23 نوفمبر 2018

ما بعد الاستعمار

هل التابع حقّاً تابع؟

هل التابع حقّاً تابع؟

في كتابها المنشور عام 2003 بعنوان "استعمار بصبغة مختلفة: مصر وبريطانيا والسيادة على السودان"، عملت المؤرّخة الأميركيّة إيف باول على تحليل كتابات مجموعة من رجال الحركة الوطنية المصرية، مفتّشةً فيها عمّا رأته نزعة استعمارية تجاه السودان. تُظهِر هذه الكتابات تشابهات كبيرة مع الميول الاستعمارية الأوروبية تجاه "العالم الجديد" (القارة الأميركيّة "المُكتشفة") والإمبراطورية العثمانية منذ القرن السادس عشر. في رأي باول، أنتجت النهضة المصرية بالطريقة نفسها خطاباً، تبلور في مواقفها السياسية ونشاطها الثقافي، كان "استعمار السودان" أحد أعمدته التأسيسية. وفي متابعةٍ لاستشراق إدوارد سعيد، تسعى باول للبرهنة على أنّ الوطنية المصرية الحديثة، ومن ثمّ الهوية المصرية، تشكّلت في أحد جوانبها، بالاستجابة لموقف استعماري تُجاه السودان وأهله.

تُعيد باول بذكاء تطبيق منهج الاستشراق على أدبيّات بلد مستعمَر. ترجع إلى عدد ضخم من النصوص للبحث فيها عن المواقف المعلنة أو المضمرة، المرتبطة بالعلاقة مع السودان، أو بقضية العرق ولون البشرة، أو بمسألة العبودية، وكلّها مسائل كانت تُحيل إلى العلاقة بالسودان آنذاك. تشمل هذه النصوص عدداً كبيراً من كتابات آباء الوطنية المصرية، التي تبلورت على أصعدة عدة في الصحافة والمسرح والموسيقى، وتشمل شخصيّات مثل رفاعة الطهطاوي وعلي مبارك ويعقوب صنوع وعبد الله النديم ومصطفى كامل وأحمد لطفي السّيد وهدى شعراوي وسيّد درويش وعلي الكسّار. وفي أعمال هؤلاء وغيرهم، تعثر باول على جهد واضح لموضعة السودان في علاقة تبعيّة مع مصر، بالاستحواذ على صوته أحياناً، أو بخطاب أبويّ تمديني أحياناً، أو بخطاب وحدوي، أو بخطاب عدواني مُباشر في أحيان أخرى.

تطرح باول مجموعة مهمّة من التساؤلات بشأن نظرية ما بعد الاستعمار، ومدى صلاحية مفاهيمها التقليدية لفهم تناقضات الحركة الوطنية المصرية، وهي التساؤلات التي يمكن تطويرها إلى نقد جذري للنظرية.

مصر والسودان: مستويات متعدّدة من الاستعمار

أُعيد تأويل الخطاب الاستعماريّ الذي رصدته باول كي يتحوّل إلى دعوة بريئة للوحدة الطوعيّة بين متكافئين. وكان ذلك حتّى من طرف القوميين السودانيين الذي تحالفوا فيما بعد مع الوطنيين المصريين ضد السلطة البريطانيّة في البلدين. لكن سياق الخطاب -من المغامرات الإمبراطورية لدولة محمد علي، وحتّى مناوشات الدولة المصرية مع بريطانيا بشأن "السودان الإنكليزي-المصري" والسيادة المشتركة- يضع رواية هذه الوحدة الطوعيّة بين متكافئين موضع شك. تنقض باول هذا الخطاب، ويكتسب نقضها وجاهته خصوصاً عند النظر في أعمال كاتب غزير الإنتاج كـ مصطفى كامل باشا، الذي لم يترك مساحة كبيرة للشكّ في وجود مشروع استعماري مصري في السودان.

