3 ديسمبر 2023

إسلام المستشرقين وإسلام المجاهدين.. لماذا لا يمكنهم فهمنا؟ 

<strong>إسلام المستشرقين وإسلام المجاهدين.. لماذا لا يمكنهم فهمنا؟ </strong>

تثوير الأفكار والمفاهيم؛ أحد أعظم المنح التي ينبغي استثمارها في معركة "طوفان الأقصى". ومن هذه المفاهيم مفهوم "الاستشراق".

كلا، لا تمل أيها القارئ من السطور الأولى فتقول: ما علاقة الاستشراق بالطوفان؟! فإني لستُ محدثك عن صلة "الاستشراق" بالاستعمار، ولا عن الجدل الفكري حول الاستشراق وموقعه، ولن أتلو عليك ما سمعته مراراً حول علمية كتابات المستشرقين من عدمها، ودرجات الاستفادة الممكنة منها. 

أعدك -من مطلع المقال- أنك لن تجد شيئاً من هذا الجدل، فالوقت وقت حرب، لا وقت هزل أو ترف فكري!

سوف أحدثك عن أمر آخر، وأخبرك به منذ البداية، وسترى البرهنة عليه في النهاية، فلا تعجل؛ ألا وهو: لماذا إسلام المستشرقين وإسلام المجاهدين ضدان لا يجتمعان؟

مشهد 1: في سبيلك يا رب

إذا أراد باحث غربي أن يكتب دراسة عن دوافع الانضمام إلى كتائب المقاومة في جهادهم (وسيُسميه باحثنا: عنفهم أو تطرفهم بأحسن الأحوال)، فلا بد أن يُؤطر بحثه بشيء من التوصيفات المادية والتحليلات الاقتصادية والأبعاد الفكرية والإثنية وربما الأمنية، وكل ذلك -بالطبع- وفق مِنهاج (براديم) مُعد سلفاً، وما عليه إلا أن يملأ فراغاته بصورة شبه آلية. فإن فعل ذلك، ستنشر دراسته في الغالب، وربما تحظى بحفاوة محلية وعالمية. والذي اعتدنا عليه من الدراسات الجادة في هذا الباب، أنها كثيراً ما حوت شيئاً من المعلومات الصحيحة، وكثيراً من التحليلات والخلاصات الخاطئة!

لكنا نريد -نحن عينة الاختبار من المشارقة- أن نُهدي باحثنا نصيحة تجعل بحثه أكثر فاعلية، وإن له لصادقون. وأول ما نقوله له: أن "البرادايمز" والمنهجيات التحليلية التي اعتدت عليها، لن تسعفك في قَصّ الرواية الحقيقة لهؤلاء الناس. بل عليك أن تبتعد عن كل هذه التوصيفات المُعدة سلفاً، وأن تتخفف من المناهج الكثيرة التي أتيت بها من بلاد الجليد لتطبيقها على بلادنا الملتهبة، وأن توفر على نفسك وقت وعناء المقابلات الميدانية التي ستجريها عبر الإنترنت لما هو أهم مما سنخبرك به، ولتعلم أنه سيُنظر إليك كجاسوس وأنت توجه الأسئلة لأهل البلد المنكوبين، سيما وأن أهالي المبحوثين مازالوا تحت الأنقاض.

اقرؤوا المزيد: خطاب حقوق الإنسان: نهاية وأي نهاية!

وبعد أن تترك كل هذا، فعليك أن تتجه إلى شيء واحد تفحصه، ألا وهو كلمات المجاهدين في إصدارات "الإعلام العسكري". ففي خلجات أصواتهم يكمن كل شيء!

