6 يناير 2022

كيف تطوي عالَماً في كتاب:

قراءة في أحسن التقاسيم لشمس الدين المقدسيّ

قراءة في أحسن التقاسيم لشمس الدين المقدسيّ

هل من شيءٍ يجمعُ الجغرافيّ شمس الدين محمد بن أحمد المقدسيّ، ابن القرن الرابع الهجريّ، مع عرّاب القنبلة النوويّة، آلبرت آينشتاين؟ الجواب البديهي يبدو محكوماً بالنفي القاطع لولا انعطافة بالأقدار أواخر الحرب العالميّة جمعت الرجلين سوياً في صحيفة أميركيّة. عام 1944، نشر آينشتاين مرافعةً محمومةً دفاعاً عن الحركة الصهيونيّة وقيام دولة الاحتلال، واستشهد فيها بعبارةٍ للمقدسيّ قائلاً: "..وفي القرن العاشر، اشتكى الكاتب العربيّ، مُقدّسي، من أكثريّة اليهود السكانيّة في القدس".1آلبرت آينشتاين و إريك كاهلر، "العرب أفضل حالاً في فلسطين من الدول العربيّة"، جريدة برينستون هيرالد، المجلد 21، رقم 25، 28/4/1944، ص6.

ليس هذا مشهداً تراه كلّ يومٍ: فيزيائيٌّ ألمانيّ من القرن العشرين يتلاعب بنصٍ عربيٍّ من القرن العاشر كي يُبرّر لمشروعٍ استيطانيٍّ لا علاقةَ له بالفيزياء النظريّة ولا بجغرافيا العصر الوسيط. لا يَدينُ كتابُ المقدسيّ بشيء لهذا الاستشهاد المسيّس، لكنَّ الاستشهاد ذاتَه يشهدُ لقيمة الكتاب، "أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم"، ويذكّرنا بمعجزةٍ أثيرةٍ في النصوص الكبرى والكتابة العالية: أنّ شيئاً من حبرها يظل رطباً، ولديها ما تقوله حتى بعد ألف عام.

عن الفنّ والفضيلة في فعل الكتابة

ماذا حاول المقدسيّ أن يقولَ في كتابِهِ؟ قد لا يكون هذا سؤالاً مناسباً أمام كتابٍ قديمٍ في الجغرافيا وأدب الرحلات، فهذه أعمال وصفيّة ولا يبدو من هامشٍ كبيرٍ لكُتّابها كي "يقولوا" شيئاً. لكن الأمر مختلف في "أحسن التقاسيم".

كثيرةٌ هي الكتب التي أتت بها شهوةٌ للتكسّب ورغبةٌ في الصعود، وقليلةٌ تلك التي نَجَمَت عن حبٍّ عاصفٍ بين إنسانٍ وفكرة، والفرق هائلٌ بين من يكتب لأنّه راغبٌ بقول شيءٍ، وذاك المضطرّ لقول شيءٍ لأنّه محتاجٌ للكتابة. والمقدسيّ واعٍ بما يُـميّـز الفريقين، ويصف نفسَه بعبارةٍ موجزةٍ تفيض بالدلالة عندما يكتب: "ولستُ ممن يأكلُ بعلمِهِ رغيفَه"2المقدسيّ، أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم، تحقيق: ميخائيل دي خويّه، الطبعة الثالثة، (القاهرة: مكتبة مدبولي، 1991)، ص311.، ويخبرنا عن زهدِهِ المبدئيّ بالكتابة قائلاً: "ولو وجدنا رخصةً في ترك جمْع هذا الأصل ما اشتغلنا به، ولكن لمّا بلّغنا الله تعالى أقاصي الإسلام .. وَجَبَ أن ننهي ذلك إلى كافّة المسلمين".3المقدسيّ، ص241. وإمعاناً في هذا المعنى، يراجع المقدسيّ ما كُتِبَ قبلَه عن "المسالك والممالك" وعن جغرافيا العالم وأوصاف المدن والأقاليم، مؤكداً منذ البداية أنَّ "كل من سبقنا إلى هذا العلم لم يسلك الطريق التي قصدتُها"4لمقدسيّ، ص3.، ويمرُّ على أعمال الجيهاني والبلخي وابن الفقيه والجاحظ وابن خرداذبه،5باستثناء عمل الجاحظ المقصود، فالمصنّفات الأربع الأخرى وصلتنا كاملة. ويتسقّط عيوبها واحداً واحداً حتى يُـبـرِّر لكِتابه ويُشرّعُ الحاجةَ له. هذا التورّع عن الكتابة دون جديدٍ يستحق أن يُقال هو فضيلةٌ بذاتها، ولا شك أنّنا نعرف اليوم قيمتها، وأيَّ ثمنٍ ندفعه عندما تغيب.

على مقربةٍ من هذا الورع وفي مطلع الكتاب، يُقارب المقدسيّ سؤالاً شائكاً دون أن يَجهر به: كيف تكتبُ شيئاً ينفع المختص دون أن تُقصي به القارئَ العامّ؟ وكيف تضبط كيمياءَ الثنائيّة الشهيرة أمام قرائك: "الفائدة والمتعة"، فلا تَحرمَ المحترفَ من الأولى ولا الهاوي من الثانية؟ هذا توترٌ قديم تعرفه كلُّ كتابةٍ جادّة، وربما لم تنجح ألف عامٍ بعد المقدسيّ بحلّه، بل لعلّ التوتر زاد حدّةً مع التضخم الأكاديميّ وانتشار مراكز البحث والانتفاخ الهائل لمعاجمها الاصطلاحيّة. 

