3 سبتمبر 2019

لماذا نستمتع بالقيام بأشياء بلا معنى؟

لماذا نستمتع بالقيام بأشياء بلا معنى؟

يتحدث الكاتب بول بلوم في هذا المقال عن مصدر الجاذبية التي تكتسبها الأفعال التي لا تحمل معنىً بذاته، وكيف يمكن أن يتحول فعل أحمق وغير عقلانيّ إلى  احتفالية شخصيّة بالجموح؛ أن تستلقي على منتصف شارع سريع، أو أن تسرق الإجاص ومن ثمّ ترميه للخنازير. المقال محاولة في استكشاف المنطق الداخليّ لهذه الأفعال وتحليله. نُشر المقال بعنوان "الجاذبية الغريبة للأفعال المنحرفة: لماذا نستمتع بالقيام بأشياء بلا معنى؟" على مجلة "نيويوركر" في يوليو/ تموز 2019. 

تُخبِرُنا الفيلسوفةُ أغنيس كالار Agnes Callard بأنّها أحياناً، تحبّ أن تمشي على الخطوط الصّفراء المزدوجة عندما تكون مسافرة ليلاً على طريقٍ مهجورٍ. في إحدى الليالي قررتْ أن تستلقي هناك، أيّ في منتصف الطريق. أبقتْ يديها مثبَّتتين بموازاة جسدها حتى تتمكّن السّيارات من المرور يميناً ويساراً. اقترب منها شرطىٌّ منتبهاً ومرتبكاً، هل كانت مخمورةً أو منتشيةً أو تريد الانتحار؟ 

فسّرت كالار تصرفَها بالقول إنّه كان لديها الكثير من الأسباب لتكون هناك، لقد تعجبت، من بين أشياء أخرى، من مظهر النجوم من وجهة نظر الطريق، مع ذلك فإنّها أرادت، غالباً، أن تعرف كيف سيكون الشعور. "الاستلقاء على الطّريق ليس شيئاً يفعله الشّخصُ عادةً"، هكذا كتبت في مقالٍ لها بعنوان "الجموح" [بالإنجليزيّة Unruliness]، حينما يكون المرء في حالةٍ ذهنيّةٍ أقرب إلى العصيان فإنّ تصرفاً كهذا من الممكن أن يكون مغرياً لهذا السّبب بالتحديد.

كانت كالار حذرةً في التفريق بين الجموح والتمردّ. لم يكن تمدّدها على الطّريق تعبيراً عن نقدها للوضع القائم، أو شكلاً من أشكال المقاومة. قد يُطري الجامحون على أنفسهم بالقول إنّهم ثوّار، لكنّ الجموح ليس شيئاً محدّداً، إنّه مجرد عدم الرغبة في اتباع القوانين المُحدّدة للأشياء. لذلك، فإنّ الجموح قريبٌ جداً من الانحراف، الذي لطالما شكّل موضوعاً مركزيّاً في نقاشات الفلسفة واللاهوت. 

يظهر مثال كلاسيكيٌّ على الرغبة المنحرفة [perverse desire] في اعترافات القديس أوغسطين المكتوبة تقريباً عام 400. يروي أوغسطين كيف سرق، في شبابه، برفقة أصدقائه بعض الإجاص. لم يكن أوغسطين وأصدقاؤه جائعين، بل إنّهم في الواقع قد ألقوا الثمار للخنازير. يكتب أوغسطين بأنّ فعلتهم "كانت فعلاً مُستهتِراً [أو جائراً] غير مبرّر، إذ لم يكن ثمّة باعثٌ على فعل الشّر إلا الشرّ نفسه". بالنظر إلى سلوكه، يستنتج أوغسطين بالقول: "أحببتُ الشّرَ بداخلي". لا زلنا نفسّر السّلوك المنحرف بهذه الطريقة. فكِّروا مثلاً في كيف يقوم ألفريد بوصف الجوكر في فيلم المخرج كريستوفر نولان "فارس الظّلام" - The Dark Night: "بعضُ الرجالِ لا يسعون إلى شيءٍ منطقيّ، المال مثلاً. لا يمكن شراؤهم أو التنمّر عليهم، أو إقناعهم بالمنطق، أو التفاوض معهم، بعض الرجال يريدون فقط رؤية العالم يحترق". 