كلا كلا، لا نريدك أن ترى مشاهد القتل المروعة -لا سمح الله-، فلست في حاجة لرؤية مجاهداً يُجابه صهيونياً مرتعش الأركان، محصن داخل مدرعة من أحدث طراز، بينما صاحبنا حافي القدمين، عاري الصدر، لكنه ينتظر في تؤدة وثبات غير آبه به ولا بمدرعته، وقد حدد هدفه بين عينيه في هذه المدرعة الفاخرة؛ فإما أن ينسفها أو أن تنسفه! ويستوي عنده الأمران. نعم، يستوي عند مجاهدُنا أن ينال هو من عدوه أو ينال عدوه منه، ففي كلا الحالتين يُردد قول خبيب بن عدي لما قتله المشركون:

وقد خَيَّرُوني الكُفرَ والموتَ دُونَه *** وقدْ هَمَلَتْ عَيْنايَ من غَيرِ مَجزَعِ 

وما بي حَذارُ الموتِ، إني لميّتٌ *** ولكنْ حَذاري جُحْمُ نارٍ مُلَفَّعِ 

فلستُ أُبالي حِينَ أُقتَلُ مُسلِماً *** على أيِّ جَنْبٍ كانَ في اللهِ مَصرَعي 

تجاوز هذه المشاهدة بسلام. إنما نريد منك ما هو أبسط من المشاهدة بكثير. نريد منك فقط أن تُنصت فقط. أن تنصت لكلمات المجاهدين الأخيرة وأنت جالس على كرسي مكتبك من خلف البحار. وإن شئت فلتجعل بحثك في اللسانيّايات، أو لتؤسس فرعاً جديداً ولتُسمه "اللسانيات الجهادية".

وعندما تُنصت إلى الكلمات الأخيرة التي نطق بها هؤلاء المجاهدون، ستعلم أنها أكبر واصف لنواياهم وبواعثهم وغاياتهم التي تود معرفتها. فليس بينهم وبين الموت سوى بضع ثوانٍ، فكيف يتصنّع من يواجه الموت من المسافة صفر؟! ستجدهم يصدحون عند مواجهة عدوهم:

  • "وجعلنا من بين أيديهم سداً ومن خلفهم سداً فأغشيناهم فهم لا يُبصرون".
  • "وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى".
  • الله أكبر.
  • في سبيلك يا رب.
  • كلنا في سبيل الله، فِدا فلسطين.

كلمات وعبارات كثيرة ستسمعها، يجمعها اسم الله سبحانه وتعالى! كلمات كثيرة، ربما يسهل ترجمتها إلى الحرف اللاتيني، لكن الذي يشق على أهل هذا الحرف هو فهم معانيها -تمام الفهم- إلا لمن خالطت قلبه بشاشة الإيمان. بل ربما تتسائل وأنت ترى إقدامهم: لماذا يحب هؤلاء الموت إلى هذا الحد؟ لماذا لا يستسلمون أمام هذه القوى التي لا يتكافؤون معها بالعدّة والعتاد؟ 

وأنت معذور في سؤالك هذا. فغالب أمرك أنك لا تؤمن بحياة بعد الموت، أما مجاهدينا فكلهم يحفظ حديث رسوله أن الشهيد يُعصم من فتنة القبر فـ "كَفَى بِبَارِقَةِ السُّيُوفِ عَلَى رَأْسِهِ فِتْنَةً". [رواه النسائي]. 

فاصل دُوغمائي

إن مثل هذه النفسية الإيمانية التي يقاتل بها المؤمنون المجاهدون لعصية على التحليل المادي. إنها نفسية يصعب تأطيرها في نماذج التفسير الأحادي كالتي يستخدمها باحثنا. أما تفسيرها عند المؤمن العامي -الذي لم يسمع باسم هارفارد أو أكسفورد أو لايدن- فسهل ميسور، فإن رحابة الإيمان تُفسر له ذلك بأفضل بيان وأفضل عبارة، بعد أن تخرجه من ضيق المادية ومناهجها إلى سعة الدنيا والآخرة. يكفي هذا المسلم العامي أن يقرأ قول ربه: "وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ۞ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ۞ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ". [آل عمران 169-171]. كما يكفي هذا العامي أن يمر على مسامعه حديث رسوله ﷺ: "والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ وَدِدْتُ أَنِّي أُقاتِلُ في سَبيلِ اللَّهِ فَأُقْتَلُ، ثُمَّ أُحْيا ثُمَّ أُقْتَلُ، ثُمَّ أُحْيا ثُمَّ أُقْتَلُ، فَكانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يقولُهُنَّ ثَلاثًا، أَشْهَدُ باللَّهِ". [متفق عليه]. يكفي المؤمن العامي أن يُلقي إلى بيانات الوحي مسامعه ولو لمرة في حياته، ليرسخ في وجدانه معنى "الموت في سبيل الله". وساعتها لن يستشكل: لمَ يستبسل هؤلاء الأبطال في معركة غير متكافئة؟ ولمَ يبع الواحد منهم نفسه رخيصة لربه سبحانه وتعالى؟ فهو لن يعرف الجواب فحسب، وإنما سيتمنى -وكل مؤمن كامل الإيمان- أن يكون مكان أخيه، فهو يشاركه المعركة والمصير. سيتمنى ذلك دون أن يدرس فصلاً في "السوسيولوجيا السياسية"، أو يلتحق ببرنامج "فض النزاعات"، ودون أن يقرأ شيئاً عن "ترويض المليشيات". 