لكن المقدسيّ ليس موظفاً في مركز أبحاث، ولا ينتمي لنادٍ نخبويّ يُملي عليك كيف تكتب حتى يكون لك مقعدٌ فيه، وليس مضطراً لنشر شيءٍ حتى يصعد سلماً وظيفيّاً. المقدسيّ سيد نفسه الذي لا يخلط عِلمَه بخبزِه، وكلّ ما في رحلته يشهدُ بفردانيةِ رجلٍ خارجَ زحمة المعتاد. رجلٌ يعرف تماماً ما يريد ويذهب حرفيّاً "لأقاصي الإسلام" كي يأتي به. وعندما تحين ساعة الكتابة فهو وَفِـيٌّ مجدداً لفردانيته، فيكتب بطريقته ولا يستعير حِبره من دواةِ غيره. يَسهل على خيالٍ طليقٍ كهذا أن تزلّ قدماه فيتحول لهواً ويفقدَ جدواه المعرفيّة، لكن المقدسيّ يُشيد جداراً علميّاً غليظاً حول خياله، ويضبط نفسَه بنفسه. هذا التناقض الحميد هو شامةُ المقدسيّ، ولربما هي شامةُ القلّةِ المبدعةِ في كلّ مجال: ذاك التفلّت المنضبط، والجموح الخاضع -رغم جموحه- لنظامٍ داخليٍّ مرهف.

المقدسيّ واللغة

لا يُسرف المقدسيّ في المجاز عندما يرى عَمَلَه "يتيماً في نظمه"6المقدسيّ، ص241. فهو زاهدٌ –على خلاف أقرانه- بمغامرات رحلتهِ الطويلة، وليس حريصاً على سرد أهوالها وطرائفها. شمس الدين يَعقد حلقةَ علمٍ في كتابه، لا مجلسَ أسمارٍ وخيمة سَهَر. لكنه في الوقت ذاته يرغب بنصٍّ مِضياف، يتسع دهليزُه للمحترف والعاميّ على السواء، ولا تبعث قراءتُه على السأم. فماذا يفعل؟ 

الواقع أنّه يفعل أشياءً كثيرة، أبسطُها على الإطلاق أنّه يمزج بين أمرين (متناقضين في الظاهر): حِميَةٌ في النصّ، وحلوىً في اللغة. الحِميَة هي بالإيجاز وتنبيهه المستمر على ترك التفاصيل مخافة الإملال. والحلوى هي بقدرٍ من السجع ضمّنه على امتداد الكتاب رغم إدراكه عامّيةَ هذا الخيار. 

ويكتب بهذا المعنى معلّقاً على كثرة حكايا الترفيه في كتب سابقيه وابتعادهم عن الأصل العلميّ لأعمالهم فيقول: "ولم أستحسن أنا هذا، بل قد أوردت حكايات ومناظرات لائقة بما نحن فيه غير مُشغِلةٍ عن الموضع الذي نذكره، وربما سجعت في مواضع ليتفرّج إليها عوامّ الناس لأن الأدباء يختارون النثر على النظم، والعوامّ يحبّون القوافي والسجع".7المقدسيّ، ص5. هذه العبارة تظهر في مخطوط أسطنبول وتغيب عن مخطوط برلين. لكن الأمر لا يتوقف هنا، فاللغة عند المقدسيّ ليست لغةً وحسب، بل ظاهرةً تشبه قوى الطبيعة؛ تحتكّ بالواقع، فتنطَبَعُ به وتَطبع عليه.

على أبسط مستوى انفعاليّ، يُخبرنا المقدسيّ مثلاً عن "حرجٍ بالنيابة" يَشعرُ به أمام اللغة المَهيضة: "وكنتُ إذا حضرت مجلس قاضى القضاة ببغداد أخجل من كثرة ما يلحن".8المقدسيّ، ص183.) ويُودِع بمطلع كتابه معجماً مُصغّراً من صفحةٍ واحدة، يضمّنه المعاني التي تتبدل مفرداتُها بين الأقاليم (كالدولاب والزرنوق والحنّانة، واللحّام والقصّاب والجزّار، وثلاثياتٍ كثيرة غيرها. واللافت هنا ليس قائمةَ المفردات بطبيعة الحال، وإنّما إعلان المقدسيّ أنّه سيكتب عن كلّ إقليمٍ بلغة ذلك الإقليم، مستخدماً ألفاظ أهله وتعابيرهم و"نناظر على طريقتهم ونضرب من أمثالهم". وحتى يؤكد عنايته بالأمر، يوضح لقرّائه ما سيفعله في الفصول العامة التي لا تخصّ إقليماً بعينه، إذ سيكتب حينها "بلغة أهل الشام لأنها إقليمي الذي به نشأت"9المقدسيّ، ص32.. بمعنى آخر، لا يريد المقدسيّ أن يكتب عن الأقاليم وحسب، بل أن يستبطن كلَّ إقليم وهو يكتب عنه، ويلوّن أداةَ الحديث بموضوع الحديث؛ أن تكون الوسيلةُ مضمّخةً بغاياتها وأن يشي كل فصلٍ، في لغته وبنيته، بالمكان الذي يروي عنه. 

