2 مارس 2021

كيف تحوّلت مشاعرنا إلى سلعة على منصات الإعلام؟

كيف تحوّلت مشاعرنا إلى سلعة على منصات الإعلام؟

تُرجم هذا المقال من الإنجليزية. نشرت النسخة الأصلية في فبراير 2019 على موقع Medium.

لماذا يتحوّل نَقدُنا للمجتمعِ اليوم إلى سلعةٍ تبيعُها الشركاتُ بالجملةِ غداً؟ تُنذِر الصورةُ المتفاقمة في السوء التي تُقدّمها وسائلُ الإعلام عن نظامٍ ثقافيٍ استغلاليّ بمستقبلٍ قاتمٍ يلوح بالأفق، إذ تتحول أفكارنا وآراؤنا تدريجيّاً إلى سلع، وتبدو فكرة التغييرِ الهادف للمجتمع مستحيلةً.

يُنظر إلى المجتمع الرأسماليّ الحديث على أنّه نظامٌ عبثيٌ يفقد فيه العمال ملكية "ثمارِ عملهم"، بينما يصعب إشباع نَهمِ الرأسماليين فيه، فلماذا يشتركُ الناس في نظامٍ استغلاليّ يعتمد على الإنتاج المستمر لينجح؟ في كتابه "الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسماليّة" (1905) يعتبر ماكس فيبر أخلاقيات العمل البروتستانتية سبباً جوهريّاً للقبول بالرأسمالية الحديثة وتنميتها. كما شكلت المبادئ الدينية التي تُثَمّن العمل الدؤوب تاريخيّاً "روح" الرأسمالية والأيديولوجية التي تُبَرّرُ ارتباطَ الناس بالنظام.1أخلاق العمل البروتستانتية هو مفهوم في علم الاقتصاد وعلم الاجتماع والتاريخ، يعزى إلى أعمال ماكس فيبر. يستند إلى فكرة تركيز الكالفينيين على ضرورة العمل الجاد كعنصر من عناصر النجاح الدنيوي وكعلامة مرئية أو نتيجة للخلاص الشخصي.(المترجم).

منذ قيام الثورة الصناعيّة، انتقدت وسائل الإعلام الشعبيّة طبيعةَ الحياة اللاإنسانيّة في ظلّ الرأسماليّة، مثالٌ على ذلك رواية المسخ لفرانز كافكا (1915)، وفيلم الأزمنة الحديثة لتشارلي تشابلن (1999). في كتاب "الروح الجديدة للرأسمالية" (1999) يطلق بولتانسكي وتشيابيلو على هذه الانتقادات المبكّرة للرأسمالية مفهومَ النقدِ الفنيّ – أي هِجاء فَقْد الأفراد لحِسّ الإبداع و الاستقلالية في تلك الفترة. نجح النقدُ الفنيُّ في تسليطِ الضوء على مشاكل الرأسماليّة مما ساهم في تحطيم "روح" أخلاقيات العمل البروتستانتيّة وتراجع معنويات العاملين وإنتاجيتهم في ستينيات القرن العشرين. 

تم بعد ذلك إحياءُ "روحٍ جديدة" للرأسمالية وفقاً للكاتِبَين، إذ تبنّى المجتمعُ الرأسماليّ روايةً جديدةً لمجابهة عواقب النقد الفنيّ تزامناً مع نشوءِ وسائل الإعلام الجديدة، حيث تُشرك الرأسماليةُ الآن النّاسَ على أساس استقلاليتهم وإبداعهم بدلاً من القضاء على هذه الميزات. بل وبات يتمّ تسويق الإبداع الرقميّ نفسه بشكلٍ كبيرٍ على أنّه اجتهادٌ خلاقٌ وحرّ، على الرغم من تشابهه مع المشاريع السّابقة في ظلّ النظام الرأسماليّ ذاته.2الابتكار أو الإبداع الرقميّ هو استخدام التكنولوجيا والتطبيقات الرقميّة لتحسين العمليات التجاريّة وكفاءة القوى العاملة في الشركات، ورفع مستوى الاستهلاك، وإطلاق منتجات أو نماذج أعمال جديدة (المترجم). كما تم الترويج لتسويق الذات Self-branding وتحقيقها كمكونين أساسيّين في هذه الرواية الجديدة، وبذلك نجحت الرأسماليةُ في إعادة إشراك الناس في النظام ذاته الذي سَبَقَت إدانتُه.

اقرؤوا المزيد: "نشاطية الوسوم: نزع السحر عن منصات التواصل الاجتماعي".

