السؤال ببساطة: لماذا لا تزال الماركسيّة صالحةً لفهم عالمنا المعاصر، على الرغم من التغيّرات التي طرأت عليه؟
الإجابة ببساطة: ما زال ثمّة أغنياء، لأنّه ما زال ثمّة فقراء، مثلما ثمّة محقّقون، لأن ثمّة مجرمون. ولأن القضايا الجدليّة الهامّة (الاغتراب، وتطبيعُ الحياة الاجتماعيّة، وثقافة الجشع، والعكوف غير المكترث على اللّذات، والعدميّة المتنامية، ونزيفُ المعنى الدائم، وقيمة الوجود البشريّ وشكله) مدِينةٌ، كلّها، بدرجةٍ كبيرة للتراث الفكريّ الماركسيّ.
ينطلقُ المفكّر الماركسي تيري إيغلتون Terry Eagleton في كتابه "لماذا كان ماركس على حقّ؟" (دار الكتاب العربي، 2013)، من سؤالٍ يبدو كأنّه إشارةُ "قف" على طريقٍ ما: "ماذا لو أنّ الاعتراضات الأكثر ألفة على أعمال ماركس كانت غير محقّة؟".
يتعامل إيغلتون مع ادّعاءات مركزيّة في نقد نظريّات كارل ماركس، ويفنّدها بأسلوبٍ شيّق ونقديّ، وساخر في أماكن كثيرة. في عشرة فصول، يعرضُ إيغلتون عشرة ادّعاءات مركزيّة، ويردّ عليها بلغةٍ بسيطة، أدبيّة وفلسفية، انطلاقاً من أعمال ماركس. في هذه السطور، ملخّصٌ مقتضبٌ جدّاً لفصول الكتاب.
أوّلاً
الادعاء: انتهت الماركسيّة، لأنّها لم تعد قادرة، اليوم، على تفسير تحوّلات الرأسماليّة.
الرد: رأى ماركس أنّ الرأسماليّة دائمةُ التغيّرِ، ومفهوم التغيّر جوهريّ في النظريّة الماركسيّة. كيف يُمكن، إذن، أن تُفنَّد النظريّة بناءً على تغيّر الرأسماليّة؟ الماركسيّة نظريّة تطوّرت كنقد للرأسماليّة وكانت في تضادّ معها، وكان ماركس على وعيٍ كاملٍ بالطبيعة دائمة التغيّر للنظام الذي يبحثه.
لذلك، طالما بقيت الرأسماليّة، ستبقى الماركسيّة على نقيضها، وطالما تغيّرت الرأسماليّة وتطوّرت، سيكون على الماركسيّة أن تتطوّر أيضاً.
ثانياً
الادعاء: الماركسيّةُ قويةٌ نظرياً، لكنّها أدّت إلى جرائم فظيعة حيثما طُبّقت.
الرد: في الحقيقة، لم يتصوّر الماركسيّون إمكانيّة تحقّق الاشتراكيّة، في ظرفٍ تاريخي يفتقرُ إلى الشروط الاجتماعيّة المطلوبة. من جملة هذه الشروط: وعي الطبقة العمّالية بذاتها، ووفرة الثروة، والرفاهية الاجتماعيّة، والأمميّة.
يخالف هذا التصوّر بشكلٍ تامّ الستالينيّةَ التي حاولت فرض واقع اشتراكيّ، دون توفّر شروط الاشتراكيّة. أمرٌ أدّى فعلاً إلى جرائم تشبه تلك التي اقترفتها الرأسمالية. هذا بالإضافة إلى أن ماركس لم يدّعي إنجازَ مفهومِ مجتمعٍ كاملٍ وجاهز للتطبيق.
ثالثاً
الادعاء: الماركسيّةُ شكلٌ من أشكالِ الحتميّة. كلّ شيء بالنسبة إليها، بما في ذلك الناس، مجرّد أدواتٍ لتقدّم التاريخ.