ليس من مجازفة كبرى في القول إنّ هذا قد يكون الكتاب الوحيد في التراث العربيّ (ولربما حتى في التراث العالميّ من تلك الحقبة) الذي يقدّم مناورةً لغويّةً مركّبةً وغريبة كهذه. لكن الغرابة لا تنتهي هنا، والمقدسيّ يذهب شوطاً أبعد في شد آصرة الوسائل بالغايات، فهو يبدو مقتنعاً –في موضعٍ آخر- أنّ لأسماء الأماكن أثراً في أمزجة سكانها، ويقول إنّ المدن التي تحوي حرف "الصاد" في مسمّاها يحمِلُ أهلها سمةً –سلبيّةً- بعينها، ويستعيذ بالله من سكان "صرصر" بالعراق لأنّ المثلبة التي فيهم مُضاعَفة بوجود صادين بدل الواحدة. لكنّ التساؤلَ مشروعٌ هنا عمّا إن كان المقدسيُّ جاداً تماماً في طرحه الأخير هذا، أم أنّه أَذِن لنفسه –رغم صرامته- بسطرين للترفيه وفكاهةٍ عابرة. من الصعب أن يجزم القارئ.

مِن إسلام الإيمان إلى إسلام المكان

ومرةً أخرى، ماذا يحاول المقدسيُّ أن يقول؟ طرفٌ من الجواب هو في لفظةٍ بعينها تتكررُ كثيراً في كتابه. يقف المقدسيّ أمام جامعٍ مهيب قائلاً "لم أرَ في الإسلام مثله"، ويؤلمه غيابُ الأنهار عن الرملة فيقول إنّه لولا ذلك "لما استثنينا أنها أطيب بلد في الإسلام"، ويتحدث عن باب مرّ به في إقليم المشرق لم يرَ مثله "في الإسلام باباً أجلّ ولا أهيب". لا شيء يسترعي الانتباه في القول إنّ للإسلام حضارةً بمدنٍ وأقاليم، لكن أن يغدو اسمُ الفكرة اسماً لمكانها، فهذا شوطٌ أبعد. 

"أحسن التقاسيم" هو كتابٌ عن الإسلام؛ إسلام المكان وإسلام الجغرافيا، وهو شاهدٌ مهمٌ على وعيٍ بفكرة الأمة رغم تعدد الممالك وتفرّق الطوائف، وكاتبه يُفهرس الناس بأماكنهم، وعلى كل مستوى تنظيميّ يُمكن تخيله: أقاليم، أمصار، رساتق، كور، وصولاً حتى للقرى. لكنّ الكِتاب ليس أطلساً شعبيّاً لمن أراد السفر في القرن الرابع.  هو أكثر من ذلك، وجزءٌ مهمٌ من العمل كان مُعارَكةً لمسألةٍ علميّة، نصفها في الجغرافيا ونصفها في الهندسة. مطالع هذه المسألة يقدّمها المقدسيّ مبكراً عندما يكتب: "اعلَم أن مملكة الإسلام -حرسها الله تعالى- ليست بمستوية فيمكن أن توصَف بتربيع أو طول وعرض، وإنّما هي متشعّبة، يَعرف ذلك من تأمّل مطالعَ الشمس ومغاربَها، ودَوّخ البلدان وعرف المسالك ومسح الأقاليم بالفراسخ".10المقدسيّ، ص62.

كيف تصف شيئاً متعرجاً وممتداً كهذا، يبدأ نهارُه في السند المشرقيّة، وتغرب شمسه –بتعبير المقدسيّ- "في حافة بلد المغرب، ويرونها تنزل في البحر المحيط"؟ تحتاج حتماً تقسيمَ المهمة إلى "تقاسيم"، وتلزمك طريقةٌ لِتُخفِّف احتقانَ الخارطة. ليس هذا التحدي مضمراً في ثنايا الكتاب، بل يُشهِرُه المقدسيّ باكراً جداً، وعلى مسافة صفرٍ من العنوان: "أحسن التقاسيم". لكن ما وجهُ الصعوبة في تجزئة مساحةٍ جغرافيّة، وهل يحتاج الأمرُ أكثر من مسطرةٍ ويدٍ جريئةٍ على رسم الخطوط؟ حتى يُقدّرَ المرءُ حقاً ما يفعله المقدسيّ، لا بدّ من فهم القيد الذي كان محتاجاً لكسره.

أمامنا رجلٌ يلج عالم الجغرافيا بإرثين كبيرين على كاهله، الأول آتٍ من الإغريق والثاني من الفرس، ويتعلقان بقسمة العالم وصناعة الأصناف الجغرافيّة. الإغريق شطروا الدنيا لقطاعات على خطوط العرض، سموها "كليما"، واختاروا في هذه الفلسفة الجغرافيّة أطوالَ النهار القصوى معياراً لقسمتهم وأداةَ تمييزٍ للأقاليم. وبهذا المعنى، فقد كانت قسمتهم باعتبارت الفَلَك. في المقابل، خلّفت حضارةُ فارس نظاماً يدعى "الكشوار" أساسُه قسمة الأرض لدوائرَ تامّةٍ ومتحلّقةٍ حول بعض، وبهذا كانت قسمتهم على اعتبارات الهندسة. وهكذا كان الأمر: الإغريق شطروا الدنيا بالفَلَك، والفرس قَسَموها بالهندسة. لكن الاثنتين سوياً، الفَلَك والهندسة، تقفان عاجزتين أمام "المملكة المتشعبة" حيث لا طول يصلح ولا عرض، والخارطة شديدة التعقيد. وتماماً كما كان الرياضيون الأوائل يعاركون مسألة "تربيع الدائرة"، فإن المقدسيّ عارك في كتابه مسألة "تربيع الإسلام"، لا بمعنى البحث عن مساحته وإنما بإيجاد قسمةٍ أنيقةٍ -وذات معنى - لشكله العجيب. 