اقرؤوا المزيد: من بدرٍ الكُبرى إلى طوفان الأقصى

سيُدرك المؤمن العامي -بإيمانه وفطرته- أن الدافع لكل ما يحدث في أرض غزة -وغيرها من أراضي الإسلام- إنما هو الإسلام. لن يستغرب فعل المجاهدين، بل يرى أن مثل هذا الفعل، إنما هو الفعل البَدهي الذي ينبغي فعله، ويكرّر مع زهير قولته:

وما الحربُ إِلّا ما عَلِمتُم وَذُقتُمُ *** وَما هُوَ عَنها بِالحَديثِ المُرَجَّمِ

كل ذلك يُدركه المؤمن العامي دون دندنات ثقافية أو حكاوي نخبوية أو دراسات امبريقية. ولن يهتم بـ "تحليل الخطاب الجهادي" كما سيفعل باحثنا في بحثه، بل يسمع كلمة "في سبيلك يا رب" من أخيه فتدمع عينه ويرقّ قلبه ويتمنى موطنه.

إن المعادلة لدى المسلم العامي واضحة لا لُبسَ فيها. هذا هو الإسلام، وهؤلاء هم أتباعه، وهؤلاء هم الكفار، وهم أعداء الله. و"إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ۚ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ۖ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ ۚ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ ۚ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ ۚ وَذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ". [التوبة 111].

استدراك رقم 1: لا نُزهد باحثينا العرب من الاستفادة من مِثل هذه التخصصات بالطبع، لكننا نؤمن -تمام الإيمان- أن كل تحليل يستبعد إيمان مثل هذا المؤمن العامي من المعادلة إنما هو تحليل ناقص، ومعارك الإسلام الكبرى شاهدة على ذلك: بداية من بدر الكبرى، إلى طوفان الأقصى، وحتى قتال المسيح بن مريم للمسيح الدجال.

مشهد2: الاستشراق والجهاد.. ضدان لا يلتقيان

الدارس في أحد الجامعات الأوربية التي تُعنى بالإسلام والمنطقة الشرقية، في أي برنامج دراسي من البرامج التي لا تنتهي أسماؤها عند القوم: "ثقافة وحضارة الإسلام"، "دراسات شرق أوسطية"، "دراسات إسلامية"، "علوم سياسية"، "دراسات أنثروبولوجية"، "دراسات مناطقية"، إلخ؛ يعلم أن الفعاليات الثقافية وورش العمل لا تتوقف على مدار العام الدراسي. فأي شيء -مهما كان هامشياً- مرحب به، ومسموح الحديث فيه. والشعار المرفوع: ليس هناك تابوهات في قاعات الجامعات. فإلى جوار المحاضرات والندوات الدراسية ستجد عناوين فعاليّات وأبحاث متباينة، مثل:

  • الوفاق بين الإسلام والمثلية: السُبل الفقهية.
  • تحديث الإسلام ومأزق التراث: قراءة في مدونة الأسرة المغربية.
  • تصميمات المساجد في بلجيكا والعلاقة مع البيئة والطاقة المتجددة.
  • كيف يضحك المصريون؟ الكوميكس في مصر الحديثة.
  • الثورة، الحجاب، الملالي.. اضطهاد المرأة في طهران وبواعث الثورة الجديدة.
  • قطر وكأس العالم ومعاناة الأقليات.
  • صور النساء في قصص حريم السلطان.
  • تاريخ النباتية والنباتيون في الإسلام.

