6 يناير 2019

كيف تلتئم

في سبيل سردية شخصية

في سبيل سردية شخصية

في كتابها "كيف تلتئم: عن الأمومة وأشباحها" تحاول إيمان مرسال 1إيمان مرسال: شاعرة مصريّة وأستاذ مساعد الأدب العربيّ ودراسات الشّرق الأوسط في جامعة ألبرتا في كندا. أنْ تسردَ تاريخاً شخصيّاً للأمومة في حياتها، بدءاً منها كابنةٍ لأمٍّ توّفيت مُبكراً أثناء محاولتها أن تكون أمّاً من جديد، مروراً بها -أيّ بإيمان نفسها- كأمٍّ لطفل مُصابٍ باكتئاب، تُخفي منه المقصات والسّكاكين خوفاً من أن يقتلَ نفسه.

إيمان التي تموت أمّها تاركةً وراءها طفلاً رضيعاً، تنقلبُ حياةُ جدّتها، التي تشقّ ثوبها وتضرب بكل قوتها على ثدييها العاريين، "عاقبت جدتي ثدييها على فطام أمّي النهائي بالدفن"، تقول إيمان. ستتغير السيدة القوية بعد "الموت الأول لكائن خرج من رحمها"، كانت السّيدة غضبانة من فشلها في مهمتها الفريدة والأساسية أن تحافظ على أولادها أحياء، وسيستمر غضبُها طويلاً.

ستكون هذه الرواية الجارحة تاريخاً شخصيّاً مؤسِسَاً لما سيأتي، أيّ لتاريخ الأمومة الشّخصية لإيمان، ولِتَحَوُّلِها هي إلى أمّ. في هذا الكتاب لن تجد إجاباتٍ عن أسئلة الأمومة، بل ستجد أسئلةً شخصيّةً وإجاباتٍ شخصيّةٍ كذلك. يفتح الكتابُ حواراً عن الأمومة في محاولة لفهم الذات. ومع كونها تجربة شخصية، إلا أن الكتاب يُقدِّمُ فرصةً لكلّ أمٍّ لِتُحَـوّل تجربة الأمّ إلى ولادةٍ جديدةٍ وإعادةِ تعريفٍ للذات والعالم، لِتَطرَحَ أسئلتها الخاصّة، ولِتُقَدِّمَ سرداً شخصيّاً لخبرتها الذاتيّة مع الأمومة.

فرادة الأمومة والحاجة إلى السّرد

في كتابها تتحدث إيمان عن "مرجعية الأمومة"، عن استحالة تحييد أثر "البُنوة" أو حتى تفاديها، لأننا لسنا حواء الأولى التي ولدت بلا تجارب سابقة ولا سرديات ولا حتى مؤسسات. وفي نفس الوقت، تتحدث إيمان عن الأمومة بصفتها فعلاً فرديّاً رغم كل الامتيازات الطبقيّة والمؤسسيّة، فعلاً فرديّاً لا تُمكِنُ المشاركة فيه، أو حتى نقل التجربة الحسيّة فيه بدقة، فتصبحُ كلُّ تجربةٍ روايةً فريدةً غير متكررة.

في كل مرة ستكون المرأةُ وحيدةً تحاول أن تتحرر مما في رحمها، ليس فقط لأجل التخلص من الألم، بل لأن الوجودين أصبحا مرهونين بالانفصال، وجود الطفل ووجودها هي ذاتها. الانفصال الذي سيؤسس لرحلةٍ جديدةٍ، مع كائن هو جزء منها ولكنه ليس هي، هو قريب وغريب، إعادة تعريف لكل شيء موجود، وإجابة فرديّة لكل سؤال، بدءاً من سؤال الذات مروراً بسؤال الجسد والعلاقات والعاطفة وكل ما ظنت الأمّ أنها هي، سينشقّ زمانٌ واحدٌ عن زمانين مختلفين ويفترقا للأبد.