معضلة البحر

لا يحتاج القارئ صبراً كبيراً حتى يدرك غاية المقدسيّ، فهو يفعل شيئاً لافتاً في مطلع كتابه: هو يُوْدِع كلَّ الكتاب في أول الكتاب، ويحكي كامل القصة قبل أن يبدأها. الأمر لا يتعلق بملخصٍ ولا فهرسٍ للمحتوى، بل بشيءٍ مختلف تماماً. فقبل أن يبدأ تشريحه لبرّ الإسلام وأرضه، يفتتح المقدسيّ كتابَه بمقالٍ علميٍّ عن البحر، ويمنحنا مسألةً مائيّةً في صفحتين تحاكي –بكثافةٍ قصوى- مسألة البرّ الممتدة في كتابه مئات الصفحات. سؤالٌ محدد يحاول شمس الدين أن يجيبَ عليه في مقاله القصير: كم بحراً في الإسلام، وكيف تُقسم كل هذا الماء؟ هذا النصّ العلميّ القصير، درّةٌ خفية من التراث العربيّ، وهو يحكي شيئاً قيّماً عن علاقة الدين بالعلم؛ شيئاً بعيداً عن الاختزال الفقير لهذه العلاقة بين القائلين بتشجيع الدين للعلم والقائلين بتعارض الاثنين. في نص المقدسيّ عن "بحار الإسلام" نرى تماسّ العالَمين، الدينيّ والعلميّ، ونسمع صرير الاحتكاك، ونشهد لحظةً ثمينةً لرجلٍ من القرن الرابع يمسك الخيطين سوياً، خيط المشاهَدة العلميّة وخيط النصّ المقدّس، ويحاول أن يَحيك بهما نسيجاً واحداً.

الصورة واضحة في ذهن المقدسيّ: هناك بحران في الإسلام، لا ثالث لهما؛ الصينيّ والروميّ، أو بلغة اليوم: المحيط الهنديّ والأبيض المتوسط.11"البحر الصيني" عند المقدسيّ مظلة تشمل كل البحار "الفرعية" المتصلة بالمحيط الهندي، كما في البحر الأحمر وبحر العرب. ولا يبدأ المقدسيّ مرافعته في المسألة قبل أن يُقدّم عرضاً لمعرفته الموسوعيّة عن البحار ويراجعَ الأقوالَ الرائجةَ عنها. ويخبرنا عن الخلاف في زمنه حول هيئة بحر الصين، وعن نظريتين شائعتين عنه: الأولى تُشَبّهه بالطيلسان والثانية تراه عصفوراً بمنقارٍ وذيل وأجنحة.12الطيلسان هو ثوب يضَعَهُ الرجل على كتفه ورأسه وظهره فوق الثياَب خالٍ عن التَفصيل والخياطة. والمقصود أن حدود هذا البحر تخط شكلا يحاكي الطيلسان، ورغم أنه لا يقدم تفاصيل، فالأرجح أن البحر الأحمر وخليج فارس هي "أكمام" الثوب، فيما امتداد المحيط الهندي هو متن الطيلسان.

لكن أسفار المقدسيّ البحريّة تركته في شكٍ من الأمر إلى أن قادته رحلته إلى اليمن. هناك، وعلى شاطئ في عدن، يسرد لنا مشهداً مسرحيّاً يجالس فيه تاجراً فاضلاً يدعى أبا علي، فيلحظ هذا الأخيرُ قلقاً في وجه المقدسيّ، ويسأله عما يشغله، فيشكو شمس الدين من الحيرة التي تملّكته حول البحر وحقيقته، ويسأل صديقه اليمنيّ إن كان يملك حلاً للغزِه. فيبشّره أبو علي قائلاً: "على الخبير بها سقطت"، ثم يمسح رقعةً من الأرض أمامه بكفه، ويرسم في الرمل خارطةً لبحر الصين، "لا طيلسان ولا طير"، خاتماً كلامه للمقدسيّ: "هذه صفة هذا البحر، لا صورة له غيرها". ويحفظ لنا شمسُ الدين تلك الخارطة وينقلها إلى كتابه.

ويعود المقدسيّ لسؤاله: كم بحراً في الإسلام؟ ويبني حجته انطلاقاً من الآية: "مَرَج البحرين يلتقيان، بينهما برزخٌ لا يبغيان"، ويُحمّل أل التعريف في لفظة "البحرين" وزناً دلاليّاً هائلاً فيعتبرها حسماً لتعداد البحار: اثنان على وجه القطع. ثم يدير حواراً متخيلاً مع خصوم رأيه ويفتح لنفسه مساحاتِ مناورةٍ عبر أداتين: واحدة في اللغة والثانية في الطبيعة. المقدسيّ يعرف أنَّ اللغة ليست وحدها التي تقبل التأويل، فالمشاهَدة العينيّة تُقرأ هي الأخرى بأكثر من وجه. هنا تحديداً تظهر قيمةُ نصِّ المقدسيّ في علاقة الدين بالعلم؛ في ذلك السعي لموقف يتعاضد فيه النصُّ المقدس مع المشاهدة التجريبيّة بأقل قدرٍ ممكن من التأويل. 

ويردّ المقدسيّ على أهم خصومه: أولئك المشيرون لسيناء بوصفها سدّاً يمنع التقاء الروميّ بالصينيّ، مُذكّرين أنَّ البحرين المذكورين في القرآن "يلتقيان"، بحسب منطوق المصحف، فكيف يمكن للآية أن تعني ما يزعمه شمس الدين؟ هنا، يستسقي المقدسيّ رده من النيل، فيشير لفرعٍ من هذا النهر يفيض لبحر القُلزم (البحر الأحمر)، وبه يتم اللقاء المذكور.13الغالب أن المقدسيّ كان يقصد ما يعرف بقناة الفراعنة والتي كانت تصل بين النيل والبحر الأحمر عبر وادي طميلات. هكذا، تنجو نظريةٌ بدأها المقدسيّ من النص الدينيّ بحبلٍ مَدّه لنجدتها بالمشاهدة التجريبيّة. 

