17 ديسمبر 2022

كرة القدم في الضفّة.. عن معانٍ فقدناها على الطريق

كرة القدم في الضفّة.. عن معانٍ فقدناها على الطريق

لم تكن كرة القدم في الحارة رياضةً بدنيّةً ولعبةً شيّقةً فحسب، فهذا اختزالٌ لكرة تكوّمت حولها معادلةٌ اجتماعيّة عناصرها السلطة والسمعة والحضور، وعلاقات قوى تتخفّى وراء سحرِ الطابة المُستديرة. يُدرك أولاد الحارة ذلك جيّداً كما لو أنّهم رجالُ سياسة، فاللاعبُ الماهر يتربّع عرش الشلّة، ويُصبح كما لو أنّه علامة تجاريّة معروفة أو "إنفلونسر" مشهور يُمارس تأثيره على الآخرين، فيكتسب قوّته بين أولاد الحارة لا من أثر يديه على الوجوه، بل من أثر قدميه على الأفئدة.

فهذا درويش، تأسره قدما باولو روسي، فيحوّلها إلى كلمات: "رجل لا يرى في الملعب إلا حيث ينبغي أن يرى. شيطان نحيل لا تراه إلا بعد تسجيل الهدف، تماماً كالطائرة القاذفة لا تُرى إلا بعد انفجار أهدافها". وذاك إدواردو غاليانو، يغلي من هول ما يفعله باجيو في الملعب، "فكرة قدم روبيرتو باجيو تتضمن سحراً سرّياً: الساقان تفكران وحدهما، والقدم تشوط من تلقاء نفسها، والعينان تريان الهدف قبل حدوثه".1إدواردو غاليانو، ترجمة: صالح علماني، كرة القدم بين الشمس والظل، (2011)، لندن: دار طوى للنشر والتوزيع.

قد ترى يا عزيزي أنّ الأدباء بالغوا في وصف الكرة وتقدير سحرها، لكنّ السياسيين والاقتصاديين بالغوا أكثر، وإلا فما المبرّر للأرقام الفلكيّة التي يتقاضاها اللاعبون، وما المنطق وراء صرف أكثر من 200 مليار دولار على مونديال؟ أما فيما يخصّ سحرها، فذاك متروك لأمر الكهرباء التي تسري فجأة في الجسد عند تسجيل الهدف.

وما بين الحارة والمونديال، كُراتٌ كثيرة مُخيّطة بإبرة السياسة وخيط الاقتصاد والثقافة على قطعة قماش المجتمع. ولفلسطين، بوصفها أرضاً مُستعمرَة ومجتمعاً مُقهوراً وحكاية منهوبة، سياق خاص يفتّح الأعين على واقع كرة بين سلطتين. فكرة القدم خلافاً لما يعتقدهُ كثيرون: لا يركضُ خلفها اثنان وعشرون لاعباً رياضيّاً، بل كذلك كثيرٌ من اللاعبين غير الرياضيين.

أطفال فلسطينيون يلعبون كرة القدم بالقرب من أنقاض أحد المباني في مخيم شاتيلا للاجئين، جنوب بيروت، شباط 1988. (وكالة الصحافة الفرنسية).

الحارة

قبل أن يتحوّل الهاتف الذكّي و"البليستيشن" إلى أدوات اللعب الأساسيّة للأولاد، وقبل أن تجتاح السيّاراتُ الشوارع والأزقة، كانت جميع المساحات في الحارة أماكن محتملةً لتصير ملعباً؛ الشارع وقطعة أرض أهملها صاحبُها ومدرسة ليس على بابها حارس. 