وغيرها الكثير والكثير من عناوين المحاضرات وورش العمل، التي لابد وأنك واجد مثلها في الأقسام المهتمة بمنطقتنا في جامعات الغرب، إلى جوار أضعافها حول السامية ومعاداتها بالطبع. حتى يُخيّل إليك -من كثرة الموضوعات- أن القوم قد أنهوا كل مسائل العلم، وانتهت كافة مشاكل "الشرق الأوسط"، ولم يبق إلا "حكاوي القهاوي" عن منطقتنا المنكوبة.

اقرؤوا المزيد: ما تحت البدلات الأنيقة والعودة إلى البديهيّات

أما في "الشرق الأوسط" ذاته، موطن الدراسة والبحث الحقيقي، المكان الذي تعيش فيه "عينات الاختبار المدروسة"؛ تُقصف بُقعة جغرافية مساحتها 360 كم مربع يومياً بأطنان المتفجرات، ويُمنع عن أهلها الماء والطعام الوقود، ويُستشهد فيها أكثر من عشرين ألفاً! 

لاشك أن هذا حدث كبير وضخم ومهم، لا يقل أهمية -وأستغفر الله من المقارنة- عن بعض ورش العمل المذكورة بالأعلى، وبالتأكيد أنه أكثر أهمية من ندوة حول "النباتيون في التراث الإسلامي"، وأكثر أهمية من الحديث عن "دراسات الجندر في عالم شرق أوسطي متحول". لاشك أن غزة الآن هي صلب اهتمام كل سكان الشرق الأوسط. ومع ذلك، فلم أسمع بأي فعاليّة واحدة في أقسام دراسات منطقتنا وإسلامنا، في الجامعات الألمانية على الأقل (لأنها محل دراستي واشتغالي). 

يُخيّل لي أحياناً أن القوم يدرسون شرقاً أوسطياً غير الذي يعيش فيه أهل الشرق الأوسط أنفسهم؛ شرقاً مرسوماً بالأبعاد التي يريد الرجل الأبيض رسمها كما يُعبّر إدوارد سعيد. حتى تشعر لوهلة أن كل الإنتاج النظري الذي خلّفه القوم وراءهم لا قيمة له طالما لم يشتبك اشتباكاً -ولو بعيداً- مع الشرق الأوسط الحقيقي الساخن، بينما المجاهدون يشتبكون من المسافة صفر بأقدام حافية!

إنني لا أتهم المؤسسات الاستشراقية بالتحيز في هذه الواقعة، بل العكس تماماً هو ما أتهمها به. مشكلة هذه المؤسسات (أو كثير منها على الأقل)، أنها على الحياد فيما ينبغي عليها أن تشتبك فيه. الحياد بمعناه البارد الذي يُضيّع معالم القضية الكبرى، ويطفئ نار الحرارة التي يستشعرها مُجاهدنا أمام الدبابة.