وكمن نجح بصدِّ هجمةٍ ضاريةٍ عليه، يتحول المقدسيّ الآن للهجوم، ويفتح النارَ على جبهةِ معارضيه الثانية: أولئك القائلين أنّ "مَرَج البحرين يلتقيان" ما هي إلا وصفٌ للقاء نهرٍ ببحر، ولا علاقة للروميّ والصينيّ بها. ويُشهر هنا سلاحاً نصفه في القرآن ونصفه في الطبيعة، فيُذَكّر بالآية "يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان"، محتجاً أنَّ هذين العنصرين (اللؤلؤ والمرجان) لا يَحدُثان إلا في المياه المالحة ويغيبان في الأنهار، وعليه فإنّ البحرين المذكورين بالآية بحران بحرفيّة اللفظ، وليس من أنهارٍ في مقصد الله وآيته. بل وأكثر من ذلك، فالمقدسيّ يلمح شقاً مواتياً هنا كي يُمرِّر حجةً أخيرة لصالحه، فيستشهد بما يرويه "أهل العلم" من أنَّ اللؤلؤ يكثر ببحر الصين، والمرجان ينمو ببحر الروم، وهكذا يقاطع النص القرآني بالمشاهدة العلميّة كي يَدعم قوله الأول ويؤكد أن ليس في الإسلام (ولا في العالَم كله) إلا بحران.

فقيه الجغرافيا

هذه الأطروحة البحريّة نموذجٌ مصغّر لما يوشك المقدسيّ على فعله في بقية الكتاب، ولكن على البرّ هذه المرة. هنا يمسك شمس الدين مبضعاً فكريّاً ليَقسم به الإسلام ويحاولَ -في أثناء الجراحة- ألا يُدمي أطراف الأقاليم، فيحسبَ قريةً على غير مكانها ولا مدينةً خارج فضائها الطبيعيّ. تنتهي عملية التشريح هذه إلى 14 إقليماً يُميزها أنها ليست استنساخاً لتقسيمٍ إداريٍّ قائم في زمان المقدسيّ، ولا أدلّ على ذلك من أن إحداها "اختراعٌ مقدسيّ"، ليس بالحدود وحسب، بل وحتى في المسمى: (إقليم الرحاب).

المثير في مسألة المقدسيّ أنّه مدركٌ لخصوصيتها: أنها ليست مسألة مُطْلَقات، ولا يوجد حدّ واضح فيها بين صواب وخطأ، وأن فنّها هو فنّ المفاضلة بين الأدلة، والتأملُ الهادئ في الاعتبارات. ولذلك مجدداً، فهو لا يبحث عن القسمة الحقّ للإسلام، وإنما عن "أحسن التقاسيم"، ويقول في هذا المعنى "فلا عجب أن نرى نحن أيضاً في هذا العلم آراء، ويكون لنا فيه قياس واختيار".14المقدسيّ، ص270. ورغم أنه يوظّف خيالاً ثرياً فيما يفعله، إلا أنَّ المقدسيّ حريصٌ أن يبقى الأمر رهينَ المشاهدة العينيّة، وهو يُظهر حساسيةً كبيرةً تجاه المشافهة والنقل. فباكراً جداً في كتابه، يسرد طرفاً من المعاناة التي كابدها في أسفاره حتى لا يركن لكتابات غيره: "..فكم بين مَن قاسى هذه الأسباب، وبين مَن صنّف كتابه في الرفاهية ووضعه على السماع".15المقدسيّ، ص45. 

ويشحن المقدسيّ هذه الصرامةَ التجريبيّةَ ببُعدٍ دينيّ فيروي عن النبي عليه الصلاة والسلام قوله: "كفى بالمرء كذباً أن يُحدِّث بكل ما سمع"، وليس الخبر كالمعاينة. هذا المزاج الزاهد بالسماع والراغب بالمعاينة يُذكّر بنظيرٍ لاتينيّ موجودٍ حتى اليوم على مدخل أشهر جمعية علميّة عرفها العالم: الجمعية الملكية للعلوم في لندن. فعند تأسيسها في القرن السابع عشر، نُقشت على بوابتها عبارةٌ موجزة، باتت بمرور الوقت رمزاً لمجمل الثورة العلميّة وعنواناً لفلسفتها: إيّاك والسَّماع.16العبارة باللاتينية (Nullius in Verba) وترجمتها الحرفية: لا شيء مشافهةً. وكانت الترجمة الإنجليزية الشائعة للعبارة في أوساط الجمعية نفسها (Take no man’s word for it) ومؤداها إعلاءٌ لقيمة المعاينة التجريبية. وفي كل هذا فرصةٌ للتأمل في عافية الروح العلميّة المبكرة في الإسلام، وفي التعثر المرير الذي داهمها فيما بعد.

في تاريخ العلوم مسألةٌ تثير الباحثين دوماً: كيف ينطبعُ الإنتاج العلميّ بعناصر من خارجه، وكيف يتلوّن البحثُ بثقافة الباحث، فيختلط الاجتماعيّ بالعلميّ، ويفيض مجالٌ على مجال. في تاريخ الجبر مثلاً، لطالما أثارت أمثلةُ الخوارزمي الانتباهَ لكون أغلبها مسائل فقهيّة عن التركات والمواريث، وفي الفلك، كان تحديد القِبلة عند البيروني محطّ اهتمامٍ لأنه يُظهر تفاعلاً بين العبادات وحسابات الفلك. لكن المقدسيّ في المقابل يمنحنا أكثر من هذا، فما يجري بين الجغرافيا والفقه الإسلاميّ في (أحسن التقاسيم) ليس تماساً على الأطراف، بل انتشاباً من الوسط. 