عام 2009، نشر الفيلسوف ديفيد سوسمان David Sussman في مجلة الفلسفة The Journal of Philosophy مقالاً بعنوان "كُرمى للسّوء"- For Badness' Sake. يُعرِّف سوسمان في مقاله الأفعال المنحرفة بكونها تلك الأفعال التي نقوم بها عندما تكون رغبتنا الطبيعيّة للخير- ربما الخير الأخلاقيّ، أو فقط الخير الأضيّق المتمثل بالمصالح الذاتيّة- معكوسة الاتجاه.

يمكن التعبير عن حالة الانعكاس هذه بوصفها شرّاً، كما في حالة أوغسطين. لكن ليس لزاماً أن تكون كذلك. يتأمل سوسمان إغراء الأفلام الشنيعة، أو الجثث والحوادث المريعة، ويشير إلى رغبتنا الغريبة في شمّ الأغذية الفاسدة، رغم معرفتنا المسبقة -أو ربما هذا هو السّبب- بأنّ الرائحة ستكون مقززة. يُذكّرنا سوسمان أنّه من الصعب رؤية "الجمال الهشّ لخيوط الجليد المتدلّية" دون أن تكون لدينا الرغبة في تحطيمها، كما يُذكّر بأنّ "معظمنا يعرف كيف يكون الشعور عند لمس قشرة الجرح أو تحريك سنٍّ متخلخلة، وذلك ببساطة بسبب الطريقة الغريبة التي تؤلم بها هذه الأمور".

قد يكون الذين يقومون بأفعال منحرفة -لن أدعوهم "منحرفين" لأنّ هذه الكلمة تُثير دلالات مُشتِّتة- مبدعين أو مضحكين. أنا عالم نفس، وبعض أبحاثي تتضمن مقابلة أطفال صغار والإلحاح عليهم بالسؤال عن آرائهم عن حالات مختلفة، مثل المعضلات الأخلاقيّة. ومثل أي شخصٍ آخر في هذا المجال، تعلمتُ أنّ بياناتي ستكون دائماً مبعثرةً بعض الشّيء، لأنّ الأطفال في غالب الأحيان منحرفين؛ يعطون أجوبةً سخيفةً فقط لغرض المتعة، ويقولون عكس ما يفكرون به تماماً لمجرد أنهم يستطيعون ذلك. لذلك، كان لا بدّ من سحب الأوراق العلميّة بسبب ما يُسمّى المستجيبين المؤذيين. 

أما الباحثون الذين يدرسون المراهقين، فإنّهم يعانون من ذلك بدرجاتٍ أسوأ. في إحدى الدراسات، تبين أن 19% من طلاب الثانوية العامّة الذين ادعوا بأنّه تم تبنيهم كانوا يمزحون. في دراسةٍ أُخرى، ظهر أنّ 99% من الطلاب الذين قالوا إنّهم استخدموا أطرافاً صناعيّةً، لم يستخدموها حقيقةً. إنّ البالغين ليسوا منيعين أمام إغراءات التضليل أيضاً. يُشير المدوّن سكوت أليكساندر Scott Alexander إلى أن 4% من الأميركيّين يخبرون استطلاعات الرأي أنّهم يعتقدون بأن زواحف فضائيّة تحكم الأرض (7% آخرون يقولون إنّهم غير متأكدين). يقترح أليكساندر بأنّ علينا أن نُبقِي "ثابت ليزاردمان" -Lizardman constant 1ثابت ليزاردمان Lizardman Constant هو نظريّة علميّة غير رسميّة ترى بأن نحو 5% من المُستجيبين لأي استطلاع رأيٍ سيُجيبون على نحوٍ جنونيّ تماماً في بالنا في كل مرة نحاول أن نقدّر كمّ الناس الذين يحملون أفكاراً تبدو غريبة، أو الأخذ بالاعتبار عندما قامت بريطانيا بإعطاء المواطنين الفرصة لاختيار اسم لبعثة بحثيّة قطبيّة عن طريق التصويت، كان الاختيار الفائز بهامش مريح هو " Boaty McBoatface" (قام المسؤولون بتسمية السفينة R.R.S. Sir David Attenborough بدلاً من ذلك).