في كتابه "من الانتفاضة إلى حرب التحرير الفلسطينية"، يلحظ عبدالوهاب المسيري أن الغرب دوماً "بارد" في تعامله الإعلامي والأكاديمي مع جميع قضايانا "الساخنة". يقول: "... وكأنه يرصد انتخابات البلدية في بوليفيا، أو مسابقة ملكة جمال العالم، أو تزايد عدد القطط في زنجبار. ولذا فالانطباع العام الذي يصلنا هو أن الفلسطينيين شعب يقاتل لأنه من هواة القتال الذي لا يُرجى من ورائه فائدة ويضحي بنفسه لأنه يستعذب الألم"1عبدالوهاب المسيري، من الانتفاضة إلى حرب التحرير الفلسطينية. دمشق (دار الفكر المعاصر - 2002) ص9..  يُكرّر المسيري هذا المعنى عدة مرات في كتبه المختلفة، وفي أحد النصوص المكثفة يقول ناقداً هذا السلوك البارد، ومن المهم "الابتعاد عن الدراسة الأكاديمية التي تدرس الشيء في حد ذاته وتسوّي بين الموضوعات وكأن دراسة عدد القطط في زنجبار يعادل دراسة أثر الانتفاضة في المجتمع الاستيطاني الصهيوني"2عبدالوهاب المسيري، الموضوعية المادية الاختزالية والتفسيرية المركبة، مجلة الجامعة الإسلامية العالمية، المجلد 49، العدد 3، السنة 2014.. فباسم الأكاديميا والحياد والموضوعية تُخلق سردية فاترة باردة، ويضيع جوهر القضية الأصلية3لاشك أن هذا البلاء يزيد عندما يؤمن بعض بني جلدتنا أن مواقعهم الأكاديمية تعني الانسلاخ من الاشتباك مع قضايا أمتهم، ويبررون هروبهم بأسماء مثل الحياد والموضوعية وغيرها من المسميات الرنانة..

لا أريد أن ندلف إلى متاهات الفلسفة والفكر وإبستمولوجيا العلوم، لكن من الجدير بالذكر أن قضية الحياد الموضوعية الأكاديمية -بهذا المعنى العقيم- تعرضت إلى نقدٍ قاسٍ في الغرب قبل الشرق. فـ"لقد أوهمتنا الموضوعية أن العلم خالٍ من القيم، وأن أحد أهمّ عوائق تقدّم العلم قد تجلت في تمسّك رجالاته بمرجعياتهم العقدية واختياراتهم الأخلاقية… غير أنه إن سلّمنا جدلاً بذلك… فإن ادعاء الموضوعية بإمكان قيام مجتمع علمي محايد أخلاقاً يبدو أمراً متعسّراً. ووجه الاستدراك هذا نابع من كون الممارسة العلمية… ممارسة إنسانية ينهض بها أناس يجوز في حقّهم ما يجوز في حقّ كل البشر من أعراض التحيّز والانتماء والتخلّق والالتزام، لا يمكن أن ترد إلا في صورة ممارسة متحيّزة لمسلّمات وأفكار سابقة عن العلم… لتحقيق غايات وأهداف ما فوق العلم. كيف لا؟ والأصل أن المشروع العام للعلم نفسه والغاية النهائية منه تتجسد في ذاك الشوق نحو إنتاج تفسير شامل كلّي ونهائي للعالم، وما من تفسير للعالم إلا وسيثير، تلقائياَ، خلفيات ومسلّمات سابقة عن العلم ومؤطرة له، وُعيَ بذلك، أو لم يوعَ به"4محمد الطويل، الموضوعية باعتبارها علمنة: دراسة في الخلفيات الفلسفية والمآلات الأيديولوجية للموضوعية الحديثة، مجلة تجسير، المجلد الثالث، العدد 1، 2021..

وهذا الكلام شواهده واقعية كثيرة جداً. وأذكر أنني سألت أحد الأساتذة الأوروبيين مرةً: لم تكثر هذه الفترة المحاضرات عن الوفاق بين الشذوذ والإسلام؟ فأجاب بكلام طويل، وكان من جُملته: "... وكثير من هؤلاء الأساتذة الذين يقومون على هذه الفعاليات هم أصلاً شواذ". والحق أنه قد أعجبني صراحة الرجل. فعبارته بصياغة أخرى: أحد الدوافع البحثية هي ميول صاحبها. هكذا بكل وضوح وصراحة، ولا عجب في أن تفرض الخلفية المعرفية أو الشخصية للباحث نفسها على أجندته البحثية. وواهم من يظن أن خلفية الباحث وميوله لا تلعب دوراً في تحديد أولويات بحثه. فكما يقول المستشرق باترك فرانكي: "الذي يحدث بالطبع أن بعض الباحثين أحياناً قد يتعاطف مع موقف حزبي سياسي بعينه، فينعكس هذا الموقف على أبحاثه الأكاديمية. فنجد مثلاً أن بعض الباحثين يميلون في أبحاثهم إلى المسائل الأمنية، بينما يركِّز البعض الآخر على سياسات اندماج الأجانب في المجتمع الألماني".