المقدسيّ يُفكر فقهياً في الجغرافيا، ويستل من أصول الدين خوارزمياتٍ يحلّ بها معضلاتِ عِلمِه. في أصفهان، يمنحنا شمسُ الدين مثالاً مُركّباً على هذه المقاربة فالمدينة تبدو تائهةً بين إقليمين، إقليم فارس وإقليم الجبال، وتتوفر أسباب لاحتسابها على كلٍّ من الاثنين، فما الحل؟ هنا، يستل المقدسيّ سلاحاً نوعيّاً ويفعل به شيئاً مثيراً: يبحث عن نظيرٍ فقهيّ لأصفهان ويفتش عن مسألة في الإسلام فيها شيء يشبه مدينةً يتنازعُها إقليمان. ويستحضر المقدسيّ أكثر من مثالٍ دينيٍّ يحاكي –بظاهره- هذه الأحجية الجغرافيّة. 

يشير مثلاً للاختلاف الحاصل حول تصنيف الأذُنين في أحكام الوضوء؛ هل هما من الوجه أم من الرأس. ويعود لحكم الشافعي في المسألة "لمّا وقع الاختلاف هل هما من الرأس أو الوجه، فجعل لهما حكماً ثالثاً وماءً جديداً ومسحاً مفرداً، فكذلك أصفهان".17المقدسيّ، ص387. لا يورد المقدسيّ هذا القياس لأنه يجده مقنعاً وإنما للعكس؛ لأنه يجده مضللاً ويشعر بحاجة لتفنيده، فهو يرفض أن يُجعل لأصفهان "حُكمٌ ثالث" أو وضعٌ مفرد، فتُصنَّف خارج الإقليمين وكأنها نسيجٌ وحدها. ويشرح بتفصيلٍ وافٍ منشأ الفساد في هذا القياس كونه "يقيس فرعاً على أصل بلا علّة جامعة". 

أما القياس الأنسب عند شمس الدين فهو أكثر تعقيداً، ويتعلق بحكم "لمذاهب شيوخنا أهل العراق" عن تربية حيوانات منزليّة لا يتوفر قولٌ صريحٌ في أحكامها، إما لجهة طهارتها وإما لحرمة أكلها. فيحصل حينها القياس على الهرّ والكلب، لأن أحكامهما معروفة وثابتة، وقد يحصل أحياناً أن يُستخرج لذات الحيوان حُكمان، واحدٌ مستلٌ من القط والثاني قياساً على الكلب، "فيعطَى من كل أصل حكماً". وهكذا يجد المقدسيّ مَخرج معضلته: أن يعطي أصفهان من كل إقليم حكماً، فيُدرجها ضمن إقليم الجبال على صعيد الوصف والقسمة، لكنه يحفظ لها ارتباطاً بإقليم فارس ويبقيها ضمن خارطته ورسمه.

قدس المقدسيّ

بقي أمرٌ يستحقُ الانتباه حول المقدسيّ، وهو أقلّ الأشياء استتاراً فيه: مقدسيّته. الراجحُ أنَّ أقدم نصٍّ في التراث العربيّ يحمل حديثاً لرجلٍ عن "فلسطينيته"، بنبرة اعتزازٍ وتعلّقٍ وجداني، هو (أحسن التقاسيم). يروي شمس الدين مثلاً عن إقامته في رامهُرمز فيقول: "ودخلت على رئيسها أبي الحسن بن زكريّا وقد كان سكن فلسطين مدّة مديدة، فقال: لقد ندمت على مفارقة تلك الديار ورجوعي إلى بلد لا أرى به قرّة عيني".18المقدسيّ، ص477. وعلى إيقاعٍ نفسيٍّ شبيه، يخبرنا عن حوارٍ هندسيّ خاضه في شيراز مع بنّائين يحاولون قص بلاطٍ على خطوط مستقيمة، فتنكسر البلاطات أحياناً أثناء محاولتهم: "فقلت لهم: لو اتّخذتم مِسفنة وربّعتم الأحجار. وأحكيت لهم بناء فلسطين، وطارحتهم مسائل في البناء فقال لي الأستاذ: أنت مصريّ؟ قلت: لا، بل فلسطينيّ. قال: سمعت أن عندكم تُخرَّم الأحجار كما يخرّم الخشب. قلت: أجل. قال: أحجاركم ليّنة، ولصُنّاعكم لطافة".19المقدسيّ، ص440.

ويظهر الأمر بجلاءٍ أكبر عندما يكتب المقدسيّ عن مجلسٍ حضرَه بالبصرة مع القاضي أبي يحيى بن بهرام: "فجرى ذكر مصر إلى أن سُئِلتُ: أيّ بلد أجلّ؟ قلت: بلدُنا. قيل: فأيّها أطيب؟ قلت: بلدُنا. قيل: فأيّها أفضل؟ قلت: بلدنا.. فتعجّب أهلُ المجلس، وقيل: قد ادّعيت ما لا يُقبل منك. قلت: أما قولي أجلّ فلأنّها بلدة جمعت الدنيا والآخرة، وأما طيب الهواء فإنه لا سمّ لبردها ولا أذى لحرّها، وأما الحسن فلا ترى أحسن من بنيانها ولا أنزه من مسجدها، وأما الفضل فلأنّها عُرضة القيامة، ومنها المحشر واليها المنشر، وإنّما فُضِّلتْ مكّةُ والمدينةُ بالكعبة والنبيّ صلى الله عليه وسلم، ويومَ القيامة يزفّان إليها، فتحوي الفضلَ كلّه.. فاستحسنوا ذلك وأقرّوا به".20المقدسيّ، ص166-167. هذا المشهد الملحميّ لزفّةٍ سماوية تجمع بيت المقدس بكعبة الإسلام ورسوله ليس غريباً عن كتاب المقدسيّ، فهو صاحب التماعاتٍ أدبيّة وصورٍ باذخة الخيال.