الجموح، الانحراف، الصلف؛ لطالما كان علماء النّفس مهتمّين بهذه القصص من الأفعال والأفكار المنطوية على مفارقات. يُمثّل الانحراف أُحجيةً مُحيّرة. إن ما وصفه إدغار ألن بو بـ"عفريت الانحراف" يبدو أمراً يصعب تفسيره علميّاً. 

قبل ما يقارب عشرة أعوام، أحرز عالم النّفس الراحل دانيل فينغر Daniel Wegner  تقدماً في ورقة نُشِرَت في مجلة Science، بعنوان: "كيف تُفَكِّر وتقول أو تفعل الشّيء الأسوأ في أيّ مناسبة". وَصَفَت الورقة تلك اللحظات المتناقضة عندما يُصبح الجهدُ المبذول لتجنّب فكرةٍ ما هو تحديداً ما يُرجّح ظهورها في وعيك. 

استلهم فينغر هذه الفكرة من ملاحظة قدّمها فيودور دوستويفسكي Fyodor Dostoyevsky في مقال بعنوان "ذكريات شتاء عن مشاعر صيف". يكتب دوستويفسكي بأن محاولة عدم التفكير بدبٍّ قطبيٍّ يجعل فرصةَ التفكير بواحدٍ أكثرَ احتمالاً. فحص فينغر هذه الظاهرة علميّاً، ووجد بأن محاولة عدم التفكير بدبٍّ أبيض تؤدّي إلى أن تطرأ فكرة الدبّ الأبيض في الذهن بمعدّل مرّة كلّ دقيقة. (في بعض الحالات، وبعد إنهاء التجارب، ظلّت الأفكار حول الدبّ الأبيض تعود لمدة أيام). وبشكلٍ مُشابهٍ، اكتشفت عالمة النفس ليان لاين Liane Lane وزملاؤها بأنه عندما يقال لك إنّ الأمر سريّ، قد يؤدي هذا في بعض الظروف إلى زيادة احتمالات الإفصاح عن السّر. اقترحتْ أبحاثٌ أخرى أنّ محاولة عدم التفكير في الصّور النمطيّة العرقيّة قد تجعل البشر أكثر وعياً بهذه الصّور، وقد يصل ذلك أحياناً إلى حدّ الاضطراب والقلق. 

يقترح فينغر بأن مثل هذه المحاولات لكبت الأفكار تتضمنُ عمليّتين ذهنيّتين مختلفتين. الأولى، ثمّة نظامٌ واعٍ يعمل باجتهاد لخلق النتيجة المرغوبة، على سبيل المثال، لإيجاد شيءٍ للتفكير به غير الدبّ الأبيض. الثانية، أن جزءاً من العقل يبقى متيقظاً لما يجري قمعه، فيُجري مسحاً لأفكار الدبّ الأبيض ليتمكّن من التخلص منها. في بعض الأحيان، وبالذات عندما نكون مُتعَبين أو مُشتّتين أو ثملين، فإنّ مهمة العملية الثانية تتسرّب إلى الوعي. الآن أنت تفكر وربما تتحدث عما كنت تحاول تجنّب التفكير فيه.

