الإجراءاتُ الجديدة وغدرتْ بهم، خاصّةً بعد الترويج لـ"لجنة الحوار اللبنانيّ-الفلسطينيّ"، والنشاط الديبلوماسيّ العالي للسفارة الفلسطينيّة في لبنان، والذي أوهم الناس جميعاً ببصيص أملٍ لتغيير الأوضاع. لكنّ المُلفت هو الخطاب الفلسطينيّ الذي ظهر خلال الأسبوع، والذي تبنّته فصائلُ منظّمة التحرير في لبنان، وهو خطاب يحاول التبرير والإضاءة على مساهمة الفلسطينيّين في الاقتصاد اللبنانيّ، والتأكيد على أنّ الفلسطينيين شرعيون ردّاً على ادعاء الوزير بأنّه يحارب العمالة غير الشرعيّة، (أي بكلمات أخرى: نحن لسنا كالسوريين!)

ينسى الفلسطينيّون سريعاً أنّ لبنان يعرف مساهمتهم في الاقتصاد جيّداً، ولكنّنا سرعان ما بتنا نؤدّي دورنا في اللعبة اللبنانيّة. يستهدف وزير العمل في هذه الإجراءات اللاجئين السوريّين بالدرجة الأولى، ولكنّه يقصد استعمال الفلسطينيّين بالدرجة الثانية، ليضمن ألّا تجد أصواتُ السوريين مساحةً للظهور. ضحايا في وجه الضحايا، ولا رابح في سباق الكراهيّة هذا. 

يوم 15 يونيو/ حزيران، عقد وزير الخارجيّة اللبنانيّ جبران باسيل، وهو صهر رئيس الجمهوريّة عون، مؤتمراً صحافيّاً مع البلديات، قال فيه إنّ "تجربة اللاجئ الفلسطينيّ لن تتكرّر مع النازح السوريّ". إذن، ورغم السياقات التاريخيّة المختلفة للجوء الفلسطينيّ في لبنان، يعاقب لبنان السوريين في وصفهم "احتمال فلسطينيّين".

"الإجراءات" وأحداث الأسبوع الأخير

منذ أسبوع تقريباً، وجّهت وزارة العمل اللبنانيّة مفتشيها للإغارة على المحلّات والمصانع والمناطق الصناعيّة في مختلف المحافظات اللبنانيّة للتأكد من عدم وجود من تُسمّيهم الوزارة "عمالة أجنبية غير شرعيّة". ورغم أن الحملة سُوِّقت إعلاميًا على أنّها موجهة ضد العمالة السوريّة، إلا أن الحملة طالت السوريين والفلسطينيين على حدٍ سواء، إذ أغلق مفتّشو الوزارة مصالح تجاريّة فلسطينيّة كما طُرد عمّال فلسطينيون أيضًا. 

تعمل الحكومة اللبنانيّة منذ بداية العام الجاري، وبشكلٍ رسميّ، على إجبار اللاجئين السوريين على العودة إلى سوريا بادعاء أنّها باتت "آمنة"، يجري ذلك بموازاة تحميلهم مسؤوليّة الانهيار الاقتصاديّ الوشيك في لبنان. ونتيجةً لخطاب الكراهيّة المحرّض ضدّ السوريين، قامت حملات "عفويّة" في بعض المناطق لطرد اللاجئين السوريّين من أماكن سكنهم وعملهم. مثلاً، نظّم قطاع الشّباب في التيار الوطنيّ الحُرّ والذي يرأسه الوزير جبران باسيل، غارات على المحال التي يعمل فيها سوريّون وطلبت منهم أمام الكاميرا، باللّطف اللبناني المعهود: "بليز رجاع عل بلدك". 