هذا البرود بالتحديد هو أكبر مفارقة بيننا وبين الاستشراق والمستشرقين (وفق التسمية القديمة لهم)، أو بيننا وبين "خبراء الشرق الأوسط" (بالمسمى الوظيفي الجديد). 

إنّ مشكلة الاستشراق الكبرى ليست في إنصافه من عدمه، وليست في ارتباطاته الداخلية والخارجية، ولا بأهدافه المشبوهة أو البريئة. فكل ذلك يسهل كشفه وبيانه من الباحثين المتخصصين، ويحمل هذا الدين من كل خلف عدوله. لكن مشكلة الاستشراق الكبرى -المجحف منه والمنصف- في تعامله البارد مع قضايانا الساخنة، في دراسته وتعامله مع مجاهدينا كما لو أنهم طبقة من المهمشين اجتماعياً والمأزومين والمكبوتين نفسياً، الذين يرغبون بالقتل والفتك نتيجة سوء الأحوال الاقتصادية التي تعرّضوا لها!

قبل سنوات حضرت أحد الفعاليات العلمية بإحدى البلاد الأوروبية، فلما عرض أحد المحاضرين مادته، وهو من المتخصصين في الإسلام في منطقة جنوب شرق آسيا. وأشهدُ أنني استفدت من هذا المحاضر. لقد كان عارفاً بجغرافيا هذه الديار البعيدة التي نعرف عنها القليل، وكان عارفاً بأعراق أهلها، ومذاهبها، وأبرز علمائها. وأعظمتُ دأبه وتعلّمه لغة القوم -إلى جوار العربية وبعض اللغات الأوروبية- حتى نويت التعرّف عليه. ذهبت إليه بعد العرض، عرّفته بنفسي وتعرّفت عليه، ثم فتح زجاجة من الـ Club Mate (نوع من الكُولا الألمانية، والحمد لله أنه لم يفتح بِيرا وإلا تركته من فوري)، وما إن فتحها حتّى شعرتُ أنني ضللت الطريق.

اقرؤوا المزيد: طوفان الأقصى: يا بنيّ اركب معنا

لماذا؟ لقد كنا في رمضان. وكنت قادم منذ أيام من بلدٍ مسلم يُصلّي فيها التراويح إمام كأن القرآن يتنزل علينا. كانت حرارة الإيمان مازالت معي في هذا اللقاء. وصوم رمضان عندنا -نحن أهل الإسلام- ركن لا يكتمل إسلام مسلم إلا بصيامه. فلما فتح هذه الزجاجة في هذا الشهر المعظّم، استنكرت في نفسي ذلك الانفصام بين قوله وفعله.

ربما يعاتبني أحدهم ويقول: عليك الاستفادة من الناس أيما كانت مذاهبهم وأديانهم، وأن تأخذ الحق منهم، بصرف النظر عن مذاهبهم!

وإني لأشكره على هذا النصح أولاً، ولِيعلم -ثانياً- أني أفعل ذلك -والحمد لله-، وأني عقدت مع هذا الباحث قرابة ستة مجالس لأستفيد مما عنده، وذهبت إليها جميعها بقلم وكُرّاس، ودامت تواصلاتنا، وأهديته تمراً مَدَنيّاً لمّا عرفت محبته له. ولكن ذلك لم يُغيّر هذا من نفسي شيئاً، فإني لم أعايش الإسلام -الذي عرفته- بهذا الانفصام الحاد بين كلام المتحدث عنه وسلوكه. 

وفي كل مرّة جلست فيها في مكتبة أنيقة على كراسي مريحة، خلال جلسة ثقافية "باردة" في بلاد الغرب، لنقاش شيئ حول الإسلام، ثمّ تذكرت أناساً في الأنفاق يجابهون الموت، وأجنّة يُودّعون باطن الأرض قبل أن يخرجوا إلى ظهرها، أو حتى تذكرت أساتذة ومربين يبثّون في شباب المسلمين ما اندثر من أمر دينهم؛ إلا زهدت في مثل هذا المجلس، وفي الكرسي الذي أجلس عليه، وربما لاحت في ذهني عبارة: "ليس هذا هو الإسلام"، وليس الطريق من هناك، وليس من المهم الآن أن ينشغل هؤلاء الناس بتاريخ النباتين في تراثنا، بينما تبحث شعوبنا عن بصيص أمل في درب الحرية المنكوب!