تتحدث إيمان عن صراع الانفصال وصراع الهوية، فصراع الانفصال عن الطفل هو العتبة الأولى ليعرف ذاته، وليكتشف الآخر بما فيهم الأمّ نفسها، متلمساً وباحثاً عن هويته ككائن مستقل. أما الأمّ فستضطرب هويتها إن كان لها مشروع آخر يسبق مشروع أمومتها وتُعرّف نفسها به كأن تكون كاتبة مثلاً، كأدريان ريتش والتي تستعرض مرسال جزءاً من مذكراتها، والتي عبّرت عن إحباطها لأنها لا تجد وقتاً لممارسة مشروعها ككاتبة، وعن طفلها الذي لا يتعامل معها كآخر فيقفز إلى الآلة الكاتبة بمجرد أن تبدأ أمّه بالعمل.

تقول إيمان: "أنتِ تعاني مع ومن أجل وضدّ الطفل، ….. لأن هذا الطفل هو جزء من نفسك“، هذه المعاناة التي قد لا تنطوي على صراع واضح أو ظاهر، ولكنها معاناة تعرِفُها كل أمّ، معاناة أن تعجزي عن الاختلاء بنفسك، فأنتِ لست "آخر" بعد الآن ولفترة زمنيّة طويلة بالنسبة لأطفالك. هذا التمزق بين النجاح والفشل، أن تنجحي في أن تكوني أمّاً، أو تنجحي في أن تكوني آخر، وإذا كنتِ آخر فستتألمين لأنك لم تكوني أمّاً كما ينبغي.

هنا، تُذكِّرنا إيمان أنّنا لسنا بيضة، وصحيح أنّ الولادة سَتَشقّنا إلى نصفين، ولكن أليس هذا الشرخ هو هويتنا التي نتحرك بها في العالم؟ تحاول إيمان أن تخبرنا أن الولادة لا تعني ولادة كائن آخر عنا فقط، بل هي أن نلد أنفسنا ولادة شخصيّة تجذّر شروخنا السّابقة أو تلئمها.

هذه التجربة في الأمومة ستُؤَسِس لملايين الخبرات الفرديّة غير المسرودة، كلّ ولادة هي خبرة شخصيّة جديدة. ولكن، نقول إيمان، الجهد النسويّ لا يهتم أو يتعامل معها إلا بصفتها جماعة اجتماعيّة "ضدّ" جماعة الرجل، وبذلك تتحول الأمومة من خبرة ذاتيّة يمكن الاستفادة منها وروايتها لتغيير الوعي أو صناعة واقع جديد إلى "خبرة مُغلقة على ذاتها"، تتحوّل بذلك إلى جماعة موضوعيّة لا كياناً إنسانيّاً بخصوصية مُتفردة.

بناء على ذلك، تنصح إيمان الأمهات أن يسردن تجربتهن أو يَأْنَسْن إلى سردٍ آخر يُخفف من وحشتها، وذلك إلى أن تنتبه النسويّات والتيار النسويّ إلى مشاعر العنف والغضب والإحباط التي تختبىء في تجربة الأمومة.

الأمومة بوصفها فوتوغرافيا

في الفصل الثاني تقارن إيمان مقارنةً جميلةً بين الأمومة والفوتوغرافيا، ليس باعتبار الصورة "استعادة ما ذهب، لكن لشهادة أن ما في الصورة كان حقّاً موجوداً"، كما قال رولان بارت.

في هذا السياق، مرّت إيمان بتجربة وحيدة مع والدتها قبل رحيلها بشهرين في العام 1974، هذه التجربة هي التقاط صورة فوتوغرافية لهما سويّاً في استوديو. ستظلّ هذه الصورة تذكاراً دائماً لوجود أمٍّ سابق، اختطفها الموت باكراً، ولكن الصورة الموجودة ليست هي تماماً ما تتذكره إيمان عن أمّها، فالأمّ التي تذكرها مختلفة عن تلك الظاهرة في الصورة، وهو ما سيسبب لها ألماً وإرباكاً.

في الصورة ظهرت الأمّ "شبحية ومختفية"، ولذلك ستُرَدِدُ إيمان كثيراً وطويلاً جملة: "هذه أمّي ولكن صورتها لا تشبهها على الإطلاق"، وستعيش الابنة صراعاً عميقاً مع ذاتها لاستحضار صورة الأمّ الحقيقيّة لا الأمّ الشبح، الأمّ التي تُثبِّتُ وجودَها السّابق الصورةُ، ولكنها في ذات الوقت تُخفي حقيقتها وصفاتها المزروعة في قلب إيمان.

ستكون الصور هي انتقاء ورواية واقتراح يتحكم فيه من يسرده، سيكون الاستبعاد أو الطمس هو محاولة أو رغبة في طمس تاريخ ما كأنه لم يحدث. قد يمكننا استبعاد الأمّ من الألبوم، لكن هل يمكن أبداً أن نستبعد الأمّ من تاريخنا الشّخصيّ مهما حدث؟ أو حتى أن نسرد تاريخنا الشّخصيّ بعد أن نطمسها منه؟ هل يكون استبعادها هو تأكيد على حضورها؟

في مشروعها تقوم الفنانة الإيطالية ليندا فرينيي ناليير بجمع أكثر من ألف صورة لأمهات مختفيات تحت السّتار أو الطاولة يمسكن بأطفالهن من أجل تخليد صورة الطفل في ذاكرتهن. تطمس الأمهات هوياتهن الشّخصيّة لأجل أن يظهر أطفالهن الرضع مستقلين ومركّزين في الصورة، في الصّور تظهر صورة المرأة في المجتمع بلا هوية شخصيّة تخصّها، هي أداة عابرة للإنتاج أو قناة تربط بين الطفل والرجل.

تُظهِرُ الصّور ما تُسمّيه إيمان "المتن الثقافيّ العام" حيث تتمثل معنى ودلالة الأمّ، وهي أمومة ظاهرة وجلية، أمومة عامّة لا شخصيّة، مضمونة في مفهومها ومتوقعة وبديهية، فهي علاقة بيولوجيّة، مع قيم حادّة وظاهرة، كالحب غير المشروط، والرعاية والتضحية.

حضور هذه السّردية المثالية في المتن الثقافيّ العام، يقابلها حضورٌ شخصيٌّ للخبرة الذاتيّة، حضور يعرف كل أم بشعور لن تنفصل عنه مهما كانت أمومتها مثالية، ألا وهو الشعور بالذنب. تقول إيمان عن أصالة الشعور بالذنب لدى الأمهات: "الأمّ التي لا تشعر بالذنب اتجاه أطفالها، هي تلك التي أتاها ملاك في لحظة الولادة وشقّ صدرها، استأصل النقطة السوداء التي هي منبع الشّر، حرّرها من هويتها السّابقة وشفاها من العدمية أو الطموح، تماماً كما يحدث مع الأنبياء في عملية تجهيزهم للنبّوة".

الابنة التي أصبحت أمّاً

في الجزء الثالث من الكتاب تتحدث إيمان عن يومياتها مع مرض ابنها بالاكتئاب، عن الفراشات التي تنتقل بين رأسه وقلبه ومعدته، عن الوحش الذي سيسيرون معه في طريق الآلام إلى ما لانهاية، وحش حياتها، وحش طفولتها وطفولته. أن يعيش طفلك ما تعرف ألمه تماماً يجعله بالتأكيد أكثر قسوة ومرارة، معاناتك تتكرر بشكل أقسى، تتكرر مع طفلك، سيخرج أخطبوط الذنب ليطوقك، هل كانت جيناتي سبباً فيما يعانيه ابني؟

هذه المعاناة التي ستُذكِّرها إيمان بـ"الشيخ حسن" في الحديقة الصغيرة والتي ستحتفظ ذاكرتها بخضارها للأبد، ستذهب الكاتبة لـ"شيخ إمبابة" على أمل أن يمدّ لها يد العون، الأمومة تعني خياراً من خيارين: "أن تكوني إلهة، أو تؤمني بقوة عليا، ليس هناك مكان وسط!".