لكن ما علاقة كُل هذا باللاجئين الفلسطينيين؟ وما هي التراخيص التي طُلبت من العمّال الفلسطينيّين والسوريّين على حدٍ سواء خلال حملات الإغارة على محالهم وأماكن عملهم؟ بالرجوع إلى الماضي، نذكر أنّه لم تكن هناك أي آلية لدى وزارة العمل اللبنانيّة تنظّم عمل الفلسطينيين، ولم يكن العمل متاحاً لهم قانونيّاً في أغلب المهن، إلى أن أقرّ البرلمان اللبنانيّ عام 2010 تعديلاتٍ على قانون العمل والضمان الاجتماعيّ في مواده 128 و129، بحيث تم استثناء اللاجئين الفلسطينيين من المعاملة "كأجانب" بسبب وضعهم الاستثنائي.

كذلك ضَمِنَ التعديلُ القانونيّ ضمَّهم إلى الصندوق الوطنيّ للضمان الاجتماعيّ، وإنشاء صندوقٍ خاصٍّ لهم يضمن الحقّ في تعويض نهاية الخدمة أسوةً باللبنانيين. مع هذا، ورغم دفع كامل الاشتراكات الواجبة عليهم في حال تم التصريح عنهم للضمان، لم يشمل القانون حقّ الفلسطينيين بالاستشفاء (التأمين الصحيّ) وحقوقاً كثيرةً أخرى يحصل عليها اللبنانيّ. أما الصندوق الخاصّ بنهاية الخدمة للفلسطينيين فلم يُفعل رغم مرور 9 سنوات على هذا القانون.

بعد القرار "الإيجابيّ" الصادر عام 2010، صدر عام 2018 القرار 29/1 عن وزارة العمل، والذي يحدّد المهن المحصورة باللبنانيين فقط، وهو يستثني جزءاً من الفلسطينيّين من هذا القرار، ولكنّه في الوقت ذاته يمنعهم من مزاولة المهن المنظّمة والحرّة (هندسة، طب، صيدلة، محاماة، الخ...). 

ثم في مايو/أيّار 2019، أُصدِر قرار 82/1 والذي يكلّف الأجهزة المختصة بالتفتيش على المؤسسات المُخالفة على كافة الأراضي اللبنانيّة، أو ما يعرف بـ"حملة الوزارة لمحاربة اليد العاملة الأجنبية غير الشرعيّة"، والتي تمّ الترويج لها في حملة إعلامية تحت شعار "ما بيحرّك شغلك...غير ابن بلدك"

ينص هذا القرار الأخير على إصدار محاضر ضبط وغرامات للمؤسسات المخالفة سواء كان صاحبها "أجنبيّاً" ولم يُصدر لنفسه ترخيص عمل، أو شَغَّلَ عمّالاً أجانب ولم يُصدر لهم تراخيص للعمل أو لم يستوفِ الشروط اللازمة، مثل نسبة تشغيل اللبنانيين وفق المبدأ القانونيّ- "مبدأ تفضيل اللبنانيّ". مثلاً، في قطاع البناء يُلزم القانون أن يكون هناك عاملٌ "أجنبيٌّ" واحد مقابل عامل لبنانيّ واحد. في قطاعات أخرى يُلزم القانون وجود 3 عمّال لبنانيين مقابل كلّ عاملٍ "أجنبيٍّ". أما في قطاع مثل قطاع التنظيف، فيجب أن يكون لبنانيّ واحد فقط مقابل 10 عمّال "أجانب"!.

هذه هي المسوّغات "القانونيّة" التي تستخدمها الحكومة اللبنانيّة لملاحقة شغل الفلسطينيّين والسوريّين على حدٍ سواء، وهي تستثمر في خطاب تحريضيّ وتظهّر خطواتها على أنّها قمة الوطنيّة والحرص على اليد العاملة اللبنانيّة، وتصوغ المصطلحات التي سوف ترافق اللبنانيين طويلاً نحو الانهيار الوشيك للاقتصاد.