كتب مصطفى كامل بعد موقعة العطبرة، التي استطاعت فيها القوات البريطانية-المصرية هزيمة جيش المهدي عام 1898، مؤكداً على نسبة النصر للجيش المصري، لا الإنكليزي، وبالتالي استحقاق مصر، لا بريطانيا، حكم السودان. وذلك لأن "دماء المصريين وأموالهم قد بذلت في سبيل فتح السودان، ما يجعل لهم الحقّ الأوّل في إدارته والاستيلاء على خيراته" بحسب كامل. ولا يتعلق اعتراض مصطفى كامل على السياسة البريطانية في السودان بكونها سياسة استعمارية للسودان ذاته، ولكن بكونها تنافس مصر على هذا الاستعمار، فالسودان "باق ملكاً لمصر، وليس للإنكليز حقّ في الادّعاء بأنه ملك جديد انضم إلينا، فإذا فتحته اليوم العساكر المصرية، فقد أعادت إليه السلطة الخديوية التي اعتدى الدراويش عليها عشرين سنة تقريباً. وإذا كانت الجنود الإنكليزية اشتركت معنا في فتحه فإنّنا ما كنّا في حاجة إليها، وقد كان جيشنا، بل وأقل منه، كافياً لبلوغ هذه النتيجة".

بالنسبة إلى باول، تشكّل الوقائع التاريخية للنشاط الاستعماري المصري في السودان ثغرة في النظرية بعد الكولونيالية، التي ينقسم العالم وفقها إلى مستعمرين ومستعمرات، أو مراكز وهوامش. وتقترح باول عوضاً عن ذلك مقولة "المستعمِر المستعمَر" لفهم تناقضات الحركة الوطنية المصرية أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين. يشغل المستعمِر المستعمَر، كما يدلّنا اسمه، موقعي المركز والهامش في آن واحد، نسبة إلى مواضيع مختلفة، أي أن العلاقة بعد الكولونيالية نفسها تُستنسخ، لتصبح مصر نسخة باهتة من المراكز الاستعمارية. فتشكّل مستعمَرَة للمركز الأوروبيّ، ومستعمِرة لهوامش أبعد في الوقت ذاته.

لكن تناسخ العلاقات الاستعمارية لا يقع مرّة مُفردة. فبحسب ملاحظة باول نفسها، أظهرت بعض النخب السودانية في الشمال نزوعاً استعمارياً مُماثلاً تُجاه الأراضي الواقعة جنوباً. تذكر باول في هذا السياق حواراً أجرته صحفية بريطانية تُدعى فلورا شاو Flora Shaw عام 1887 مع الزبير باشا رحمة. والزبير باشا رحمة تاجرُ عبيدٍ سوداني جاء من الشمال ليفرض نفوذه على إقليم بحر الغزال جنوب السودان، وبدأ بمقاومة التوسّع المصري في الجنوب، حتى دعاه الخديوي إسماعيل للتفاوض معه في القاهرة، ثم احتجزه ومنعه من العودة إلى السودان لتحجيم نفوذه.

تعلّق شاو على حوارها مع الزبير قائلة إن "الأقاليم الواقعة جنوب النيل الأبيض حملت لشبان الخرطوم الطموحين ذات الجاذبية التي استولت على الشباب البريطاني ودفعتهم في أزمنة مختلفة لاستكشاف مجاهل أمريكا وأستراليا، ومع كون الحملات التي بدأها السودانيون لاختراق الأراضي الجنوبية كانت في الأصل حملات تجارية، إلّا أنّ القائمين عليها كانوا يهيئون أنفسهم بالضرورة لمغامرات شديدة الصعوبة والشخصية، وهذا لأن كثير من هذه المناطق لم يكن معروفاً أو مكتشفاً بعد، والقصص التي أذيعت عنها أثارت في نفوس الشباب دهشة وإعجاباً، بالضبط كما كان يحدث في أوروبا قبل ذلك مع الغرب وحكاياته".

يضيف هذا تعقيداً إضافياً إلى النموذج بعد الكولونيالي، أو ثنائية المستعمِر والمستعمَر المركزية فيه، إذ أن استنساخ هذه الثنائية يُمكن أن يستمرّ بهذه الطريقة حتى ينتج "سلسلة كولونيالية"، أعلاها مستعمِر محض، وأدناها مستعمَر أو مقاوم محض، وأوسطها مستويات متعددة من "المستعمِرين المستعمَرين".