وقبل عدّة سنين، كان الدارجُ أن تُقام دوريّات كُرة القدم في ملعب المدرسة. كان الأولاد يقفزون عن السور ليتمتّعوا باللعبة، إذ نادراً ما تكون البوابة مفتوحة. تدعو حارة معيّنة لإجراء دوريٍّ في مدرسةٍ عندها، وغالباً ما كان الدوري يحمل اسم شهيدٍ ما. وبعد جمع الاشتراكات من فرق الحارات (50 شيكلاً مثلاً)، تُجري كلّ حارة تحويراً في اسم فريقها؛ فمن الحارة الغربيّة في طولكرم مثلاً إلى فريق الشهيد زياد دعّاس، أحد قادة كتائب شهداء الأقصى في المدينة. 

اقرؤوا المزيد: "التجربة التي أُجهضت: الحركات الطلابية في مدارس الضفّة".

لم تكن المسألة في أن يحمل الدوريُّ بُعداً وطنيّاً، بل في كون اللعبة تمثيلاً لشيء أسمى من الترفيه، فالقتال في الملعب يصير ذا معنى مختلف عندما تضع بين عينيك شهيدَ حارتك الذي تمثّله. وعند هذه اللحظة، لا يغدو الشهيد منسوباً إلى فصيله السياسي، بل إلى حارته التي أحسنت عزاءَه حين انتصرت في اللعبة. وبهذا المعنى، فإنّ الانتماء للحارة ولعبتها الأبرز (الفطبول) ليس انتماءً جامداً لمعالمها الجغرافيّة وقطعة قماش، ولكنّه انتماء هويّاتي لسياسة مفقودة واجتماعٍ منشود. 

أطفال فلسطينيون يلعبون كرة القدم على أطراف شارعٍ في نزلة عيسى، في طولكرم، بالقرب من الجدار الإسرائيلي الفاصل/ تموز 2004. (Getty Images).

الجامع

في فترة ما قبل عام 2007، كان الجامع مؤسسة اجتماعيّة تعجّ بالفاعليّة وليس فقط دار عبادة. جاء أمير الجامع إلى أولاد الحارة، ومعه شنطة فعاليّات رياضيّة وثقافيّة منظّمة وأكثر إغراءً من عشوائية الحارة، وكان العقد الضمنيّ الأوّل بين الطرفين ألا يكون اللعب ممارسةً مُحلّقة بالهواء دون ضوابط، فالشتم ممنوعٌ والاحترام المتبادل واجب، والأهم من كلّ ذلك الالتزام بالصلاة الجماعيّة في المسجد.

لعب الأولاد كرة القدم وتنس الطاولة والشطرنج والفنون القتاليّة، وصار لهذا اللعب فريق يحمل اسم المسجد. وعندها، أخذت كرة القدم طابعاً جدّياً، زاد من أهمّيتها بالنسبة للأولاد وأضاف عليها أبعاداً أخرى. في تلك اللحظات، تحوّلت الكرة من لعبةٍ إلى ما يُشبه الحِرفة، والتي تحتاج إلى ما هو أكثر من "فطبول أبو الـ10 شيكل"، كالطابة اليابانيّة "ميكاسا"، وإلى "تيشيرت" موحّد، والأهم من ذلك إلى التدريب والتمرين والإعداد المسبق للمشاركة في الدوريّات التي تتنافس فيها فرق الجوامع، أو في المباريات التي يتنافس فيها فريق الجامع، الذي يحرّكه دافع الإيمان مربوطاً بالخير الذي تحمله ممارسة الرياضة، مع فريقٍ آخر يُحرّكه إغراءُ الكرة وامتيازات النادي الذي يلعب معه. 

كان ذلك يحظى بتغطيةٍ إعلاميّة متواضعة، لم يكن الأولاد الذين صار اسمهم "أشبال الجامع" يعرفونها في الحارة. وكان الجامع حيّزاً مضبوطاً لخليّة نحل نشطة، لم يكن ثمّة أحد ليستثمرها من قبل في الحارة. وصارت كرة القدم الوسيط الرئيسي الذي من خلاله يُستقطب الأعضاء الجدد للجامع والفريق. لقد فهمت الحركات الإسلامية وهي تدير المساجد أنّ كرة القدم تكتسب شعبيّةً واسعة، وأنّ بإمكانها أن تُشكّل وسيلة استقطاب دينيّ، ومن ثمّ سياسيّ. ولكنّ الكرة لم تكن فقط وسيلة، بل كانت كذلك مسنودة بأدبيّات دينيّة تحثّ على الرياضة وتُعلي من شأنها لحدّ العبادة، فكما بالحديثين النبويّين: "المؤمن القويّ خيرٌ وأحبّ إلى الله من المؤمن الضعيف"، و"إنّ لجسدك عليك حقّاً". 

