25 أكتوبر 2023

خطاب حقوق الإنسان: نهاية وأي نهاية!

خطاب حقوق الإنسان: نهاية وأي نهاية!

قبل سنتين من الآن، في التاسع والعشرين من تشرين الأول/ أكتوبر 2021، صعد جلعاد إردان، سفير الكيان الصهيوني لدى الأمم المتحدة، إلى منصّة الجمعية العامة محتدّاً. كان مجلس حقوق الإنسان في الأمم المتحدة قد أصدر تقريراً يدين الجرائم الإسرائيلية بحقّ الفلسطينيين، أفراداً وجماعة. وكعادته المدروسة، جمع بين المسرحيّة والمظلوميّة، تحدّث عن "هوس مجلس حقوق الإنسان بإسرائيل"، وعن انحياز هذا المجلس الذي أصدر خلال 15 عاماً 95 قراراً يدين الكيان الغاصب. ثمّ، "هوبا"، أمسك بالتقرير ومزّقه على الهواء وقال إنّ "مكانه المناسب هو سلّة المهملات". وبالطبع، نشر المشهد البطولي على حسابه على "إكس". 

آخر دولة احتلال استعماري في العالم كانت قد مزّقت عشرات التقارير وضربت بعرض الحائط مئات القرارات الأممية. وهذا المشهد لم يكن غير تمثيل علني لذلك. في حزيران/ يونيو من العام التالي، عُيّن إردان في منصب نائب رئيس الجمعية العامة للأمم المتحدة. بعد ذلك بثلاثة أشهر، وأثناء المظاهرات الاحتجاجيّة في شوارع إيران على خلفية وفاة مهسا أميني بعد احتجازها من قبل شرطة الأخلاق، حمل إردان لافتة عليها صورة امرأة إيرانية وكتب تحتها "النساء الإيرانيّات يستحققن الحريّة.. الآن". الفصل الأخير: إردان يدعو الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش للاستقالة الفورية من منصبه إثر تصريح الأخير: "من المهم أن ندرك أنّ هجمات حماس لم تأتِ من فراغ، وأنّ تلك الهجمات لا تبرر لإسرائيل القتل الجماعي الذي تشهده غزة". 

لماذا تفشل هذه المنظومة باستمرار؟ بل لماذا تبدو مصمّمة لتفشل باستمرار؟ خلاصة ما يقوله نقّاد الهيمنة وأشكال الاستعمار القديم والجديد أنّ هذا النظام ومؤسساته يعملان ضمن شبكة هيمنة تؤدّي دوراً ناعماً في تجميل النظام وإسناد مصالح القوى الكبرى قانونياً؛ فإن لم يكن ثمّة سند قانوني فيكون دورها إيهام المستضعفين بوجود منظومة قانونيّة يمكن اللجوء إليها، عوضاً عن مقارعة العنف بالعنف، ومجابهة الإرهاب بالإرهاب. وضمن هذه الوضعيّة، تؤدّي هذه المنظومة بعض الأدوار الإيجابية ضمن هوامش ضروريّة لبقاء شيء من شرعيّتها، وضمان استمرار دورها في منظومة الهيمنة. ولكنّها في اللحظات المفصليّة تصبح بلا قيمة فعليّة، فهي بالنهاية منظومة كلام، لا تمتلك القدرة على إنفاذ قراراتها عندما تتعارض مع المصالح الاستراتيجية للقوى العظمى، التي أنشأت مؤسساتها وتموّلها. 

الأمم المتحدة ومؤسساتها وأشباهها، ليست سوى مرحلة ضمن خطاب حقوق الإنسان، الذي عمل بصيغ مختلفة على أداء هذا الدور، بتدرّيج – أتقن رصده طلال أسد وآخرون – من البروتستانتية إلى الصيغة الإنسانوية الأنوارية. وهو في كلّ هذه المراحل كان يؤدّي دوراً مشابهاً: برّر استباحة السكان الأصليين في الأمريكتين وأستراليا، وبرّر الاستعمار الغربي لأرجاء المعمورة، ويبرّر اليوم الاحتلال الصهيوني لبلادنا، مع الاعتراض غير المجدي على تجاوز "إسرائيل" السافر لكلّ قيمة وحقّ. 