ما وراء الثنائيات: تفكيك ميتافيزيقا الاستعمار

ترتكز ثنائية المستعمِر-المستعمَر نظرياً على مجموعة أخرى من الثنائيات المتناصّة، مثل السلطة ومقاومتها في نظريّة فوكو، أو ثنائية المتن والهامش في النظرية التفكيكية، أو ثنائية المركز والطرف في نظرية التبعية. هذه الثنائيات متناصّة Intertextual بمعنى أنّها تُشكّل مجتمعة شبكة مفاهيمية واحدة، أو تترابط كأجزاء من طريقة كلية في النظر للعالم، تحيل فيها كل ثنائية من هؤلاء إلى الثنائيات الأخرى وتفترضها وتؤسّسها بالتبادل.

فمثلاً، في مجال النقد الأدبي، عندما تُدرس أدبيات المستعمَرات، يفترض الباحث بالضرورة كون هذه الأدبيات منتمية إلى "الهامش"، نقيض "المتن"، ما يعني كذلك أنّها تعبّر عادة عن وجهة نظر "مقاومة"، أي في مواجهة "السلطة". وفي مجال الاقتصاد تُدرس المستعمرات باعتبارها "أطرافاً"، هي امتداد لـ"مركز" مهيمن ومستغِلّ اقتصادياً، وهي تسعى من ثمَّ إلى إيجاد مساحات للفعل الاقتصادي المقاوم. تؤدي الرواية التي عرضناها سريعاً عن الوضع المصري-السوداني إلى ارتباك في هذا النوع من التحليلات، لأن الباحث يستطيع النظر إلى مصر من جهة باعتبارها مستعمَرة، ومن جهة أخرى باعتبارها مستعمِرة، ما يهدّد الاتّساق النظري البسيط التي تفترضه هذه الثنائيات كلّها.

تؤدي المثابرة في التمسّك بهذه الثنائيات إلى ما يمكن تسميته "ميتافيزيقا استعمار"، ونجد أبلغ تطبيقاتها في عمل تيموثي ميتشل الكلاسيكي عن استعمار مصر، إذ يظهر الاستعمار في هذا العمل كقوة ميتافيزيقية، أي كقوة لها حضور مستقل عن أي واقع اجتماعي تجريبي: يعبّر الاستعمار عن نفسه في الحضور الأجنبي، الفرنسي والبريطاني على السواء، ويعبر عن نفسه في جهاز الدولة المكوّن من مسؤولين محليين ومستشارين أجانب، ويعبّر عن نفسه في المؤسسات الاجتماعية الحديثة كلها. وأيّاً كانت التغيّرات التي تطال أجهزة الحكم ومؤسسات الدولة وسياسات مصر الداخلية والخارجية، فالاستعمار كليّ الحضور، مطلق النفوذ في مسام المجتمع وعقول أفراده، وليس له مع ذلك أي مركز اجتماعي واضح. لكنّه ذو اتجاه واحد، يبدأ بعيداً عند المستعمِر الأوروبي (باعتباره وحدة مغلقة)، وينتشر للأسفل. وفي هذه الرواية ليس ثمة أي شيء يمكن قوله عن بُنى اجتماعية نوعية. هناك "مصر" فقط التي دخلت في علاقة مستعمِر-مستعمَر مع "أوروبا"، ثم بدأت عجلة "التحديث الاستعماري" بالدوران مستقلة.

"ميتافيزيقا الاستعمار" هذه هي مجموعة من الافتراضات المبسّطة بشأن طبيعة الظاهرة التي نُسمّيها استعماراً. وهي تتميز أولاً بكونها "أنثروبومورفيّة"؛ أي أنّها تصوّر علاقة الإخضاع بين المستعمِرين والمستعمرات كأنّها علاقة بشريّة. بهذه الطريقة، فهي تجعل القسر الذي يمارسه المستعمِر على المستعمرات أقرب للقسر المباشر. كأنه قسر يمارسه شخص مسلّح على آخر أعزل، وليس قسراً سياسياً تقليدياً كالقسر الذي تمارسه الدولة. توصف هذه العلاقة أيضاً بأنّها علاقة قسرٍ بين وحدات مستقلّة - هي الدول القوميّة. فقد نشأ الاستعمار مع نشأة الدول القوميّة لأنه يفترضها، أما الإمبراطوريّات السابقة للدول القوميّة فلم تكن تسمّى "استعماريّة" بأي معنى من المعاني. وعلى الرغم من تحلّل الدولة القومية كوحدة تحليلية ذات فائدة، فقد بقي الاستعمار في صورته الأوّلية البسيطة هذه مفهوماً ذا قيمة تحليلية، وعلى الرغم من سواد الرأي القائل بأن "الدولة القومية" ليست أكثر من مركب أو بنية اجتماعية Social construct، فقد ظلّ "الاستعمار" محتفظاً بواقعية بسيطة لا تتعرّض للمساءلة.