اقرؤوا المزيد: "البكاء على أطلال الحارة".

هكذا، تكوّنت نواة شباب المسجد الدعويّة من شبابٍ يلعبون كرة القدم. ولم يكن امتزاج الدين بالرياضة مقتصراً على ارتداء اللاعبين "الشورتات" الطويلة أو على سجودهم بعد الهدف، بل عنى أيضاً أن يتجاوز اللاعب وظيفته المخصوصة بالرياضة إلى فردٍ فاعل له أدوار اجتماعيّة أخرى مثلَ تحفيظ القرآن والتجويد وإدارة الأنشطة. وكان هذا الدمج أشبه ما يكون بنقدٍ عمليّ على دعاوى الفصل بين الرياضة والدين أو بين الرياضة والسياسة. 

أطفال يلعبون كرة القدم في مدينة غزة، ضمن برنامج مخيم صيفيّ نظمته حركة "حماس" للفتية، آب 2005. (Getty Images).

وَقَفَ الجامعُ كمؤسسةٍ اجتماعيّةٍ في وجه الحارة كمكانٍ محتملٍ للانفلات من أي ضوابط اجتماعيّة ودينيّة. كانت كرة القدم أكثر من وسيلة، فعبّرت عن فلسفة الحركة الإسلاميّة بالعموم؛ كيف يُفهم الفرد؟ وكيف تُفهم الشريعة؟ وكيف تفهم الرياضة؟ وكيف تفهم السياسة؟ 

ظلّ الجامع هكذا حتّى نهاية الانتفاضة الثانية، عندما شنّ الاحتلال والسلطة حملةً شرسةً على جميع ما هو إسلامي، فأغلقت أكثر من 130 جمعيّة خيريّة في الضفّة الغربيّة، كانت من ضمنها أندية رياضيّة واجتماعيّة. وربّما كان الجامع أهمّ مؤسسة تضرّرت، ومُنع أول ما مُنع ممارسة أي نشاط دينيّ أو ثقافيّ أو رياضيّ تحت سقف الجامع، ووُجِهت أي محاولات لاستعادة الفاعليّة فيه بالاعتقال، وصودرت حتّى طاولة التنس ورقعة الشطرنج. أما لاعبو فريق المسجد، فتشتّتوا بين النوادي أو أخذتهم الحياة إلى شؤونها.

 الصالة

إن كان الملعب فيما مضى هو الأرضية المُعبّدة، سواء في شارع أو مدرسة أو نادٍ، فإنّه اليوم صالة رياضيّة أو مساحة من عشب صناعيّ مهيّئة للعب كما الوقوع.2غالبية الملاعب في فلسطين هي ملاعب خماسية وسباعية، ومن النادر أن يلعب الفتيان والشبان على ملاعب تتسع لـ11 لاعباً إلا في وقت متقدم من مسيرتهم الرياضية. أذكر أنّ صالتنا التي تدرّبنا فيها ولعبنا على أرضيتها ونحن صغار، كانت بتمويل سخيّ بلغ المليون دولار من وكالة التنمية الأميركية (USAID)، وقد افتتحها عام 2010 سلام فياض الذي كان رئيساً للوزراء في حينه. 

مجموعة من الفتية الفلسطينيين يلعبون كرة القدم، في ساحة خالية بالقرب من منازلهم في مدينة غزة، تشرين الأول 2001. (Getty Images).