تؤثر هذه العوامل بشكلٍ خاصٍّ على الأطفال، وذلك بسبب عدم نضج قدرتهم على التحكم بالنفسّ. يخبرني صديقي بأنّ عائلته قررت عمل كعكة كمفاجأة له في عيد ميلاده، وقد نبّهوا ابنة أخته مراراً أن تحافظ على هذا السّر، وقد وافقت على ذلك؛ ولكن، ما إن دخل صديقي إلى المنزل حتى صرخت ابنة أخته: "لا توجد كعكة!".

تُفسّر مقاربة فينغر هذه الأفكار والأفعال الإندفاعية أنّها نتاج فشل التحكم. لكن هذه المقاربة لا تكفي لتفسير نوع السّلوك الذي يصفه كلّ من كالار وأوغسطين؛ أيّ السّلوك المُنحرف المُتعمَد، المُدرك لنفسه، والمُرضي بشكلٍ غريبٍ. إنّ قرار الاستلقاء في وسط الشّارع فوق الخطوط الصّفراء المزدوجة لا ينبع من خلل إدراكيّ، بل إنّها طريقة لبناء وجودٍ للذات ككيانٍ أصيلٍ ومُستَقِلٍ. ممكن أن نُسميها "انحراف وجوديّ". قد يسأل شخصٌ ما: إذا كنتُ أفعل فقط ما هو منطقيّ فما فائدتي؟ وما فائدة وجود وعيي؟ كلّ هذه الرغبة لتحقيق استقلال الذات قد تحفزّك على الخروج عن المألوف والمعقول والأخلاقيّ لِتُثبِتَ لنفسِكَ، وربما للأخرين، بأنك حرّ.

في كتاب "منتصف الحياة: دليل فلسفيّ"، والذي استعرضه الصحافيّ في مجلة The New Yorker، جوشوا روثمان العام الماضي، يحاول الفيلسوف كيران سيتيا Kieran Setiya تتبع العلاقة العميقة بين الاستقلالية والأفعال المنحرفة. يكتب سيتيا، فلنفترض أنّك مخيّرٌ بين الخيارات (أ) و (ب) و (ج)، فإنّك غالباً ستقوم بترتيبها أبجديّاً، مُفضّلاً (أ) على (ب) و (ب) على (ج). تخيّل الآن أنّك تُقدّر وتُثمّن مسألة امتلاكك فرصة الاختيار. سيضعك هذا في موقف -سخيفٍ حسب وجهة نظر سيتيا- تُفضّل فيه الاختيار بين (ب) و (ج) على أن تختار (أ) مباشرةً، رغم علمك المُسبَق أنّ (أ) هو الخيار الأفضل.

قد يبدو هذا النّوع من تفضيل الانحراف كسيناريو فلسفيّ مُفتعل، ولكن سيتيا قدّم مثالاً صلباً لمثل هذه الحالة، وهو من نسج رواية المؤلف جوشوا فيريز Joshua Ferris، "أن تنهض أمام ساعة لائقة" [“To Rise Against at a Decent Hour]. في هذه الرواية يحاول البطل أخذ قرار فيما إذا كان يريد إنجاب الأطفال أم لا، والتفكير عميقاً فيما سيكون مضطراً للتخليّ عنه، كأبّ. يُفكر البطل:

"لا مزيد من المطاعم ومسرحيات برودواي والمتاحف والمعارض الفنيّة أو أيّ من الفعاليات اللامحدودة التي تُتيحها المدينة. ليس الأمر أن ذلك مشكلة لا يمكن التغلب عليها عندي، خاصّة أنني كنتُ قليل الانغماس في هكذا فعاليات في الماضي. ولكنّها، مع ذلك، عاشت داخلي كخيارات، والخيارات شيءٌ مهم".

إنّ هذا النوع من التبرير مألوفٌ للكثيرين منا. ولكن سيتيا يَجِدهُ سخيفاً. يكتب سيتيا أنّ بطل الرواية "يرفض الفرصة [فرصة الإنجاب] كي يحفظ لنفسه فرصاً أخرى لن يأخذها، إنّه أمر غير منطقيّ".