يمكن ردّ هذا التقليد النظري إلى واحد من كلاسيكيات النظرية بعد الكولونيالية، وهو كتاب المفكر السياسي الهندي بارثا تشاترجي، "الفكر القومي والعالم الاستعماري: خطاب اشتقاقي"، الذي يدافع فيه عن مقاربة لفهم الحراك القومي ونشأة الدول القومية في المستعمرات بإحالتها إلى الواقع السياسي "الاستعماري" الأوروبي. وفق رؤية تشاترجي، تنفصل الدول القومية في العالم المستعمَر عن أي جذر اجتماعيّ محليّ، وتُختزل إلى نسخة باهتة ومصغّرة من أوروبا. فالدولة القوميّة بحسب تشاترجي ليست في الواقع إلا وسيطاً متعالياً، بما هي منبتة الصلة بواقعها و"مشتقة" من خارجه، لاستمرار حضور "الاستعمار" والواقع الناتج عنه.

من المفارقة أن كل هذه الرؤى التي لا تعتبر الدولة القوميّة والمجتمع في تحليلها إلا ظلالاً باهتة لأوروبا، إنما تُطرح أساساً باعتبارها نقيضاً لنزعة "المركزية الأوروبية". لكن هذه الرؤى لا تتساءل أبداً بخصوص ما إذا كانت أنماط الاستعارة الثقافية (التي توصف على أنها تحديث استعماري أوروبي) قد تكون مرتبطة بمشاريع سياسيّة محلية، وليست فقط حالّة من الخارج كقدر لا يمكن كبحه. إن مجتمع المستعمرات يتشكل كليّاً في النظرية بعد الكولونيالية من خارجه، وفاعليته الوحيدة الممكنة هي "المقاومة"، كما طرحها فوكو في محاضراته المتأخرة، وهي المحكومة عادة إما بالفشل أو التقوقع حول ماضيها.

الدفاع عن المجتمع، العودة إلى الطبقة

إن الارتباك الذي تؤدي إليه رواية الحضور الاستعماري المصري في السودان لا تعني فقط إمكان أن تشترك دولة قومية واحدة في كونها مستعمَرة ومستعمِرة، وإنما يعني علاوة على ذلك احتمالاً لتفكيك مقولة الاستعمار أوّلاً، وهذا بوضعه على قدم المساواة مع شتى أنواع الفعل السياسي. فبدلاً من فهم التحالفات السياسية والنشاط العسكري بالإحالة إلى وضع استعماري، ينحل الاستعمار نفسه إلى مكوناته البسيطة: أي أنماط التحالف السياسي والفعل العسكري التي تقوم عليها جماعات بشرية واقعية، من النوع الذي تسميه الحكمة الماركسية القديمة "طبقة".

تصبح هذه القضية أكثر وضوحاً، لا في حالة السودان فقط، وإنما بالنظر في واحد من نصوص القرن التاسع عشر المهمة الذي عانى طويلاً من الإهمال، بسبب إرباكه النظري. المقصود نص المقال الذي كتبه جمال الدين الأفغاني ونشرته جريدة Débats الفرنسية في مايو/ أيّار 1883، ردّاً على محاضرة ألقاها عالم اللغويات والمستشرق الفرنسي الشهير إرنست رينان في السوربون، ونشرتها الجريدة كذلك في مارس/ آذار من العام نفسه، ولم يُترجم كاملاً إلى العربية إلا في عام 2005.