كان فيّاض هو عرّاب "الإصلاح الاقتصادي"، الشعار الذي مشى جنباً إلى جنبٍ مع شعار "الإصلاح الأمني"، وذلك في نهايات الانتفاضة الثانية، بعد استلام أبو مازن رئاسة السلطة الفلسطينيّة. وما عناه هذان الشعاران حينئذ، هو ضمان ألا تتكرّر الانتفاضة من خلال ملاحقة سلاح المقاومة والقضاء على كلّ ما يمكن أن يفيد في صمود المجتمع من بنىٍ تحتيّة. في تلك اللحظات، أُغلق عدد من المؤسسات المُجتمعيّة الفاعلة، وسُرق بعضها الآخر بعد أن صار أصحابها والمؤتمنون عليها في السجن. ومقابل ذلك، سُمح للبنوك أن تسرح وتمرح في سوق ناسه ضعفاء سياسيّاً واجتماعيّاً واقتصاديّاً، كما فتحت البلاد على مصراعيها أمام التمويل الأجنبي.

اقرؤوا المزيد: "لجان الزكاة.. فصلٌ من تدمير العمل المجتمعي".

جرى على الرياضة، وكرة القدم تحديداً، ما جرى على غيرها. أُعيد تدوير وظيفة جبريل الرجوب من مهمة ملاحقة وتعذيب المقاومين بعد أن كان رئيساً لجهاز الأمن الوقائي، وصار ذو الخلفيّة الأمنيّة فجأة رئيساً للاتحاد الفلسطيني لكرة القدم عام 2008، ورئيساً للمجلس الأعلى للشباب والرياضة، ورئيساً للجنة الأولمبية الفلسطينية، وكذلك رئيساً لجمعية الكشافة والمرشدات الفلسطينية.

صار لعب كرة القدم ممنوعاً على غير الأندية التي بات ولاؤها للسلطة، وصارت الأندية في غزّة كما الضفّة تتقاضى منحاً سنويّة مخصّصة للرياضة من محمود عبّاس، كما لو أنّها فصائل منظمة التحرير. وصار جلّ اهتمام هذه الأندية هو الدخول والمنافسة في الدوري "الفلسطيني للمُحترفين"، الذي انطلق في عهد الرجوب عام 2010.

بهذا لم تعد لكرة القدم فلسفة اجتماعيّة وسياسية، وأُريد لها أن تكون منزوعة السياسة، وليس كلّ أنواع السياسة؛ بل تلك التي لا تتساوق مع سياسة الحزب الحاكم. ففي عام 2012، دعا الرجوب إلى الوقوف دقيقة صمت على أرواح 11 رياضيّاً إسرائيليّاً قُتلوا من قبل فدائيي "أيلول الأسود" بعد اختطافهم من أولمبياد ميونخ عام 1972. وفي مقابلة له مع قناة إسرائيلية وضّح الرجوب شكل الرياضة التي يرغب بالترويج لها: "من الأفضل للقضية الفلسطينيّة أن يرى العالم الفلسطينيين بالشورتات وليس وهم ملثمين؛ فالهدف هو سياسي وليس رياضي… من الأفضل أن يروا صبايانا بالشورتات وليس بالحجاب".  

هكذا، حوّلت السلطة كرةَ القدم من انتماءٍ أُفُقه واسعٌ ورحب إلى آخر ضيّق وميّت. نُزعت عن كرة القدم الفاعليّةٌ المُرتبطة بالمُمارسة، وجُمّدت بالشعار والترميز (كعادة كلّ شيء تضع السلطة يدها عليه) فالمنتخب الفلسطيني صار اسمه "الفدائي"؛ ولكنّه فدائيّ بدون لثام! 



13 مايو 2018
النكبة بنفخة اليرغول

يعنّ أبو سلمان عنّة القصب المقلوع، من رملِ ساحلِ الزيب المفجوع. غبارُ الدهر يغطّي رأس صاحبنا، وترجُف أصابعه بوتيرة أسرع…