 اللا-علاقة بين الفلسطينيين والدولة: لجنة الحوار كنموذج

تحاول المخيّمات والتجمّعات الفلسطينيّة فهم الإجراءات التي تتخذها وزارة العمل اللبنانيّة ضدّهم، وسبب استهدافهم ضمن الحملة التي تستهدف بالحقيقة السوريين، وسبب عدم مراعاة الاستثناء القانوني المطبّق على الفلسطينيين. في هذا السياق، يُشكّل الرّد من قبل وزارة العمل على الاحتجاجات نموذجاً يختصر العلاقةَ بين الفلسطينيّين والمؤسسات الرسميّة. فقد استهجن وزير العمل كميل أبو سليمان احتجاجات الفلسطينيين مدعياً أن "من أصل 550 مخالفة لقانون العمل ضبطت منذ الأربعاء الماضي هناك فقط مخالفتان تعودان لمؤسستين كبيرتين يملكهما فلسطينيون، معتبراً أن ردة الفعل الفلسطينية غير مفهومة ولا معنى لها." عملياً، يختار الوزير أن يوضح للرأي العام أن التحركات الفلسطينية غير مفهومة، ويتّهم الفلسطينيين بتنظيم تحركات تهدف ألّا يخضع الفلسطينيون للقانون، إلا أن الوزير، وهو ليس وحده في ذلك، لا يفهم معنى هذه الاحتجاجات الفلسطينيّة.

أحد النماذج الأهم التي أسّستها الحكومة اللبنانية عام 2005 هو هيئة حكومية تدعى "لجنة الحوار اللبناني الفلسطيني"، والتي يُفترض أن تعمل كحلقة وصلٍ بين الفلسطينيين وبين المؤسسات الرسمية والدوليّة. من المتوقّع إذن أن تكون "لجنة الحوار اللبنانيّ-الفلسطينيّ" هذه هي الجهة التي تُسّر للوزير أبو كميل سبب احتجاجات الفلسطينيين، إلا أن ما يخفيه اسم اللجنة هو أنّ هذه اللجنة مكوّنة من وزارات لبنانيّة (ستة وزارات، منها وزارة العمل) تحاور بعضها البعض حول شؤون اللاجئين الفلسطينيين برعاية السفارة الفلسطينيّة وسفارة اليابان. لا تضمّ اللجنة أي فلسطينيين، إذ أنّها لجنة حكوميّة بينما لا يملك الفلسطينيّون في لبنان أي صفة مدنيّة واضحة (لا مواطنين ولا مقيمين طوعاً) لذا فلا يُمكن تمثيلهم في هيئةٍ حكوميّة. 

ربّما لهذا السبب تحديداً لا تستطيع اللجنة أن توضّح لوزير العمل أن التمييز التاريخي ضدّ الفلسطينيين بدأ قبل حملة التفتيش الأخيرة، وأن "عدد" المخالفتين ليس دقيقاً بالكامل. وإن كان لا يملك الوقائع كُلها، فيمكن له التواصل مع ائتلاف من أجل الحق بالعمل وحيث يتواجد فيه الكثير من الفلسطينيين والذي يمكن أن يستفسر منهم بشكل مباشر عن أرقام المتضررين. كذلك يمكن للوزير أن ينشر أرقام المؤسّسات اللبنانيّة التي تمت مخالفتها بسبب اليد العاملة الفلسطينيّة، وإذا كان ذلك كله لا يوضح له كل ردّة الفعل هذا، فيمكن له أن يسأل الوزير جبران باسيل عن تجربة اللاجئ الفلسطينيّ الذي لا يريدها الأخير أن تتكرر.

 استخدام الفلسطينيين في الصراعات اللبنانيّة الداخليّة

ينتمي وزير العمل اللبنانيّ إلى كتلة القوات اللبنانية، التي عادت الفلسطينيين في فترة الحرب الأهلية، والتي تشارك حالياً في مجموعة العمل النيابية حول قضايا اللاجئين. لا يمكن طبعاً عزل التيار السياسي الذي ينتمي إليه الوزير عن هذه الإجراءات، وعن دور السياسية الداخليّة اللبنانيّة في الأزمة، وكيف تستخدم الفلسطينيين، كما السوريين، لحسم صراعاتها.

من خلال تصريحات وبروز وزير الخارجيّة جبران باسيل مؤخراً، والذي ينتمي للتيّار الوطنيّ الحرّ، استطاع "الحرّ" التقدّم في منافسة القوّات اللبنانيّة على الأصوات الانتخابيّة المسيحيّة والتمثيل المسيحيّ، وإحراج سمير جعجع، أحد رموز القوات اللبنانيّة، من خلال الاستحواذ على خطاب "تميّز اللبنانيّ" الذي أعاد إلى الحاضر تلك الهويّة اللبنانيّة المتفوّقة جينياً. 

فعل باسيل ذلك من خلال وابلٍ من التغريدات التي أبرزته إعلاميّاً، والتي تفيض بوصف "الهويّة اللبنانيّة" التي يطمحُ لها والتي لا يمكن أن تتوضح أو تُرى إلا إذا تمت مقارنتها بهوية أخرى، أي ما يميزها هو أنها مختلفة عن الآخر وليست مميزة بحد ذاتها. في الوقت ذاته، يعبر جبران باسيل عن اهتمامه بما يجري في فلسطين، بل يُحدد موقفه بأنّ "العدُو هو إسرائيل والبوصلة هي فلسطين، وكل ما يُشتت من تركيزنا عن هَدفِ إعادةِ حُقوق الشعبِ الفلسطيني هو إِلهاءٌ لنا عن مصالِحِنا ومصالح شعوبنا".

إذن، يحرّض التيار الوطني الحرّ ضدّ اللاجئين السوريين، بينما يعرض نفسه كمدافعٍ عن فلسطين التي أيضاً في روايته تخلو من البشر. فيأتي وزير العمل، الذي ينتمي  للحزب المنافس، القوّات اللبنانيّة، ليزايد عليه ويحرّض على اللاجئين الفلسطينيين والسوريين على حدٍ سواء. وحفاظاً على "نظافة" اللغة القانونيّة، تشمل الإجراءات كلّ الأجانب، إلا أنّها تستثني بالحقيقة مئات آلاف العاملات الأجنبيّات في المنازل اللبنانية، حيث لا يبدو أن هناك أي تنافس مع اليد العاملة اللبنانية، إذ لن تتحمّل العاملات اللبنانيات أجوراً منخفضة جداً تحت الحدّ الأدنى للأجور، أو يقبلن العيش في منزل المشغّلين دون ساعات راحة محددة أو نهار عطلة وتحت التهديد الدائم بالعنف. يبدو أن اليد العاملة اللبنانية، تتعرّض للتنافس في القطاعات التي يسهل على المفتشين الدخول إليها.

هكذا، في إجراء واحد، يصبح الوزير المنتمي للقوات اللبنانية بطلاً قومياً، فهو لا يعمل فقط على دفع اللاجئين السوريين للعودة غير الآمنة إلى الحرب في سوريا، بل أيضا يزج بالفلسطينيين لمواجهة السوريين، ويحقق من ذلك شعبيةً بين جمهوره.

وإسّا لوين؟

لن يتراجع الوزير، ولن يهتم اللبنانيون كثيراً، وسوف تستمر الدولة اللبنانية في ترحيل السوريين قسراً إلى سوريا. سيكمل الفلسطينيون العمل على إصدار تراخيص مجانيّة تدّعي الوزارة بأنها متوفّرة، وهي على الأرجح لن تتوفّر. كما سيحبّذ اللبنانيون توظيف لبنانيين بسبب رغبتهم في أن تبتعد وزارة العمل والدولة بشكل عام عن حياتهم. وسيجلس الكثير من الشابات والشبان الفلسطينيين في منازلهم ينتظرون نيزكاً، هذا في حال لم يتم اعتقالهم من قبل الجيش اللبناني، والذي بدأ مداهماته واعتقالاته للمشاركين في الاحتجاجات ليلة أمس في المخيّمات، وربما قد يستطيع احد منهم أن يلاقي لنا مخرجاً من هنا، براً أو بحراً أو عبر طيران "الشرق الأوسط".