القراءة المتأنية للنصّ تكشف عن كونه في الواقع لا يدافع عن الإسلام، وليس معنيّاً أصلاً بعلاقته بالعلم أو بغيره، إنّما هو هجوم على النظرية العرقية ودفاع عن العرق العربي ضدّ عنصرية رينان التي انبنت عليها محاضرته. لا يكتفي الأفغاني في رده بتأييد رينان في القول بتخلّف المسلمين، لكنه يؤيده أيضاً في نسب هذا التخلف إلى العقيدة، فيقول أنّ "مسؤولية العقيدة الإسلامية هنا مسؤولية كاملة. إنه لمن الواضح أنه في أي مكان استقرت فيه هذه العقيدة حاولت خنق العلوم واستخدمت بشكل رائع في مقاصدها عن طريق الاستبداد". وهو يعبّر وفق هذه الرؤية عن أفكار من قبيل أن "كل الأديان متعصبة"، وأنه "متى وُجدت الإنسانية فإن الصراع لن يتوقف بين المبدأ الدوغمائي والاختيار الحرّ، (أي) بين الدين والفلسفة"، وأن الدين فقط ضرورة للإنسانية في بداية مسيرتها الحضارية.

وفقاً لثنائيات ما بعد الاستعمار، يشغل الأفغاني الموقع الأيديولوجي المنتمي للمستعمِر والمستعمَر في الوقت نفسه. تماماً كما كانت الحركة الوطنية المصرية في علاقتها ببريطانيا والسودان. إن المخرج البسيط من هذا الوضع المنفصم يكمن في فهم هذا الموقع الأيديولوجي لا باعتباره منتجاً للاستعمار، وإنما باعتباره موقعاً أيديولوجياً للأفغاني نفسه ببساطة، كممثل عن برجوازية صغيرة حضرية كانت تزدهر وتزداد تأثيراً وطموحاً في حواضر الدولة العثمانية منذ القرن السادس عشر، وتتذبذب في الوقت نفسه بين موقف إنساني أممي وموقف هوياتي أصولي، يرتبط أساساً بتحالفاتها الطبقية، المتذبذبة كذلك، داخلياً وخارجياً.

في مقابل هذا التبسيط، تحاول قلّة من الباحثين دراسة حركة الخطاب في الثقافة والسياسة داخل الإطار البدهي للحراك الاجتماعي، مع وضع هذا الحراك في سياقه العالمي، ويمكن هنا الإشارة إلى جهود شريف يونس لإعادة فهم الأيديولوجيات الوطنية والإسلامية في مصر مثلاً، داخل إطار نظري عام مستوحى من نصوص مدرسة فرانكفورت. وطوال مسيرتها الأكاديمية، جاهدت المؤرخة المصرية نللي حنا من أجل إعادة فهم التحولات الثقافية المقترنة بالحداثة في مصر باعتبارها ثماراً لحراك اجتماعي أقدم كثيراً، ومن ثمَّ "محلي" أو "عضوي" إذا جاز التعبير، في مقابل تصور عكسي يجعل الاستعمار منشئاً لطبقات لم تكن موجودة قبله، فيعيد هيكلة المجتمع على شاكلته، ويخلق ثقافات جديدة في غير موضعها.

يؤدي مدّ هذا الخط على استقامته إلى مجموعة من المقولات التي لا يحبّذها منظّرو ما بعد الاستعمار: كالقول بأن مجتمعاتنا المحلية ربما تكون أنتجت، في تفاعل مع الحضور الأوروبي ولكن ليس بسببه، نسخها الخاصة من الفاشية، أو نزوعاً للتوسّع العسكري، أو دكتاتورية قد تكون حديثة لكنها ليست "مستوردة". وأنّ ما يُعرف عادة باسم الغزو الثقافي قد يكون من الأفضل أحياناً تسميته "استعارات ثقافية" مقترنة بمشاريع سياسية محلية لفئات اجتماعية معينة، وأحياناً تكون أفكار قد تطوّرت متزامنة في مواقع مختلفة من نسق عالمي واحد، أو في ظروف موضوعية متشابهة، وهذه كلها ظواهر إنسانية عامة لا ظواهر "كولونيالية".

إن نصيبنا من الحداثة والسلطوية والعلمانية والأصولية هو إرثنا التاريخي الخاصّ، وواجبُ نقدِهِ وتطويره لا يقع إلا على عاتقنا، وكل هذا بالطبع دون إنكار العلاقات المعقدة التي يترابط العالم وفقها، لكن عدم إنكار هذه العلاقات هو بالذات عدم اختزالها إلى العلاقات الثنائية السحرية للمستعمرين والمستعمرات، والمراكز والأطراف، والمتون والهوامش، والسلطة والمقاومة.