على الصعيد المجتمعيّ، فإنّ الرغبة في ممارسة الاختيار قد تخلق حالةَ انحرافٍ جماعيّةً. لطالما دعا منظّرا السّياسة ريتشارد ثالر Richard Thaler وكاس سانستين Cass Sunstein إلى تبني فكرة "النكز"- أي أن نراجع بنيان قرارنا الذي يميل بطبيعته إلى تفضيل النتائج المنطوية على منفعة أكبر. 

قد تنكز مصلحةٌ تجاريّة ما موّظفيها عن طريق إدراجهم تلقائياً في خطّة إدخار للتقاعد (مع أنهم يستطيعون دوماً تغييرها)، أو قد يضع مقهى ما الأكل الأكثر صحيّةً في مكان بارز (مع أن الأكل غير الصحيّ ما زال متوفراً). يُشير ثالير وسانستين إلى أن هندسة الخيارات دائماً موجودة. يجب أن تذهب السلطات إلى مكانٍ ما، فلذلك ما المانع من إعطائهاً مكاناً محترماً؟ رغم ذلك، يجد كثيرون فكرةَ النكزات مزعجةً؛ يعترضون أن تتم صياغة خياراتهم، حتى وإن كان ذلك باتجاهٍ عقلانيٍّ.

إنّ سيتيا محقٌّ في أنّ الكثير من هذا غباءٌ. هناك القليل ليُقَال عن التصويت لمرشحٍ سياسيٍّ فقط لأن هناك أسباباً عديدة لعدم التصويت له؛ لا ينبغي لأحد أن يُعربد بتلويث البيئة فقط لأنّ هذا يعطي شعوراً بالسوء. عندما أصرّ البطل المجنون في رواية دوستويفسكي "مذكرات من العالم السُّفلي" على حرية الاعتقاد بأن اثنين ضرب اثنين يساوي خمسة، من الواضح أنه قد تمادى في هذا. وأعتقد بأن أغنيس كالار قد تكون بحال أفضل إذا امتنعت عن الاستلقاء في منتصف الطريق.

بالإضافة إلى ذلك، فإنّ التصرفات المنحرفة ليست بتلك الروعة التي يعتقدها الناس، إذا كنت مصرّاً على رؤيتها كـتمرد، فإنّها نفس النوع الذي يظهر في فيلم مارلون براندو "الجامح" The Wild One، حيث يسأله أحدهم: "جوني، ما الذي تتمرد عليه؟"، يرد براندو: "ماذا لديك؟". هذا الوثوق بالذات هو شيء متوقع، مثل الأطفال في عمر الرابعة، هؤلاء الذين يجعلونهم عرضة للتلاعب عن طريق علم النفس العكسيّ (إياك أن تأكل هذه الفاصوليا!). ينطبق الشيء نفسه على النقاد الذين يأخذون الأشياء المنطقيّة ويجادلون عكسها. (الموسم الأخير من لعبة العروش؟ لقد كان عظيماً)، إنّ الإنحراف حين يؤدّى على نحوٍ خاطئ يكون مجرّد تصيّد. 

ومع ذلك فقد يكون هناك شيء يحترم إذا استُخدِمَ الانحرافُ بشكلٍ سليم. الشخص المنحرف بطريقة صحيحة يقدّر قيمة المنطق، الأخلاق والحياة الجيدة، بعد ذلك يغضب ضدّهم، فيختار مساراً آخر. 

يتحدث علماء الأحياء التطوريّ أحياناً عن "وحوش واعدة": على الرغم من أن التطور يحدث عادة عند حصول تغييرات صغيرة في الخصائص الظاهرية مما يؤدي إلى نجاح تكون منتِج أفضل، فإنّ الوحوش الواعدة، والتي هي نتاج لطفرات كبيرة، تقوم بقفزات ضخمة داخل المساحة التطورية. يرى المنظرون بأن قفزات كهذه محكومٌ عليها بالفشل (ولكنها نظرياً قد تؤدي إلى خلق سلالات جديدة). إنّ الطريقة المعياريّة للشخص الذي يتخذ القرارات بعقلانية هي أن يأخذ بعين الإعتبار جميع البدائل، وأن يستقر على الخيار الذي يملك أعلى إحتمالية لتضخيم الشيء الذي يريد الشخص تضخيمه، وأن يحاول دائماً أن يتجنب الهفوات مثل القصور في توقع القادم، وضعف الإرادة، والأفكار الحالمة، والخوف والثقة الزائدة. 

ولكن ماذا إذا اخترت أحياناً أن تتصرف بطريقةٍ عشوائيةٍ وغير متوقعة؟ قد يكون هناك فوائد من جرعة صغيرة من الانحراف. على المستوى التنظيميّ، على سبيل المثال، قد يبدو منطقياً لمؤسسة مانحة أن تَصرِفَ أموالَها على المقترحات التي يعتقد خبراؤها أنها الأفضل، ومع ذلك قد يبدو منطقيّاً في نفس الوقت أيضاً أن تُخصِّصَ بعضاً من المال لليانصيب أو حتى لوضع تمويل بسيط للمقترحات التي يعتقد الخبراء بأنّها الأسوأ.

قد تكون التصرفات المنحرفة الصحيحة ممتعةً للمشاهدة، بالذات لهؤلاء الذين يميلون إلى أن يكونوا منحرفين ومهذبين. في العام الماضي استعمل الفنان بانكسي فرّامة ورق مخبأة لتقطيع لوحته "فتاة بالون" إلى شرائح بعد ثوانٍ فقط من بيعها في مزادٍ علنيّ في Sothebey's. لاحقاً، نشرَ اقتباساً على إنستغرام من الأناركيّ الروسيّ ميخائيل باكونين يقول: "الرغبة في التدمير هي أيضاً رغبة إبداعيّة" (بالخطأ نسب بانكسي الاقتباس إلى بابلو بيكاسو). إنّ أحد الكتب المفضلة لدي هي "إهدار مدنس"، وهو حصيلة تعاون بين الكاتبة جريتشين روبن Gretchen Rubin والمصورة دانا هوي Dana Hoey. الكتاب عبارة عن تجميع لصور تُظهِر التدمير المُبهِج لأشياء قيمة مثل إحراق فاتورة بقيمة مئة دولار، أو سكب شمبانيا فاخرة في فتحة المصرف. إنّ مجرد النظر إلى هذه الصّور يعطي المشاهد ما وصفته روبن بـ"الإثارة الخطيرة".

بالطبع فإن الأفعال المنحرفة التي يقوم بها الفنانون تحمل نوعاً من التمرد. على الأقل هناك نوع من الرسالة خلفها، إنّهم يساءلون القناعات التي تجمع بقيتنا، وبما أنهم عموميّون جداً، وكثيرو التواصل، وربحيون جداً، فإنهم بالطبع لن يشكّلوا مثالاً على الانحراف الخالص. ثمّة مثال أبسط أحبّه جداً، وهو مثال أحدث وأكثر سخافة. إنّه يخص المحاضر في جامعة كولومبيا الفيلسوف سيدني مورغينبيسر Sidney Morgenbesser، الذي اشتهر بنكاته ومزحاته. يقال إنّ نادلاً سأله في إحدى المرات عما يريده كتحلية، فطيرة تفاح أم فطيرة توت؟ اختار فطيرة التفاح ثم عاد النادل إليه ليقول له إنه يوجد كذلك فطيرة كرز،أجابه مورغينبيسر: "حسناً إذاً في هذه الحالة سآخد فطيرة التوت".



11 فبراير 2020
العتابا ذاكرة المغلوبين

ما من شيءٍ يُمكِنُه خدش ذاكرة الفلسطينيين في بلادنا، مثل ما يمكن لشعر العتابا أن يفعل. أو لِـنَـقُـل إنّ هذا…