اليوم، فَشِل لوم الطبقات الحاكمة إلى حدٍّ كبيرٍ في إحداث تغييرٍ حقيقيّ، فقد كان من المثير للاهتمام أنّ النظام لم يكتفِ بالسماح بالتمرد ضدّه بل قام بتحويل التمرد إلى سلعة. وفي الوقت الذي تُخيّم فيه خيبةُ الأمل في عصر يزداد فيه الشعور بالبؤس تبثُّ وسائلُ الإعلام فُتاتَ أخبارٍ تدّعي الاستياء من الوضع القائم، إلا أنّها تساهم في تقوية النظام التي تدّعي معاداته. وقد قام جي ديبور بتصوير هذه الظاهرة في كتابه مجتمع المشهد Society of the Spectacle (1967) قائلاً: 

"إنّ السخطَ نفسه يصبح سلعةً حالما تتمكن الوفرة الإقتصاديّة من توسيع الإنتاج ليشمل السخط كمادةٍ خامّ".

الكذب من أجل الربح 

يمكننا فهم الدور الذي يلعبه تسليعُ السّخط المجتمعيّ عند النظر إلى الروايات المنتشرة في وسائل الإعلام. لقد ساعدت الصناعاتُ التقنيّة الحديثة على نشر المشاهد الإعلاميّة. ترسم فلسفة ديبور صورة عن مجتمعٍ إعلاميٍّ واستهلاكيٍّ يتمحور حول إنتاج واستهلاك الصور والسلع والروايات، حتى أنّ المشهدية نفسها أصبحت إحدى المبادئ التنظيميّة الأساسيّة للاقتصاد والسياسة والثقافة والحياة اليوميّة. وبالتالي، كما رأى كيلنر (2002)، كان الاقتصاد المعتمد على الإنترنت حاسماً في تحويل المشهديّة إلى وسيلة للترويج وإعادة الإنتاج وتداول وبيع السّلع، ليتم لاحقاً تشجيع نشر الخطاب المُنتَقِد دون الخروج عن نطاقٍ مُخططِ النظام.

تُعتبر روايات الإعلام المحرك الأساسيّ لهذه الظاهرة، إذ تُفسّر وسائل الإعلام وتُبَسّط العالم للمستهلكين من خلال استخدام السّرد. يُشبّه الكاتبان ستودين وهانسن (2015) مجازاً نشر وسائل الإعلام للمعلومات، بديناميات المصارعة المحترفة، إذ يتم عرض مباراة مصارعة يعرف الجميعُ أنّها مجرّد تمثيليةٍ مزيّفة، على أنها حقيقيّة. في رياضة المصارعة المحترفة يُطلَق على مجريات اللعبة المُعدّة بشكلٍ استعراضيّ سلفاً والتي يتم التعامل معها على أنها حقيقيّة مصطلحُ كيفابي. وكما هو الحال في المصارعة، يتم اتّباع كيفابي –أي الرواية الكاذبة- في جميع وسائل الإعلام العامّة. وهكذا تحققت تنبؤات جي ديبور في كتابه بأن الوجود being  سيختزل إلى الامتلاك having، والامتلاك سيقتصر على مجرد المظاهر، ويتضح هذا جليّاً في تحوّلنا من أشخاص متعلّمين  being informed إلى أشخاص يمتلكون حصيلةً من المعلومات الخامّ having information.

تمثّل صورة "الأشرار" السمادَ الذي يُغذّي تربة الدعاية الإعلاميّة كما هو جليٌّ في الهجوم الإعلاميّ المستمر على الأفراد والجماعات المثيرة للجدل (باراك أوباما، ودونالد ترمب، والمهاجرين، وغيرهم). وبحسب مقالةٍ نشرتها صحيفة نيويورك تايمز عام 2017 بعنوان: "دونالد ترمب يحلُّ معضلةً لإذاعة CNN": "وفقاً لـ [جيف زوكر، رئيس إذاعة CNN]، فإن أعضاء لجنته المؤيدين لترمب ليسوا مجرد متحدثين للجماهير؛ بل هم "شخصيات في مسلسل دراميّ". حتى أن محامي أليكس جونز، الناشر السيء السمعة لروايات المؤامرة المنمقة، زعم أنّ "شخصية جونز المعروفة للجميع ليست إلا تمثيلية يقوم بأدائها".3ألكسندر جونز هو سياسي و مقدم برنامج إذاعي أميركي يميني متطرف ومنظّر للمؤامرات.

اقرؤوا المزيد: "غوغل والاستخبارات.. معلوماتك التي لا تظهر في الإعلانات".

تُعزى طبيعة وسائل الإعلام غير الجديرة بالثقة إلى كونها جزءاً من نظام يسعى إلى تحقيق الربح. ولأن شركات الإعلام تتطلب أرباحاً، لا مفرَّ إذن من سردِ الروايات الكاذبة. يخبرنا عالم الاجتماع جان بودريار بأنه لا يمكن فصل مجال الإعلام عن مجال الإعلانات، كما من المستحيل التمييز بين الحقيقيّ وبين ما يتم تسويقه على أنه حقيقة. كما يجزم بودريار بأننا جميعاً متواطئون في هذه التمثيلية: "إنّ أخطرَ المشاكل التي تخلقها الإعلاناتُ لا تنجم عن انعدام الضمير لدى أولئك الذين يخدعوننا بقدر ما تنبع من سعادتنا بأن نُخدع". 

