30 مايو 2022

"لم تتدخّل المقاومة".. ملاحظاتٌ في نقاشٍ متوتر

"لم تتدخّل المقاومة".. ملاحظاتٌ في نقاشٍ متوتر

مرّ يوم أمس الأحد (29.05) ثقيلاً جداً على مدينة القدس. ضاعف المستوطنون، بحماية شرطتهم، من عربدتهم في المدينة وتنكيلهم بأهلها، وغنّوا ورقصوا ورفعوا أعلامهم وصلّوا في قلب مسجدها الأقصى. ممّا زاد من ثقله، أنّ ردّ الفعل على "مسيرة الأعلام" وما رافقها لم يكن كما تأمّل الناس. لذا، انفجرت  النقاشات التي كان جلّها يدور حول ردّ المقاومة في غزّة وتفاعلها مع الحدث، وحول مستوى المواجهة الشعبيّة في المدينة. نُقدّم في هذا المقال مُساهمتنا في النقاش. 

أولاً: إنّ الفكرة التي تعتبر أنّ المواجهة لا تحدث إلا إذا خاضتها المقاومةُ في غزّة، هي فكرةٌ علينا أن نرفضها بشدّة. إنّها بابٌ يؤول إلى تحلّل مجموع الشعب الفلسطينيّ في مختلف أماكن تواجده من مسؤولياته، وهي تعني أن تتحمّلَ قطعةٌ جغرافيّة مسؤولية النضال وحدها، فيما يتحوّل البقية لجمهورٍ متفرجٍ عليها، وهذه الحالة بالذات هي التي خرجت هبّة ومعركة العام الماضي للتمرد عليها. وعلينا أن نُثابر في تمردنا عليها،  لأنّها من جهةٍ أخرى هي وصفة "إسرائيل" في التعامل معنا، أي بوصفنا ساحاتٍ منفصلة تترتب فيها درجاتُ العقاب بقدر الانخراط في المقاومة، فتُعاقب قطعةً أكثر من غيرها لتكون عبرةً لأخواتها من القطع، وهي السياسة التي حاولت تعزيزها أكثر في عمليتها الأخيرة التي أطلقت عليها "كاسر الأمواج"، فمثلاً ركّزت خطواتها العقابية تجاه جنين وأهلها.

ثانياً: ثمّ إنّ الافتراض بأنّ المواجهة الأهمّ هي تلك التي تُطلق فيها الصواريخ هو اختزالٌ لأفعال المقاومة الواسعة، فالصاروخ يسند المواجهاتِ لكنه لا ينوبُ عنها. كما أنّه لا ينبغي أن تنوبَ منطقةٌ جغرافيّةٌ عن أُخرى فإنّه لا ينبغي أن ينوب أسلوبٌ في المقاومة عن آخر. وهنا ينبغي أن ننتبه لبعض الخطابات التي، لشدّة حماسها للمواجهة الصاروخيّة، تُلغي أنواع المواجهة الأخرى، الشعبيّة منها والمُسلّحة أيضاً، فتصبح (وفقاً لتلك الخطابات) أفعال التصدي اليوميّ المباشر ضدّ قوات الاحتلال ومستوطنيه حالةً مؤقتةً وظيفتها تحفيز انطلاق الصاروخ وفور ما ينطلق نلوذ بمقاعد الاحتياط.

ثالثاً: ‏في الواقع، هناك منجزاتٌ صغيرةٌ ومهمة بدأت بالتراكم، وشكّلت على مدار سنةٍ كاملة حالةً من الانتعاش في روح المقاومة. سبقتْ هذه اللحظة حالةٌ من التشتت والإحباط، وأحياناً اللامبالاة، وبدا أنَّ المنطقة تطبخُ مصيرنَا بمعزلٍ عنا، وقد كانت لحظة "صفقة القرن" كاشفةً عن هذا الضعف، إذ بدا أنّنا دون قيادةٍ ودون خطابٍ جامعٍ وأنّ على كلّ جغرافيا أن تخلعَ شوكها بيدها. في العام الأخير تقدّمنا عن تلك اللحظة الواهنة، وعلينا أن نُحصي خطواتِنا ونحتفي بها. وحين شعرنا أنّ الاقتحامات للمسجد الأقصى -حتى وإن مرت- يجب أن تُبقينا في حالةِ تأهب، كنّا نستعيد فاعليتنا كشعبٍ من مستوى المجاز لمستوى القدرة على الإخافة والتهديد. إنّ حالةَ التأهب والتحفّز الدائم التي خلقناها في أنفسنا وفي نفوس أعدائنا هي بوابةُ استعادة ما خسرناه من أنفسنا طوال السنوات الماضية، إنه إحساسنا بوجودنا السياسيّ؛ الخزّان الذي يسقي قدرتنا على الفعل، ويسقي أرواحنا العطشة للتحرّر، لذا علينا أن نرعى هذا المنجز ونصونه لأنّه من السهل أن يجبروننا على نسيانه.

رابعاً: ‏هناك إشكالٌ حقيقيّ يتعلق بمسألة المبالغة في الخطاب السياسيّ والإعلاميّ، وهي مشكلةٌ تاريخيّة تعاني منها فصائلنا. وقد بدأت تلك الخطابات مؤخراً تحظى بنوعٍ من الاهتمام الجدّي من قبل الناس وهذا يعكس حالةً صحيّة من حيث المبدأ، لكن في المقابل لم يجرِ التعامل مع هذا الاهتمام بجديّة موازية تحافظ على المصداقية وتعزّزها وتحرص على صيانة أمل الناس وفهمهم للواقع المركّب. تحتاج هذه المسألة لمراجعةٍ جديّة من أعلى المستويات القياديّة في حركات المقاومة، وعلى رأسها "حماس"، خاصّة في ظلّ تكاثر تصريحاتها وتوسعها في الآونة الأخيرة، وهو ما انعكس أيضاً في خطاب الأذرع الإعلاميّة.

ومع فهمنا لأهميّة التحشيد وضرورته علينا أن لا نخلطَ بين الوهم والتحفيز، ونفرّق متى يكون التحشيد مفيداً ومتى يتحول إلى حالة امتصاص للغضب وتثبيطٍ للفعل. فالمبالغة في التحشيد قد تُرخي عضلات  الفاعلين على الأرض على افتراض أنّ الموضوع في النهاية بيد غزّة.

كما أنّ الفجوةَ بين الخطاب والفعل إذا اتسعت تؤدي إلى إضعاف ثقة الناس بخطاب المقاومة، وتجعل الالتفاف حولها صعباً، لا سيما حينما تختلطُ الأهدافُ بالشعارات، ويُصبح التمييز بينهما مهمةً عسيرة. وهكذا يضيع تراكم الإنجاز الفعليّ لصالح الانتصار الخطابيّ، فلا يعود السقف هو ما نحرُسُه واقعاً من مصادرة الاحتلال، بل يصبح السقفُ هو اللغة وقد حلّقت بعيداً عن واقع تحاول وصفه وحمايته. إنّ المبالغة في اللغة والخطاب تجعل الخسارة مضاعفة، فترتفع منجزات عدونا من مستوى اقتحامٍ، وهو كبير، لمستوى كسرِ إرادة، وهو أكبر.

وأسوأ ما يتعلق بالمبالغة الخطابيّة أنّها تُتيح لمنجزات العدو أن تمرَّ على أرض الواقع، فيما يحجبُ ضجيجُ تصريحاتنا أصواتَ خطو العدو، تماماً كما حدث خلال اقتحامات المستوطنين للمسجد الأقصى في رمضان الماضي (2022) بمناسبة عيد الفصح اليهوديّ، فقد مرّت "بنجاح" على أرض الواقع، لكنها لم تمر في واقع اللغة الإعلاميّة - خاصّة في الأذرع التابعة للمقاومة - خوفاً من تهديدات المقاومة في غزّة، هكذا قالوا.

اقرؤوا المزيد: "القدس بعد عام على هبّتها: كيف يُصان الأمل؟"

خامساً: لا بدّ أن تُبنى العلاقةُ بين المقاومة في غزّة وباقي ساحات المواجهة في فلسطين على أسسٍ أكثر فاعليّة. بات من الواضح تعلّق الناس في كلّ مكانٍ بمركزيّة المقاومة هناك، أصبح الضيف قائداً عامّاً لكلّ الحالة متجاوزاً ضيق التنظيم وداخلاً في رحابة المُشترك النضالي الجامع لنا. هذا مهمٌّ وضروريّ ويكشف بعد كلّ السنوات التي حاولوا فيها إخضاعنا وابتزازنا وشراءنا وبيعنا أيضاً، أنّ ثقتنا بُنيت هناك في المكان الذي أُريد تشويهُه وإخضاعه وتجويعه أكثر من غيره، حيث خيار المقاومة ما زال حيّاً ويُحينا. هذه العلاقة هي ثمرة صمودٍ ودماء، ولكي نكون أوفياءَ لها علينا أن نبنيها بشكلٍ تفاعليّ لا بشكلٍ اعتماديّ، ويقتضي التفاعل أن تتحمل الساحاتُ كلُّها كلفةَ فاتورة التحرير. كما أنّ القيادة لا تعني التبعية السلبية، بل هي بناءٌ إيجابيّ يساهم في رفد الحالة وتوجيهها والاقتراح عليها بشكلٍ عمليّ، تماماً مثلما كانت مقاومة أهل القدس في العام الماضي هي المُحفّزة لباقي الساحات بما فيها غزّة.

سادساً: من المهم الاستمرار في تثوير ساحات الضفّة (وهي الساحة التي شهدت مؤخراً تصاعداً في الحالة النضاليّة بعد أو وُصِفت لسنوات بـ"الهدوء") والقدس والأراضي المحتلة عام 1948، وهنا يقع اللوم الأكبر على أنفسنا إن لم ننجح في خلق حالةٍ مُستمرةٍ وفعّالة. هناك بوادر جديدة بدأت تخرج في هذه الساحات، حالات جنينيّة من المقاومة الشعبيّة والمُسلّحة برزت وتطوّرت عبر سنوات، وفي ظلِّ ظروفٍ شديدة التعقيد، والحالة بمجملها تعاني من آثار ضربِ قدرتِنا على التنظيم والتي ثابرت عليها "إسرائيل" و"السلطة" (السّلطة أيضاً بين قوسين) بشكلٍ متناوبٍ خلال الفترة الماضية. ولا شك أنّ استعادتها تحتاج لوقتٍ لكنّها اليوم أكثر قابليةً للاستعادة من أي وقتٍ مضى.

اقرؤوا المزيد: "فعلٌ يُراكم على أخيه: الضفّة الغربيّة بعد سيف القدس"

إنّ غياب القدرة على الاستمرار والتنظيم هو ما يجعل المواجهات تنحصر بصفتها الموسميّة، أو بردود الأفعال الضيّقة، وتوسيع المواجهات شبكيّاً بين فئاتٍ أوسع لتصبح جزءاً من اليوميّ هي مهمة التنظيم. ولا نعني بالتنظيم هنا أن تتحزّب الحالةُ النضاليّة، فهذا شكلٌ واحدٌ من أشكال التنظيم وهو مهم، ولكنَّ الأهمّ هو عملية خلق أنويةٍ ومراكز متناثرة من الفعل المقاوم تنجح في تنسيقيات الحدّ الأدنى، وفي ترتيب الأهداف والمواجهات، ولا تتأثر كثيراً أو طويلاً بضربات الاعتقال والملاحقة المستمرة،  أي باختصار استعادة القدرة على العمل بشكلٍ جماعيّ منظّم وذي نفسٍ طويل.

وهذا الأمر بالضبط هو ما يُفسّر غياب المواجهة بشكلها الواسع يوم أمس في ساحات المسجد الأقصى المبارك. فالقطاعات الشعبيّة التي تفتقر للتنظيم يغلب على عملها الطابع الموسميّ1لذلك رأيناها نجحت في رمضان 2021 بفضل العشر الأواخر واحتشاد الناس تلقائياً في المسجد وزيادة احتمالية دخول الناس من الضفّة الغربيّة، وكذلك الظروف الأقل تعقيداً من الأيام العاديّة التي تسهل عملية التحضير للمواجهة، ولم تنجح هذا العام.، وتحويل هذا الطابع إلى طابعٍ دائمٍ وثابتٍ يحتاج إلى نوعٍ من البنى التنظيميّة. وفي الوقت نفسه فإنّ غياب البُنى التنظيميّة أو عدم القدرة على استعادتها بشكلها الكامل لا يُعفي الحالة الشعبيّة من مسؤولياتها الأساسيّة في التواجد والالتفاف حول القدس وقضاياها.

سابعاً: لا توجد نقطةٌ نهائيّة للمقاومة إلا بهزيمة "إسرائيل" تماماً، وما قبل ذلك هو مواجهات من الكرّ والفرّ، فالذي يُعلّق كلَّ مشاعره على نجاح مواجهةٍ أو فشلها سيستعّد نفسيّاً لقبول الهزيمة التي ستُعرض عليه في أقرب فرصة (أليس هذا فعليّاً ما حدث مع القائد الذي أُهدِي لذكراه الرقم 1111؟)، وسيَحرمُ نفسَه من المشاركة في المراكمة باتجاه النصر الأكبر، بل سيجِدُ نفسَه يسعى ضدّه، "وهم يحسبون أنّهم يُحسنون صنعاً". 

في الختام، فإنّ رفع الروح المعنويّة وابقاء الروح النقديّة مُتأهبة هما جناحان لأي حركةِ تحرّر جديّة، ولا يُمكن لأحدهما أن يحلّ مكان الآخر، لا يُمكننا أن نطيرَ بمجرد التحفيز ولا يُمكننا أن نطيرَ بالاكتفاء بعقلٍ نقديٍّ لا يرى سوى القصور في الحالة دون فهم مُمكناتها وفرصها، ودون الإيمان أنّ فلسطين كلّها ستعود لنا.



23 مارس 2020
القدس في زمن الـ"كورونا"

منذ إعلان وزارة الصّحة الفلسطينيّة في الخامس من مارس/آذار الجاري عن أولى الإصابات بفيروس "كورونا" في بيت لحم، بدأت تداعياتُ…