المذكرات حادّة وشديدة الرهافة، تختلطُ الأحلام فيها بالواقع، مثلاً هل كانت قصة محاكمة الأمّ أمام منصة القضاة في يونيو/حزيران 2013 في برلين حقيقيةً؟ ربما يشعر القاريء بأنّها حلم، هل الواقع قاسي على الأمهات حقاً بهذا الشكل؟ هل يمكن أن تحاكم أمٌّ لأن ابنها مصاب بالاكتئاب؟

في كتابة إيمان عن طفولتها وعن الأغاني المبهجة الإنجليزيّة التي غنتها بنغمة الحزن، تجلب عديد2العديد فن شعبي أساسه النحيب والتعبير عن الحزن، خاصة في حالة وفاة أحد الأقارب والأحباب.جدتها من طفولتها، لعالم أطفالها في كندا، تبدو كما لو أنها تنقل طفولتها وتمررها لطفليها، بلا تعمد أو قصد، هل هذا الوجه الآخر للقول بأننا نكون أمهاتنا -أو جداتنا- حتى لو لم نحب أن نكونهن؟

على سبيل الخاتمة

هدف هذا الكتاب هو "الاستئناس بالسّرد"، أن تحكي الأمهاتُ عن تجاربهن الشخصيّة، لا تلك التي يفرضها عليهن السّياقُ والسّردُ العام، بل أن يحكين التجارب الحقيقية التي مرّرن بها. فما هي قيمة أن تكون السّردية العامّة عن "بطولة أمهات الشهداء" وعن "الصبر" و"التضحية التامة"، عن "الطهارة" و"إنكار الخطيئة"، والمتلقي قد يكون أمّاً غير قادرة على تمثل هذه القيم؟

بالطبع، نحن الأمهات وكجزء من النسيج الإنسانيّ، تتشكّل نفسياتنا بالتفاعل مع السّردية العامّة، ولكن الجزء الحساس هنا هو أنّ تضاربَ السّرديتين (الخاصّة والعامّة) لا يعني التقاءها في منطقة الوسط -أي أنّه لن يؤدي إلى تشكّلِ سرديةٍ جديدة-، تكون الأمّ وفقها في منطقةٍ وسطيةٍ إنساناً قابل للخطأ والضعف والانهيار، أي إنساناً طبيعيّاً، بل إن السّياق العامّ يشترطُ سيادةَ سرديّةٍ معينةٍ.

وهنا يكمنُ سرُّ هذا الكتاب، السرّ الأول أن غالبية الكتب التي تُكتب عن الأمومة غالباً ما يكون الحديث فيها فوقياً، من منبر علويّ يخطب في المستمعات الملائكيات، عن الأمومة وسموّ الرسالة وعن أهميتها والمشاعر الغامرة الصافية التي لا تشوبها شائبة. تعرف المستمعاتُ الملائكياتُ أن الحقيقة غير ذلك، فيشعرنّ كما لو أنهن طُرِدنّ من جنّة الأمومة المثالية، وأنهن شاذات عن سياقهنّ، ويشعرنّ بضرورة إخفاء الفضيحة، فضيحة أن تكون إنساناً طبيعيّاً، حائراً ومتعباً وضَجِراً ومتألماً، وهو ما تحدثت عنه إيمان في مقال منفصل عن "الأمومة والعنف"، حيث تكون كل السرديات المختلفة عن السردية العامة إما مرضاً يُستعاذ منه أو جريمةً ننفر منها ونحتقرها.

السرّ الثاني، أن هذا الكتاب يتناول الأمومة من منظور ثقافي، وهذا إنجاز أولّ في الثقافة العربية، إذ أن تناول الأمومة غالباً ما يأتي في إطارين، إما إطار المؤسسات والقوانين والأكاديميا، عن حقوق المرأة الأم، وإجازات المرأة العاملة، أو إطار ديني أيدولوجي بحتّ، تكون فيه الأمومة واجباً دينياً، وضرورة إجتماعية مزخرفة بخطاب -أراه أنا بشكل شخصي- طفوليّاً مزعجاً ينتقص من أهليتها وقدرتها الإنسانيّة ليس فقط في اتخاذ القرارات المناسبة بل يحجر حتى على مشاعرها الإنسانية الطبيعية.

هذا الكتاب برأيي هو محاولة لتطبيع السّرد عن الأمومة في السّياق الإنسانيّ، الأمومة لا بصفتها فعلاً صافياً خالياً من الألم، ولا بصفتها فعلاً ممتعاً، بل باعتبارها تجربةً تحمل كل الاحتمالات، وتتنوّع فيها المعاني والمشاعر، ألوان جديدة تصبغ الإنسان الذي سيخوضها - أي المرأة- فتصنع منها كياناً جديداً.