تسويق الخطاب المعارض

يشير الفيلسوف هربرت ماركوزه إلى أنَّ الجوهر الحديث لعمليات الإنتاج والتوزيع يخلق نظاماً قوياً يلغي إمكانية التفرقة بين الوجود الخاصّ والعام، وبين الاحتياجات الفرديّة والاجتماعيّة. في هذا الصدد، يرى عالم الاجتماع فوكس (2013) أنّ المنصات الإعلاميّة الحديثة هي انعكاسات لِضَبابيّة مفهوم المجتمع عن أوقات الترفيه وأوقات العمل، والإنتاج والاستهلاك، والأشكال الجديدة من الإنتاج القيّم، والاستهلاك المتسارع في المجتمع. يقوم الأفراد أنفسهم بتكرار وإشاعة الضوابط التي تحكم المجتمع، وعليه وفقاً لماركوزه، لم يعد النظام بحاجةٍ إلى استِدْماجِ قِيَمِه في الفرد نظراً لاستِبْطانِ الفرد للمعتقدات والسلوكيات المُستساغة اجتماعياً أصلاً.4الاستدماج في التحليل النفسي هو عملية يحاول فيها الشخص نسخ أو تكرار سلوكيات أو أفكار من الوسط المحيط أو من أشخاص آخرين وجعلها جزءاً من ذاته. (المترجم).

كما تستخدم الرواية الجديدة للرأسمالية قوةَ التعزيزِ الإيجابيّ. التعزيزُ الإيجابي يُشكّل قبضةً خفية، لكنها قوية، على الأفراد. إذ يتم منح الأفراد قدراً صغيراً من الحريّة للتعبير عن عدم رضاهم من خلال وسائل الإعلام. نتيجةً لذلك، يشعر النّاسُ أنّهم أحرارٌ في فعل ما يرغبون به. وهكذا - وربما عن قصد- نادراً ما تُثار مسألةُ حريّتنا حيثما ينبغي. إنّنا مُنقادون إلى الاعتقاد بعدم وجود ما نثور ضدّه، إذ يتم تحويل خطابُنا المُعارض والمقاوم إلى تنفيسٍ عاطفيٍّ قابلٍ للتسويق تجاريّاً.

السوق عماد المجتمع!

إنّنا نواجه الآن كمجتمعٍ الآثارَ المتفاقمة لاستغلال كوكب الأرض، ومعضلة اللامساواة، ووفرة السلع والخدمات التي لا تمتُّ للاحتياجات البشريّة بصِلة. يجدُ الكثير من الناس أنفسهم الآن فيما يبدو وكأنهم جزء من كرة تتدحرج شيئاً فشيئاً نحو الهاوية، ويأملون بتغيير النظام قبل فوات الآوان.

يزعم المفكر كارل ماركس بأن تناقضات المصالح الطبقيّة ستحرض على ثورة سياسيّة ويعتقد بأنه سيتم تحرير العمال بعد الاستيلاء على وسائل الإنتاج، مما سيؤدي تباعاً إلى معالجة العديد من الانتقادات الأخلاقية للمجتمع الحديث. وكما يتضح من تسليع وسائل الإعلام لخيبات آمالنا بكل وقاحة، فإنّ السّوق هو عِمادُ المجتمع، وسيؤدي هذا النهج إلى زوال النظام بالنهاية، فالنظام الرأسمالي يحتاج للاستمرار بإنتاجٍ غير محدود في كوكب ذي موارِد محدودة.

في نهاية المطاف، إما أن العمال لن يتحملوا ظروفهم، أو لن يعود الاستغلال مربحاً للرأسماليين إذ سيواجهون التكاليفَ الحقيقيّة لمشاريعهم. بهذا المعنى، قد تكون مشكلة التسليع هي الحلّ أيضاً عند نفاذ المستلزمات اللازمة لسير عمل الأسواق. فعلى حد تعبير المؤرخ البيئي جيسون دبليو مور: 

"لا تنبع المسألة من الدوافع البشريّة – بافتراض وجود وحدة بشرية وهمية- بل بعلاقات رأس المال وقوة الرأسمالية. بعبارة أخرى: لا تكمن المشكلة بالأنثروبوسين بل بالكابيتالوسين". 5الأنثروبوسين: حقبة بداية التأثير البشري الكبير على جيولوجيا الأرض والنظم الإيكولوجية، بما في ذلك، على سبيل المثال لا الحصر، التغيّرات المناخية. والكابيتالوسين: العصر الرأسمالي).



18 أبريل 2019
حِرفَة اليد وصَنعة الروح

تتناول هذه المادّة العمل اليدويّ من زاوية فلسفيّة ونفسيّة وإدراكيّة، ثم اقتصاديّة. وكاتبُها ماثيو كراوفورد Matthew B. Crawford بات اليوم…

19 سبتمبر 2022
الإكراه على دين الليبراليّة

في أحد كتبه الشيّقة؛ "نقد الحقوق"، يُشير الفيلسوف الألماني كريستوفر مينكه إلى تناقض الليبرالية الجوهريّ، فهي إذ تستمدّ قيمتها الأساسية…