لقد خرست عامة أقسام الشرق الأوسط عن الحديث عن غزة ولم تقل كلمة واحدة، وهي التي تقول كل شيء في كل شيء! والسبب الأكبر -من وجهة نظري- ليس الرغبة في قتل أهل هذه المنطقة، وإنما أن الأمر كله لا يعنيهم! وأن غزة لا تعنيهم! وأن قضايانا الساخنة ليست قضاياهم! إنه البرود التام الذي ينطلقون منه في كل تعامل مع الإسلام. فالإسلام الذي يعمل في رحابه المستشرقون إنما هو "فلكلور" ثقافي يُسمى الإسلام، هو إسلام الحياد اللامسؤول، إسلام تعدد وجهات النظر في كل شيء وأي شيء مهما كان مُنحرفاً! ولو آمن بطلنا حافي القدمين بمثل هذا الإسلام وهو يجابه المدرعة بقذائف الياسين، لحُق له أن يستسلم منذ زمن، وأن يُوجد لنفسه موطئ قدم للعمل في تل أبيب!

أكرّر مرة أخرى، إن مشكلتنا الكبرى مع الاستشراق (وباحثيه) ليست في صوابية وخطأ آحاد الجزئيات، ولا في إنصاف باحثيه أو إجحافهم، ولا في تكوينهم الفكري والثقافي ونظرتهم للإسلام وحسب. كل هذه الأمور -على أهميتها- هي أمور ثانوية. أما الخلاف الحقيقي في أن الاستشراق لا يرى ديننا هو الدين، فهو عندهم مثل الدراسات البوذية. دراسته أمر مهم للثقافة والفنون والآداب، وبالطبع الأمن والاستخبارات، لكنه ليس شيئاً فوق ذلك. أما نحن فنؤمن بـ (إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ). [آل عمران 19].

استدراك رقم 2: لا شك أن في كتب المستشرقين المنصفين نفع، وبعضها أساسي في بابه، لكن هذا ليس موطن الحديث، فتنبّه! أحبّ تشبيه المستشرق المنصف في تعامله مع الإسلام بالطبّاخ الماهر الذي عنده حساسيّة من طعام شهي يتقن عمله، لكنه لن يذوقه أبداً، ولن يتلذذ بحلاوته ما حيا. أما المجاهد فإنما همّه أن يتذوق حلاوة الإيمان.

مشهد 3: عود على بدء

قبيل الطوفان كنت أرى مُسلّمة "برود القوم مع قضايانا الساخنة" أمام عيني دائماً، وكانت تُزكيها لدي الكتب المترجمة حول الإسلام. فنحن لدينا إسلامان: إسلام الفلكلور وإسلام المؤمنين. فلما أتى الطوفان قطع جهيزة كل خطيب في البيان عن هذا المعنى عملياً، وأن مثل هذا البرود هو موقف أساسي وليس حدث عابر، حتى قال بعض أصاحبنا: "أفضل نقد عملي وُجه إلى أفكار الحداثة الغربية هو نقد أبي خالد الضيف" وذلك مصداق قول أبي تمام:

السَيفُ أَصدَقُ أَنباءً مِنَ الكُتُبِ *** في حَدِّهِ الحَدُّ بَينَ الجِدِّ وَاللَعِبِ 

بيضُ الصَفائِحِ لا سودُ الصَحائِفِ *** في مُتونِهِنَّ جَلاءُ الشَكِّ وَالرِيَبِ 

وَالعِلمُ في شُهُبِ الأَرماحِ لامِعَةً *** بَينَ الخَميسَينِ لا في السَبعَةِ الشُهُبِ

لقد نصحنا باحثنا الغربي في مطلع المقال بأن يسمع كلمات المجاهدين الأخيرة قبيل الإقدام أو الاستشهاد، ليعرف ما الذي يُحرّكهم إلى الموت، لإتمام دراسته عن "دوافع الالتحاق بالمقاومة في غزة". لكنا نهديه الآن نصيحة أكبر من أختها، إن هو قبلها. فإذا أراد هذا الباحث أن يصنع موسوعة متكاملة حول دوافع المجاهدين في الإسلام، وليس بحثاً صغيراً لدرجة عملية، فننصحه أن يسمع الأصوات جميعها، ويقارنها بسوابقها، فهنا يرى امتداد ماضي هذه الأمة بحاضرها. 

اقرؤوا المزيد: معركة طوفان الغائبة.. من يملأ الفراغ الفكري والسياسي؟

يسمع قول أبي الشهيد وهو غير آبه بالموت، يقول لمن حوله: "متعيطش يا زلمة.. أنت زلمة.. كلنا مشاريع شهداء"، ثمّ يقارنه بقول خالد بن الوليد رضي الله عنه لمرازبة فارس: "فقد أتيتكم بأقوام هم أحرص على الموت منكم على الحياة"5محمد بن جرير الطبري، تاريخ الرسل والملوك، دار المعارف (مصر - 1967م)، ص334/3.، وعندما يقارن باحثنا الصوتين ونبرة الحديث وطبقة الكلام سيعلم أن المشرب واحد.

ننصحه أن يرى هذا المشهد المهيب -الذي نقف له إجلالاً- وهو تهنئة أم الشهيد بزَفَة فلسطينية خاصة بأصدق الهتافات: "يمّ الشهيد نيالك يا ريت أمي بدالك"، ثم يقارن هذا المشهد بواحدة من أرثى نساء العرب، الخنساء التي كادت نفسها تنفطر لما فقدت أخاها في الجاهلية:

أعيني جودا ولا تجمدا *** ألا تبكيان لصخر الندى 

ألا تبكيان الجريء الجميل *** ألا تبكيان الفتى السيدا

ثم لما استشهد أبناؤها الأربعة، ودّعتهم بالحمد والاسترجاع والاحتساب في سبيل الله، ولم تقل فيهم كلمة وراء ذلك. فإن باحثنا إن طابق صوت الخنساء وصوت هذه الأم الفلسطينية، فسيجد النبرة واحدة، والصوت واحد، والإيمان واحد.

ثم بقي له شيء واحد ليُخرج بحثه آية من الإتقان، وهو أن يترك برود بني جلدته، ويستشعر الكلمات كما هي. بصدقها، وقوتها، وحرارتها، ونغمتها، وعلوّ عزتها. فإن فعل ذلك باحثنا فإنا نضمن له أن يطوّر نموذجاً تفسيريّاً جديداً لم يُعرف بعد في قاعات جامعات الشمال بعد. وإن أبى أن يسمع نصيحتنا -وهو الظن به-، ورأى كلامنا حديث "الدوغمائين"، فليسمع نصيحة ملك الإمبراطورية التي تقع فيها جامعته، فقد عاصر النبي وسمع عنه من أعدائه وليس أصحابه، فلما سمع منهم عن محمد وصحبه، وصفهم بوصف ينطبق على أمهات وآباء وأزواج شهدائنا: "وكَذلكَ الإيمَانُ، حِينَ تُخَالِطُ بَشَاشَتُهُ القُلُوبَ لا يَسْخَطُهُ أحَدٌ"، وأما عن محمد فقد قال: "فإنْ كانَ ما تَقُولُ حَقًّا فَسَيَمْلِكُ مَوْضِعَ قَدَمَيَّ هَاتَيْنِ". [حديث هرقل - صحيح البخاري]. 

ونعم والله، لا يشك المجاهد حافي القدمين من أن دين محمد سيملك يوماً موضع قدمي هرقل، كما لا يشك في تحرير الأقصى.

استدراك رقم 3: إذا التزم باحثنا بما أشرنا به عليه، فإننا نضمن له صوابية التحليل، لكنا لا نضمن له إمكانية النشر.