اقرؤوا المزيد: "سجال آينشتاين وفيليب حتِّي عن الفكرة الصهيونيّة".

بعد هذه القصة تحديداً، وحرصاً منه على التوازن، يأخذ المقدسيّ بسرد عيوب مدينته، بيت المقدس، ويقول –بمزاجٍ مفهومٍ لرجلٍ من القرن الرابع الهجريّ- أنّها "قليلة العلماء كثيرة النصارى"، ثم يدخل لحظتها في وصْلةٍ سجعيّة يقول في خاتمتها: "والغني محسود، والأديب غير مشهود، قد غلب عليها النصارى واليهود".21المقدسيّ، ص167. هذه هي الجملة التي تحولت بعد ألف عامٍ من كتابتها، في مقال آلبرت آينشتاين، حجةً لقيام "إسرائيل". المفارقة هنا ليست واحدة بل اثنتين؛ الأولى، أنّ العبارة المذكورة –دوناً عن كل النص المحيط بها- هي حجةٌ على فكرة "إسرائيل" لا حجة لها وتحكي زمناً لم تُصنع فيه أكثرية القدس بالقهر والتهجير. والثاني هو في الحذف الواعي والمقصود للفظة "النصارى" من الاستشهاد المذكور، والذي بدونه ينقلب الاستشهاد فوراً على نفسه ويفقد وزنه الدعائيّ. 

هامشٌ أخير: آن للمقدسيّ أن يعود

أحسن التقاسيم ليس كتاباً وحسب. هو الكتاب والكاتب سوياً، ورغم أن كلَّ عملٍ يحمل شيئاً من مؤلفه فيه، فالأمر هنا له رمزيّةٌ خاصّة. لم يُخلِّف لنا شمس الدين أثراً سوى هذا المصنَّف، ولسببٍ يصعب فهمه تماماً، يغيب الرجلُ عن أدبيات زمانه وتراجم الأعلام22:B. A. Collins, Al-Muqaddasi: The Man and His Work, (PhD Dissertation), University of Michigan, 1971, p.12.، تبدو شمسُه في كسوفٍ مزمنٍ منذ أن تخلّقَت. وحتى إذا نظرنا لكتابٍ جغرافيٍّ آخر من الحقبة ذاتها، كعمل الإصطخري (المسالك والممالك)، فإنّنا نجد له 10 مخطوطات محفوظة لليوم على الأقلّ في مكتبات العالم، فيما لم يصلنا من عمل المقدسيّ سوى مخطوطين، وفي هذه الأعداد دلالةٌ –في الغالب- على سعة الانتشار وضيقه. ولا يحتاج الأمر درساً ميدانيّاً لندرك أنَّ أسماءً كياقوت الحموي وابن بطوطة تحتل اليوم متنَ ذاكرتنا الجغرافيّة، فيما المقدسيّ يبدو حبيس هامشٍ متواضع، وكثيرون لم يسمعوا به أصلاً. وكما أنَّ فرادةَ الكتاب هي من جوهر روعته، فلربما تكون أيضاً جزءاً من لعنته؛ هذه اللغة المتفرّدة والخروج عن المألوف والاجتراء على مجازفات الفكر وشقُّ الأنفاق الطويلة بين الميادين البعيدة، كل هذا لم يكن ليواتي الكثيرين. 

شاهدٌ صغير على ما نقول يظهر بإحدى هوامش "أحسن التقاسيم" (مخطوط اسطنبول)، حيث نجد شتيمةً خلّفها قارئٌ مجهولٌ بجانب تحليل المقدسيّ لمكانة أصفهان وقياسِه الفقهيّ عليها كاتباً: "أخزاه الله حيث ضيّع أوقاتنا بمطالعة تزريفاته ولم نقف على طائل". والواقع أنّ النفَسَ الجدلي الذي يعتمده المقدسيّ في طرح أفكارِه ويدير من خلاله حواراتٍ متخيَّلةً مع خصوم مفترَضين، يشي مجدداً بخلافية الرجل. وربما لا يكون ممكناً بالنهاية أن يقتحم المرءُ جديداً ويخرج عن الصفّ دون أن يدفع هذه الضريبة: أن يُدعى عليه بالخزي ويُرمى بالتزريف.

ما سرُّ استمرار هذا الكسوف؟ ثلاثة أسباب تجعل استحضار المقدسيّ اليوم حاجةً لا ترفاً أدبيّاً: الأول، تعلّقه بفكرة الأمة، ومزاجه التصالحيّ تجاه أبنائها على تباين طوائفهم، وتأكيده نقلاً عن أئمةٍ يجلّهم أنَّ "كل من صلى لهذه القبلة فهو من إخواننا المسلمين" وأن "هذا التعصب الذي تراه إنما ثوّره الجُهّال"23المقدسيّ، ص367.. والثاني، جرأته الفكريّة المنصوبةُ فوق صرامةٍ تجريبيّةٍ وحرصٍ بالغٍ على المعاينة والتحقق. والثالث ختاماً، مقدسيّته؛ ذاك التعلق الواعي ببلدٍ يُدعى فلسطين والمكانة الكبرى التي يوليها لبيت المقدس. هذه الأضلاع الثلاث لا ترسم مثلثاً عادياً، وإهمالها –كما هو الحالُ اليوم- تبديدٌ لرافعة رمزيّة كبرى.