ما الخطير في هذا؟ 

أولاً؛ وهم وجود نظام عدالة. كنت قبل الحرب الأخيرة منكبّاً على قراءة سيناريوهات الكوارث النووية وفنتازيا الخراب، التي تزخر بها السينما عن أشكال دمار الكوكب بيئياً أو نووياً أو فضائياً وغير ذلك. كان غونثر أندريس، فيلسوف الأبوكاليبس (القيامة)، يتحدّث عن حضارة تسارع إلى قيامتها بنفسها، تطوّر تقنيات الحرب لإنزال الفناء بنفسها. اليهودي الألماني الذي شهد فظاعات النازيّة، ثمّ هيروشيما وناكزاكي، كان متشائماً بخصوص ما ستفعله البشريّة (أو قل الحضارة الغربية) بكوكبنا. حدّثت أحد الأصدقاء بأنّ علينا ألا نسترخيّ أمام خمول الترسانة النووية العالمية، فشفا الهاوية النووية لا ينتظر زلّة قدم رعناء أو ضغطة زرّ غاضبة (كما صوّر ستانلي كوبريك في فيلمه الشهير)، بل ينتظر الضحيّة المناسبة فقط! بدا هذا وشيكاً في الحرب الروسية الأطلسيّة في أوكرانيا، وفي حرب الـ73، عندما أمرت غولدا مائير جيشها بوضع الرؤوس النووية في حالة تأهّب. قلت له: ما يمنع "إسرائيل" من ذلك، هو فقط تداعيات الدمار النووي عليها، ولو أمكن لها ضبط تلك التداعيات في جغرافيا لا تخصّها، فسترى الهول. هزأ بي صاحبي، وحدّثني أنّ العالم تغيّر، وأنّ مثل هذا الفعل له عواقب دوليّة لا يمكن التساهل معها. اليوم، تطالعنا التقارير بأنّ "إسرائيل" قد استعملت بالفعل 12 ألف طنّ من المتفجرات في تدمير مساكن الغزيين، وهو ما يقترب من القوة التدميرية للقنبلة النووية. ولن تتورّع "إسرائيل" عن مضاعفة الرقم، ولن تكون هناك عواقب رادعة قبل تمام الأمر. 

الوهم أخطر من الشعور بالعجز. فالعجز قد يكون خلّاقاً ويدفعك إلى البحث عن وسائل مجدية، ولن تعدم الحيلة للمقاومة، ثمّ إنّه يسمح لنا باستثمار ما في هذه المنظومة من إمكانات دون الوقوع في أوهامها الخطرة. 

إننا نؤمن كمسلمين بأنّ الأخلاق مغروسة في فِطَر البشر، وأنّ هناك "أولو بقيّة ينهون عن الفساد في الأرض"، وأنّ مكارم الأخلاق أصل يأتي الوحي ليتمّمه توجيهاً وتفصيلاً وترسيخاً وتحسيناً. وعلى هذا الأساس نفهم معنى استعداد النبيّ الأكرم صلى الله عليه وسلم للدخول في حلف "فضول" جديد، ينبني على المشترك الأخلاقي وليس العقدي، يكون أهله "يداً واحدة مع المظلوم على الظالم حتى يردّ إليه حقّه". المشكلة في خطاب حقوق الإنسان: 1) أنّه لسان بلا يد وقوة تنتزع الحقّ للمظلوم. 2) أنّه يحوّل الحكم الأخلاقي إلى بيان قانوني، فيمزج المشترك الأخلاقي بغيره، ويقولبه في صيغ تقنيّة يمكن التحايل عليها وتمرير الفظائع من خلالها عبر التسميات الأداتيّة "النظيفة"، وأيضاً عبر مواثيق يجري التواضع على كثير منها نتيجة إكراهات قوّة، فيدافع أحرار العالم اليوم عن خريطة 67، وينكرون على الكيان تجاوز حدوده وتوسيع استيطانه، أما قانون العدل الأخلاقي فيجرّم الاحتلال وسلفه الانتدابيّ من أصله. 2) أنّ هذا الخطاب يستبطن (بل ويصرّح) بتفوّق الحضارة الغربية، التي تُقدّم "حقوق الإنسان" بوصفها ابتكاراً حديثاً غير مسبوق، فتعمل على احتكار المنجز الأخلاقي الذي لم يخل من حضارة من الحضارات (وجميعها كانت متفوّقة على حضارة الغرب الحديث أخلاقياً، ربما باستثناء المغول!)؛ هذا المنجز الأخلاقي الذي كان للإسلام فيه دور عالمي في إرساء منظومة الأخلاق الدولية في السلم والحرب، كما بيّن محمد حميد الله وغيره. 