الرد: الحتميّةُ التاريخيّةُ وصفةٌ للاسترخاءِ السياسيّ. لم يدعُ ماركس إلى ذلك قطعاً. حين التفكير في: ما الذي يميّز فكرَ ماركس عن غيره، يُصبح مفهوم الصراع الطبقي الأكثرَ قرباً من جوهره. إذ ألّح ماركس على الحاجة إلى الصراع الطبقي لتحقيق المساواة الاجتماعيّة، فما الحاجة إلى الصراع إن كان "الانتصار" حتميّاً؟
ربّما يُفهم من عبارة ماركس في "البيان الشيوعي" (1848): "تاريخ كلّ المجتمعات الموجودة في السابق هو تاريخ صراعات طبقية"، أن ذلك أمرٌّ حتمي في "التاريخ"، لكنّ ماركس لم يكن يقصد إلّا أنّ الصراع الطبقي أساسيٌ في التاريخ، فالبيان الشيوعي كان قصده الدعاية السياسيّة ليس إلّا. لقد آمن ماركس بانتهاء الرأسماليّة، شأنها شأن أي شيء آخر، لكنّ انتهاءها دون ثورة تُوجّهها سيُنتج ربّما بربريّة، لا اشتراكيّة.
رابعاً
الادعاء: الماركسيّة حلمٌ طوباويّ، تؤمن بإمكانيّة مجتمعٍ مثاليّ.
الرد: إن كانت الطوباويّة تعني مجتمعاً مثاليّاً، فسيكون الجمع بينها وبين الماركسيّة تناقضاً مفهوميّاً. لم يُظهر ماركس أيّ اهتمام بمستقبلٍ خالٍ من الألم أو الموت أو الانهيار أو المأساة أو العمل. الماركسيّة لا تبدي اهتماماً بالمستقبل بقدر ما تقدّم نقداً علميّاً للحاضر الرأسماليّ. الرأسماليّة -لا الماركسيّة- هي من تُتاجر بالمستقبل.
غير أنّ ماركس كان حذراً في التعامل مع المستقبل، وتناول شكله بطريقة مقتضبة. إنّ أفكاره "الطوباويّة" -كما يُقال عنها- هي أبعد ما تكون عن كونها مخطّطات للمستقبل، وأقرب إلى كونها استثماراً في خدمة الصراع السياسي الحالي. فالقول إنّ الأفكار السامية هي أفكار مثاليّة ولا تمتّ إلى الطبيعة الإنسانيّة بصلة، ما هو إلا طريقة للقضاء على أيّة محاولة لتغييرٍ جذريّ.
خامساً
الادعاء: الماركسيّة تُحوّل كل شيء إلى اقتصاد.
الرد: كلّ شيء يعود إلى الاقتصاد، هذا أمر بديهيّ. فحاجة الإنسان إلى الأكل والشرب تسبق كلّ شيء، وهذا شأن اقتصاديّ بامتياز. إنّ العمل الذي تدعو إليه الماركسيّة، يرتبط باستيفاء الشروط الأساسيّة للمعيشة والحضارة؛ أي أنّه عملٌ يهدفُ إلى خلق الرفاهيّة ووقت الفراغ، لذا فالحاجة إلى الاقتصاد ما هي إلّا حاجة إلى الابتعاد عنه.
سادساً
الادعاء: كان ماركس مادّياً، يعتقدُ أنّه لا يوجد شيء سوى المادة، ولم يكن له أيّ اهتمامٍ بالجوانب الروحانيّة.
الرد: الماديّة عند ماركس معناها: أن يبدأ التحليل من الوضع الإنسانيّ القائم في الحاضر، لا من أفكارَ غيبيّة مُبهمة. رأى ماركس في الإنسان مُنطلقاً للنظريّة، لكنّه لم يرَ فيه موضوعاً سلبياً، بقدر ما رأى فيه ذاتاً فاعلة.
لم يكن الإنتاج المادي بالنسبة إلى ماركس شيئاً مقدّساً، بل على العكس؛ إذ رأى أنه ينبغي إلغاؤه قدرَ الإمكان. كان ماركس يطمح إلى وقت الراحة، لا إلى وقت العمل؛ أي إلى كيف يعيش الإنسان بالطريقة الأكثر حرية.
سابعاً
الادعاء: إنّ أقدَمَ ما في الماركسية هو هوَسُها المُملّ بالطبقية. لقد تغيّرت الطبقة الاجتماعية، بشكل لم يعد بالإمكان معه التعرّف عليها باستخدام أدوات ماركس التحليليّة.
الرد: لم يُحدّد ماركس الطبقات الاجتماعيّة على أساس اللقب أو المكانة أو الدخل، بل بحسب موقعها داخل نمط إنتاجٍ معيّن. ولم يطرح شكلاً ثابتاً للطبقة: طبقتان اثنتان متناقضتان، بل رأى في اتّساع الطبقة الوسطى ما يؤثر على الطبقة العاملة، ورؤوس المال في آن.
كان ماركس يرى في الاشتراكيّة وريثاً لتركةِ الطبقة الوسطى، من حيث الحريّة والحقوق المدنيّة والازدهار الماديّ. انتبه ماركس، كذلك، إلى أنّ العمليّة الرأسماليّة ستجلب إلى فلكها عمّالاً تقنيين وعلميين، ما يعني أنها ستخلق طبقات اجتماعيّة جديدة تتلاءم والقطاعات التقنية والإداريّة الجديدة.
ثامناً
الادعاء: الماركسيون هم المدافعون عن العملِ السياسيّ العنيف.
الرد: اعتقد ماركس أنّ بعض الثورات قد تُنجَز بشكلٍ سلميّ، ولم يكن معادياً للإصلاح الاجتماعي. على صعيدٍ آخر، يُمكن للرأسماليّة أن تنهار تحت تناقضاتها الداخليّة، دونَ أيّ دفعٍ من معارضيها؛ أي دونَ عنفٍ، إلّا أنّ بديلها في مثل هذه الحالة قد لا يكون الاشتراكيّة.
تاسعاً
الادعاء: تُؤمن الماركسية بدولةٍ كليّةِ السلطة، وبما أنّ الاشتراكيين ألغَوا الملكيّة الخاصّة، فإنهم سيحكمون بوسائل سلطة استبدادية؛ أي أنّ هذه السلطة ستضع حدّاً للحريّة الفرديّة.
الرد: كان ماركس عدواً لدوداً للدولة، بوصفها أداةَ عنفٍ، لا شكلاً إداريّاً. كيف يكون، إذن، متحمّساً لحكمٍ استبداديّ؟ احتجاج ماركس وُجّه ضدّ نوعٍ معيّن من السلطة، التي تدعم سيادة طبقة اجتماعيّة تُسيطر على باقي المجتمع. ليست السلطة هي المهمّة في نهاية المطاف، بل الإطار التاريخيّ الأوسع: ما المصالح الماديّة التي تخدمها؟
عاشراً
الادعاء: كل الحرّكات الراديكاليّة، مؤخراً، هبّت من خارج الماركسيّة.
الرد: مُعظم الحركات الراديكاليّة: النسويّة، الحفاظ على البيئة، وغيرها... هي حركاتٌ مضادة للرأسماليّة، وبالتالي، تتفق في أساسها بشكل من الأشكال مع الماركسيّة. كما أنّ آراء ماركس حول الطبيعة والبيئة كانت سابقة لزمانها، ولم يكن هناك من هو أشدّ عزماً وصدقاً فيما يخصّ حركة تحرّر المرأة، أو الصراع من أجل التحرّر من الاستعمار... من الحركة السياسيّة التي ولدت من أعماله. [للمزيد، أنظر أيضاً "ماركس 2020" (المتوسط، 2018)]