ولمرةٍ أخيرة، فماذا حاول شمس الدين أن يقول في كتابه؟

في دمشق، كتب المقدسيّ عن جامع بني أميّة الكبير ومعماريته الباهرة، وحكى عن دهشته من رخام المسجد والعناية القصوى التي رُكّب فيها كي تبدو العروق التي في الرخامات وكأنّها على امتدادٍ واحدٍ ولا يظهر انقطاعٌ عند التقاء الحجر بالحجر، فيقول عن ذلك "..ومِن أعجبِ شيءٍ فيه تأليفُ الرخامِ المجزَّع، كلُّ شامةٍ إلى أختها".24المقدسيّ، ص158. ولعل في هذا الوصف العابر لرخامات الأمويّ شيئاً يحكي ما فعله المقدسيّ في كتابه؛ أنه –بفائض الخيال والكدّ- حاول أن يُآلفَ الإسلامَ المجزّع ، ويجمع شاماتِه على بعض.

==========================

خرائط المقدسي

يكتب المقدسي في تقديم كتابه: "وصوّرنا الأقاليم لأن المعرفة بها أروج" ويقصد بالتصوير هنا رسمَ الخرائط. إلا أن أكثر النسخ المتاحة اليوم عن "أحسن التقاسيم" لا تظهر فيها أي من تصاوير المقدسي، فأين اختفت؟

حقق المستشرق الهولندي م. دي خويّه كتاب المقدسي "أحسن التقاسيم" لأول مرة اعتماداً على المخطوطين الوحيدين المعروفين للعمل، ويُشار لهما عادة بـ (مخطوط أسطنبول) و(مخطوط برلين). صدرت الطبعة الأولى لهذا التحقيق عام 1877 ثم عاد دي خويّه لينشر طبعة ثانية عام 1906. لكن التحقيق لم يتضمن أياً من الخرائط التي رسمها المقدسي، سواء في نسخته الأولى أو الثانية. وعندما طُبع الكتاب لأول مرة في القاهرة (مكتبة مدبولي)، لم تتضمن النسخة مجدداً أياً من الخرائط، ولم يتغير الحال بالطبعات التالية، فقد كانت جميعها نسخاً طبق الأصل عن تحقيق دي خويّه، بما فيها هوامشها المكتوبة باللاتينية ودون ترجمة. أما في الطبعة التي قدّم لها شاكر لعيبي عام 2003 (رحلة المقدسي - دار السويدي والمؤسسة العربية للدراسات والنشر)، فإن الخرائط لا تَظهر على الإطلاق. ويقول اللعيبي في ثنايا تقديمه للكتاب متحدثاً عن الخرائط الوارد ذكرها (أو ما يسميها المقدسي أحياناً بالتمثيلات) فيقول "..سوى أن التمثيلات المشار إليها لم تصلنا للأسف الشديد".

ويبدو أنّ أقدمَ ظهورٍ جزئيّ للخرائط (خارج المخطوطين المذكورين) كان ضمن الأطلس الضخم لكونراد ميللر الصادر عام 1929 والمعنون (خرائط جزيرة العرب). لكن الحصول على هذا العمل أمر عسير. مرجع آخر تظهر الخرائط في فهرسه هو في رسالة الدكتوراة "المقدسي البشاري: حياته، منهجه" لعُدي مخلص والصادرة عام 1973 بالعراق، لكن الوصول لها عسير أيضاً.


وإذا ما عاد القارئ للمخطوطين الأصليين، فسيجد الخرائط ظاهرة على النحو التالي.

مخطوط أسطنبول: تظهر فيه 15 خارطة فقط. الخرائط هي بالألوان الدالّة التي يذكر المقدسي في نص كتابه أنه يستخدمها للرسم "..وحررنا طرقها المعروفة بالحمرة، وجعلنا رمالها الذهبية بالصفرة، وبحارها المالحة بالخضرة، وأنهارها المعروفة بالزرقة، وجبالها المشهورة بالغبرة، ليقرب الوصف للأفهام، ويقف عليه الخاص والعام". وبهذا، فخرائط مخطوط أسطنبول أقرب للأصل الذي رسمه المقدسي مقارنة بمخطوط برلين.

مخطوط برلين: يشمل 17 خارطة، ورغم أنها لا تشتمل في تنفيذها إلا على لونين، الأحمر والأسود، إلا أنها تشمل خارطة لبحر الصين وأخرى لبحر الروم، وهو ما يغيب عن المخطوط الآخر. بعض خرائط هذه النسخة مقلوبة الاتجاه مقارنة بنظيراتها في نسخة أسطنبول.

نقدم هنا، لأول مرة وعلى نحو شامل، كافة خرائط المخطوطين ضمن خارطة واحدة تفاعلية (اضغطوا على الخارطة أعلاه) تَظهر عليها أقاليم المقدسي الـ14، والتي تضم 6 أقاليم عربية و8 أقاليم أعجمية.

 



17 فبراير 2019
من يغفر ذنوبنا في السياسة؟

كُلما ذُكِرَت "إسرائيل" وألمانيا معاً، في أيّ سياقٍ كان، يُساق إلى المعادلة لفظٌ ثالثٌ لا يفارقهما أبداً: الشّعور بالذنب. من…