إنّ استثمار ما في هذه المنظومة من إمكانات أخلاقيّة، وبناء تحالفات قائمة على ردّ الحقوق وإقامة العدل ضروريّ، لكنّ الركون إلى هذه المنظومة وتذوّت خطابها وتبنّيه يورثنا من العجز أضعاف ما نكسب من التضامن. (هامش: في هذا الصدد علينا أن نتعلّم من عدوّنا الصهيوني الذي يعرف كيف يستعمل هذه المنظومة كلسان حقوقيّ يؤكّده بقوّة السلاح ولا يؤثّر في تضامن جماعته "اليهودية".) تحمل هذه الحرب دروس قوّة الإيمان واجتماع العبوديّة وشدّة البأس أمام الكثرة المتكالبة وهياكل وهمها، تفتح إمكانات لتحريرنا قبل تحرير أرضنا المسلوبة. ولكنّ كثيراً منا، جولة تلو جولة، يحوّلون المجاهد إلى ضحيّة، ويحوّلون شعباً وقضيّة إلى مجموعة أفراد عزّل. وفي طريقنا لابتزاز الغرب وجلب التضامن بتصعيد صورة الضحايا، ننتهي إلى ابتزاز أنفسنا وتضخيم آلامنا ونسيان جدواها الأخروي والسياسي، وننسى أنّ ناسنا وأهلنا أولى الناس بمخاطبتهم بلسان يقوّي عزائمهم ويشحذ أسلحتهم ويرسّخ يقينهم. 

شهدنا في السابع من أكتوبر نفحة من صور الفاتحين الغزاة، المبادرين إلى القتال العادل والأخلاقي. وشهدنا هؤلاء يحملون في جهادهم أعظم مشاهد الأخلاق، يقهرون عدوّ الله، ويكفّون اليد عن غير المقاتل، يؤمّنون الخائف ويهدؤون روع أطفال أعدائهم. لم يتكلّفوا ذلك، هذا إسلامهم، وهذه وصيّة نبيّهم صلى الله عليه وسلم تسليماً. 

يتسلّل القاموس الغربيّ إلى لساننا، قاموس مشوّه، ومشحون بذاكرة صدام مرير بين الدين المحرّف والأخلاق، فنستعيرُ مقولات مثل "هذه ليست حرباً دينية"، وكأنّ الحرب العلمانية مضبوطة بناموس أخلاقيّ نزيه. نريد حربنا دينية، ببواعثها الشريفة وشريعتها الأخلاقيّة التي تجمع العدل والإحسان، وهذا وحده ما يجعل الحرب أخلاقيّة ونبيلة وتستحقّ أن تُخاض، وهذا وحده ما يجعل موتنا ذا قيمة: شهداء أحياء، وآخرون صابرون على طريقهم حتى يأتي أمر الله. 

المشكلة ليست في ذوات الغربيين، وليست في لون بشرتهم، بل في منظومة فساد وإفساد، وطغيان إبليسي بلا هداية السماء، وبلا حكمة متوارثة، وبلا أيّ أساس صلب تنبني عليه معيارية الأخلاق والقيم، من الأسرة إلى الأسرّة، ومن صفقات السماسرة إلى الحروب على البرابرة. والعالم بحاجة إلى إنقاذ. الغربيون أنفسهم بحاجة لمن ينقذهم من طغوائهم وطغيانهم. وهؤلاء المجاهدون ومن معهم، أملنا وأملهم وأمل العالم بعالمية إسلاميّة تعيد للإنسان إنسانيّته وللأخلاق ميزانها. 

الكفر بالطاغوت ليس كافياً، لا بدّ مع النفي من إثبات، ولا بدّ مع السلب من إيجاب. وإذا كان هذا الطوفان قد أعلن دخول المنطقة، والعالم، في مرحلة جديدة ليست كسابقاتها في صراع القوى، فلا أقلّ من أن يتسرّب شيء من رواء مائه إلى قلوبنا وعقولنا وعزائمنا. 

"فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم".