13 مارس 2021

آداتشي.. الياباني الذي كان مُتحدثاً باسم الجبهة الشعبيّة

آداتشي.. الياباني الذي كان مُتحدثاً باسم الجبهة الشعبيّة

وهما في طريق عودتهما من مهرجان "كان" السينمائي المُقام في فرنسا عام 1971، قرّر أحد أهمّ مخرجي الموجة الجديدة اليابانيّة ماساو آداتشي Masao Adachi بصحبة زميله المخرج كوجي واكاماستو Koji Wakamatsu زيارة مخيّمات اللاجئين الفلسطينيين في لبنان. هناك تعرّفا على مناضلين في الثورة الفلسطينيّة ومناصرين يابانيين لها، وأعدّا فيلماً وثائقيّاً عن الثورة. 

كان السؤال الذي يشغلُ الفيلم هو: "أين تكمن الحدود الفاصلة بين فيلم "حول" النضال وفيلم "في" النضال؟". لم يستطع آداتشي في تلك الزيارة العثور على إجابةٍ للسؤال، ما دفعه للعودةِ مرّةً أخرى إلى المخيّمات الفلسطينيّة في لبنان وقضاء ما يُقارب 27 عاماً في صفوف "الجيش الأحمر الياباني" و"الجبهة الشعبية"1الجيش الأحمر الياباني: منظّمة ثوريّة متفرّعة من الحزب الشّيوعي الياباني، هدفت إلى تقديم الدعم للشّعوب المضّطَهَدة في العالم، وإشعال ثورةٍ عالميّةٍ ضد الظّلم الذي تفرضه القوى الاستعماريّة والامبرياليّة في العالم.. فمن هو ماساو آداتشي؟  ولماذا يختار مخرج في أهميته الفنيّة واختلاف سياقه الجغرافيّ والاجتماعيّ والسياسيّ عن القضية الفلسطينيّة أن يتركَ عالم السينما لينخرط في صفوف الثورة الفلسطينيّة، ليس كمخرجٍ فحسب، بل أيضاً كمناضل ومتحدثٍ رسميّ باسم الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين؟

الولادة من الهزيمة

ولد آداتشي عام 1939 في محافظةٍ تُسمّى فوكوكا في اليابان، والتحقَ ببرنامج دراسات الأفلام في جامعة نيهون عام 1959. أخرج العديد من الأفلام التجريبيّة التي لاقت استحسان النقّاد مثل: وعاء الأرز Rice Bowl, 1961، قبل أن ينتقل إلى إعداد أفلامٍ سياسيّة بتوليفة الـ Pink Films2ظهرت الأفلام الوردية pink films لأول مرة في اليابان في بدايات الستينيات، وسيطرت على السينما اليابانية المحلية لغاية منتصف السبعينيات. وهي أفلام بمحتوى إباحي، غالباً ما تكون بميزانيات ضئيلة ومعدّة للعرض في دور السينما. استغل العديد من المخرجين هذا النوع من الأفلام لتمرير قضايا سياسية واجتماعية شائكة للجمهور، إذ لم تكن خاضعة لنفس معايير الرقابة السينمائية الصارمة في اليابان فيما يتعلق بالمحتوى السياسي حينها. من أهمّ مخرجي هذا النوع؛ كوجي واكاماتسو.، نذكر من أهمّها: عصابات الطالبات (Female Student Guerillas, 1969)، الذي تنبّأ بوقوع المواجهات الحادّة بين الشرطة اليابانيّة والطلبة عام 1972. في تلك الفترة، كانت التظاهرات الطلابيّة المناهضة لتوقيع المعاهدة "الأمنية اليابانية - الأميركية3تم توقيع المعاهدة عام 1951 بغرض إنشاء تحالفٍ عسكريّ بين الولايات المتحدة واليابان، والذي يتيح للولايات المتحدة بناء قواعد عسكرية في اليابان، وممارسة سلطتها "للحفاظ على السلام" في منطقة شرق آسيا حتى فيما يتعلق بالنزاعات المحلية في اليابان. تم تعديل الاتفاقية عام 1960 لجعلها أكثر تكافؤاً، بحيث أصبحت مسؤولية حفظ السلام مسؤولية مشتركة بين الدولتين، مع أهمية إبلاغ اليابان بأي تحرك أميركي عسكري قبل تنفيذه. إلا أن التعديل لم يؤثر على تواجد القواعد العسكرية الأميركية التي اعتبرت أساسية في "حفظ السلام" في المنطقة. في أوجّها في اليابان، وكان آداتشي الذي رأى في عمله السينمائي جزءاً لصيقاً بنشاطه السياسي، فاعلاً فيها. 

لم تستجب الحكومة اليابانيّة للتظاهرات الطلابيّة، فوُقّعت المعاهدة الأمنية. حدثٌ ترك في نفس آداتشي وجيله شعوراً بالهزيمة واليأس حيال دورهم في مقاومة الهيمنة الإمبرياليّة الأميركيّة على اليابان. آنذاك، كان الاهتمامُ العالمي موجّهاً نحو حركة السلام الفيتناميّة، فيما كان اهتمام آداتشي موجّهاً إلى القضية الفلسطينية؛ اهتمامٌ دفعه لاحقاً لزيارة المخيّمات الفلسطينية في لبنان. 

سيناريو الفيلم = سيناريو العمليّة

شكّلت زيارة المُخيّمات الفلسطينيّة في لبنان انعطافةً مُهمةً في حياة آداتشي، إذ تعرّف خلالها على مناضلين من الجبهة الشعبية، أمثال: غسان كنفاني، وليلى خالد، وفوساكو شيغينوبو؛ المؤسِّسة والقائدة للجيش الأحمر الياباني، التي كان عملها آنذاك مترجمة لصالح الجبهة الشعبية. سهّلت شيغينوبو لآداتشي التعرّف على الثوّار الفلسطينيين وزيارة المخيمات، حيث وجد نموذجاً مُغايراً لمقاومة الاستعمار عمّا كان موجوداً في صفوف الطلبة اليابانيين. 

في فيلم "اناباسيس ماي وفوساكو شيغينوبو، ماساو اداتشي و27 عاماً من دون صور" (The Anabasis of May and Fusako Shigenobu, Masao Adachi and the 27 Years Without Images) (2011) للمخرج والفنّان الفرنسي إيريك بودلير Eric Baudelaire، يتحدث آداتشي بشيءٍ من الإعجاب عن الفدائيين الفلسطينيين، مُقارناً -بشكلٍ خفي- الأثر الذي تتركه الهزائم عليهم بالأثر الذي تركه توقيع الاتفاقيّة الأمنيّة على جيله، فيقول: "كنت أتساءل كيف يستمرّ هؤلاء الناس بالقتال رغم الهزائم المتكرّرة التي تعرضوا لها؟".  

صورة تظهر فوساكو شيغينيبو وليلى خالد وكوجي واكاماتسو أثناء تصوير فيلم "الجيش الأحمر/الجبهة الشعبية: إعلان الحرب العالمية" (1971)

ثمّ يتحدّث في موضعٍ آخرٍ في الفيلم عن الارتباط العضويّ بين مناضلي الثورة في ميدان المعركة وبين ساكني المُخيّمات من اللاجئين الفلسطينيين، فيقول: "الخطوط الأمامية وجماعات الدعم الخلفية عادةً ما تكون منفصلة تماماً. ولكن هنا، النضال من أجل التحرّر الوطنيّ كان يقوده مراهقون يُرسلون إلى الخطوط الأماميّة، مباشرةً من مطابخ مخيّمات اللاجئين وغرف الغسيل والطعام"، فالنساء اللواتي نراهن يُعدِدنَ الطعام، نراهنّ أيضاً وهن يحملنَ البندقية. كان الجميع؛ من أطفالٍ ونساء وشيوخ، يتدرّب على تعبئة البندقيّة وإفراغها من الذخيرة، في الخِيم الضيّقة والساحات الخارجية للمخيم، خلال النهار وخلال الليل. 

لم يكن ثمّة فصل بين الشعب والثورة، بل كانوا وحدة واحدة، وطرفين لـ "نفس البندقية" على حد تعبير آداتشي. دفع ذلك آداتشي للمشاركة مع زميله واكاماتسو في تصوير فيلم بعنوان: الجيش الأحمر/الجبهة الشعبية: إعلان الحرب العالمية The Red Army/PFLP: Declaration of World War، الذي عملا عليه بعد عودتهما من مهرجان كان عام 1971، واتخذ المونتاج فيه شكلَ شريطٍ إخباريّ يُظهر الأنشطة اليومية للثوّار في المخيمات الفلسطينية في لبنان والأردن كسرد سينمائي عن الثورة العالمية. لم يرَ آداتشي القضيّة الفلسطينية بمعزلٍ عن الثورة العالميّة ضدّ هيمنة الإمبرياليّة الأميركيّة وقوى الاستعمار على العالم، فعرض الفيلم في أماكن مختلفة في اليابان كوسيلةٍ لدعوة الناس للانضمام لصفوف هذه الثورة. 

عاد آداتشي إلى المخيّمات الفلسطينيّة في لبنان بعد ثلاثة أعوام من إعداده الفيلم، بنيّة إعداد جزءٍ ثانٍ منه. في هذه الزيارة، رافق آداتشي الثوار في تمريناتهم ومناوراتهم العسكرية، كما في حياتهم اليومية في المخيم. منحه هذا القُرب بينه وبين الثوّار دوراً فعليّاً في الثورة، فأصبح عام 1974 المُتحدّث الرسمي للجبهة الشعبية والجيش الأحمر؛ يقرأ للإعلام بيانات الجبهة الرسمية بعد تنفيذ كل عملية.  

لقطة من فيلم  "الجيش الأحمر/الجبهة الشعبية: إعلان الحرب العالمية" (1971)

قد يبدو هذا الدور بعيداً عن مجاله في الإخراج السينمائي، إلا أن آداتشي كان دائم الربط بين السينما والإعلام كوسيطٍ مهم لنقل الحقيقة والتأثير فيها على الجمهور. يُعبّر عن ذلك في فيلم "27 عاماً بدون صور"، بالقول إنّه لا يجد سيناريو العمليّة يختلف كثيراً عن سيناريو الفيلم، وإنّ المُقاتلين يُشبهون الممثلين إلى حدٍّ كبير، إذ يُوجّه كلاهما من قبل سيناريو مُفصّل ومُعتَمد، بينما تلعب كاميرا الإعلام دوراً مماثلاً لكاميرا السينما في اختيار ما يُسلّط الضوءُ عليه وما يُتجاهل. 

غارة إسرائيليّة "تُحيّد" الفيلم الأكبر

في عام 1982 أسقطت غارة جويّة إسرائيليّة صواريخها على مدينة بيروت، وكانت مّما دمّرته مُعدّات آداتشي التصويريّة وأرشيف تجاوز مائتي ساعة تصوير، احتوى على تفاصيلٍ دقيقة وكثيرة وحميميّة للثوّار. "صوّرتُ طفلاً على مدى أعوام. وأصبح لاحقاً مقاتل عصابات جيّد، أطول مني بكثير. صوّرته وهو يدرس، ويتدرّب، صوّرت طريقة عيشه. آسَف لفُقدان تلك الأفلام"، يقول آداتشي. لذا لم يُنتج آداتشي أفلاماً أخرى عن الثورة الفلسطينيّة، وذلك بالرغم من تصويره المُكثّف ومتابعته الحثيثة لها.

اليابانيون الخمسة أثناء محاكمتهم في لبنان عام 1997

مكث آداتشي في بيروت لمدة 27 عاماً، إلى أن ألقت الشرطة اللبنانيّة القبض عليه بتهمة تزوير جواز السفر، وحبسته وأربعة من أفراد الجيش الأحمر الياباني (من ضمنهم كوزو أوكاموتو، الناجي الوحيد من منفذي عملية مطار اللد) في سجن "رومية" لمدة ثلاثة أعوام (1997 - 2000). على إثر ذلك، أضربت مجموعة من الشباب الفلسطيني واللبناني عن الطعام في لبنان، إضافة إلى توقيع 150 محامياً لبنانياً عريضة، للمطالبة بإطلاق سراح السجناء اليابانيين الخمسة ومنحهم حق اللجوء السياسي في لبنان. كما نَظّم المُتضامنون مع آداتشي معرضاً بأعماله كطريقة لدعمه هو ورفاقه، ولفت أنظار الإعلام لقضيتهم. 

بالرغم من ذلك، إلا أنّ آداتشي ورفاقه (باستثناء اوكاموتو) رُحّلوا بشكل قسري إلى الأردن، على إثر إنتهاء فترة محكوميّتهم، ومن هناك أُرسلوا عبر طائرة روسية مُستأجرة إلى طوكيو. في طوكيو، حوكم آداتشي بتهمة دخول مطار براغ ثماني مرّات، بجواز سفر مختلف في كل مرة، وحيازة بطاقات هوية مزيّفة، وسُجن للمرة الثانية على نفس التهمة، كما مُنع من الحصول على جواز سفر والسفر مجدداً خارج اليابان.

أكمل آداتشي مسيرته السينمائية في اليابان، فأعد فيلم "سجين/إرهابي" (Prisoner / Terrorist) (2007) عن الفترة التي قضاها كوزو أوكاموتو في السجون الإسرائيلية، بين التعذيب والحلم بالحرية. وبعيداً عن ذلك، أخرج عام 2016 فيلماً مبنيّاً على قصة كافكا المشهورة "فنّان الجوع". 

على عكس غيره من المخرجين العالميين، الذين اقتصرت مساهمتهم على إعدادِ فيلم "حول" الثورة من أجل عرضه في المهرجانات العالميّة وحصد الجوائز عليه، آمن آداتشي بالثورة بشكلٍ يتجاوز حدود دوره كمخرجٍ سينمائي. لم يكن آداتشي في مسيرتِه السينمائيّة يحوم حول الثورة، بل كان داخلها وفي صُلبها، مُخرجٌ لا يأخذ مسافة مع المادة المُصوّرة للفيلم الأكبر؛ الثورة.