19 أبريل 2022

كريم مفارجة: انقطَعَ عملُه إلّا من فتيلٍ مُتفجِّر

كريم مفارجة: انقطَعَ عملُه إلّا من فتيلٍ مُتفجِّر

شارع عصيرة، شمال نابلس، 22 يناير/ كانون الثاني 2002. وحدات إسرائيليّة خاصّة تقتحم شقّة أرضيّة في عمارة سكنيّة مكوّنة من تسعة طوابق، وتغتال أربعة فلسطينيين بإطلاق الرصاص المُتفجّر عليهم والقذائف الحارقة. شهادات الناس الذين دخلوا الشقّة تشير أنّها كانت مُحترقة بالشهداء الأربعة؛ جثّة على مدخل الشقّة، وجثّتان داخل إحدى الغرف، أمّا الرابعة فكانت هامدةً في الحمام، مبتورة اليد والقدم وقد قُلعت منها العينان، فيما يبدو تعرّض الشهيد للتعذيب والتشويه خلال تحقيقٍ ميدانيّ، قبل أن يُطلق النار على رأسه مباشرةً من مسافةٍ قريبةٍ وتُحرق جثته.

بعمليّة الاغتيال هذه، استُشهد ثلاثة من أبرز قادة العمل العسكريّ وتصنيع المُتفجّرات لحركة "حماس" في نابلس: الشيخ يوسف السركجي، جاسر سمارو، نسيم أبو الروس. أمّا الرابع، الذي كانت جثّته هادئةً ومطمئنّة لمصيرها كما كانت من قبلُ في حياتها، فهو الشهيد كريم نمر مفارجة.

البناية التي استشهد في إحدى شققها الشهداء الأربعة.

من رام الله إلى نابلس

وُلد كريم مفارجة في بلدة بيت لقيا شمال غرب رام الله عام 1977، لأسرة مُحافظة ومُلتزمة دينيّاً. وفي فتوّته وشبابه شهد الانتفاضة الأولى. وكان فاعلاً في بلدته، فأشرف على النشاط الدعويّ فيها، وعلى فرقة للأناشيد الإسلاميّة.1مذكّرات الأسير سليم حجّة، 2015، درب الأشواك: صفحات من تاريخ المقاومة في فلسطين، 199.

تمتّع كريم بصفاتٍ شخصيّة حسنة، وطبائع ستُعينه لاحقاً في نشاطه. في مقابلة مع "متراس"، يقول شقيقه حسن عنه: "رجل غامض وكتوم، قليل الكلام، وصاحب حركة هادئة. شخصيّة قياديّة، يتمتّع ببنية جسديّة ضخمة وقويّة. شديد التركيز وسريع التعلم فإذا ما أراد تعلّم شيء أتقنه؛ تعلّم البناء في إحدى العطل الصيفيّة وعمل بها مع والدي".

أنهى كريم الثانويّة العامّة من الفرع العلمي، وبالرغم من حصوله على منحة لدراسة الهندسة في اليمن والإعلام في جامعة بيرزيت والعلوم في جامعة القدس، إلا أنّه التحق بكلية الشريعة في جامعة النجاح عام 1997. وفي الجامعة، نشُط في الكتلة الإسلاميّة، فانتُخب من سنته الدراسيّة الأولى في مجلس الشورى، ثمّ ترأّس بعدها اللجنة الاجتماعيّة في مجلس الطلبة بدورته 1999-2000. 

منذ أن التحق بجامعة النجاح وسكن في نابلس وكريم بالكاد يعود إلى بلدته. لاحقاً، انعكس ذلك، بما تضمّنه من بناء شبكة واسعة من العلاقات، على مُجمل حياته.

من كرم الزيتون إلى سجن الجنيد

تعرّضت حركة "حماس" لضرباتٍ قاسية من الاحتلال والسلطة عام 1998، تفكّك خلالها الجهاز العكسريّ وكُشفت البنية التنظيميّة الإدرايّة للحركة في الضفّة الغربيّة، فتعرّض قادة التنظيم للاعتقال والتصفيّة، ومن أبرزهم محيي الدين الشريف وعادل عوض الله اللذيْن تمّت تصفيتهم. 

اقرؤوا المزيد: هل تأخرت "حماس" عن الالتحاق بالانتفاضة الثانية؟

جنازة الشهيد مفارجة.

على أعقاب هذه الحملة المسعورة، تحديداً عام 1999، التحق كريم بـ"كتائب عزّ الدين القسّام"، الجناح العسكريّ لـ"حماس". قاد كريم مجموعةً تشكّلت من الطالبين من جامعة الخليل؛ نبيل خاطر وأسيد صلاح، والطالب من جامعة النجاح؛ نشأت أبو جبارة، وعمل على تصنيع العبوات المُتفجّرة وبرع في تصنيع القنابل الموقوتة والتفجير عن بعد. باستخدام هذه التقنيّة، زرعت المجموعة في 8 نوفمبر/ تشرين الثاني من العام نفسه في مستوطنة "نتانيا" أربع قنابل موقوتة، انفجرت ثلاث منها، وأُصيب على إثرها 27 إسرائيليّاً.

ظلّت الخلية تعمل بسريّة حتّى مساء العاشر من فبراير/ شباط عام 2000، أي قبل الانتفاضة الثانية بأشهر. أثناء إعدادهما عبوة ناسفة بين كروم الزيتون بالقرب من قرية بروقين، التابعة لمحافظة سلفيت، انفجرت العبوة بنبيل خاطر وأسيد صلاح فاستشهد الأول وأصيب الثاني. كُشفت المجموعة على إثر هذا الحادث، وبدأت السلطة والاحتلال بملاحقة المجموعة، فاقتحم الجيش الإسرائيلي منزل عائلة كريم وفتشه بصورةٍ همجيّة، واعتقل كريم بعد أيّام من الحادثة على يد جهاز الأمن الوقائيّ في نابلس.

مكث كريم قرابة الشهرين في زنازين الأمن الوقائيّ في سجن الجنيد، قبل أن يُنقل إلى الأقسام التي كانت تمتلئ بالمُعتقلين على خلفيّة نشاطهم السياسيّ والعسكريّ ضدّ الاحتلال. معتصم سمارة، أحد الذين تواجدوا في السجن وقتها، وصف الأسير الذي لم يصير بعدُ شهيداً: "شخصيّة روحانيّة تجد فيها سمات الشهادة". 

في الفترة التي قضاها كريم معتقلاً لدى السلطة، كان سجن الجنيد يضمّ من بين المعتقلين من شكّلوا البنية العسكريّة لتنظيم "حماس" في نابلس، وهم الذين سيكون لهم أثرٌ بارزٌ في الانتفاضة الثانيّة، ومنهم: مهند الطاهر، وطاهر جرارعة، ويوسف السركجي، ونسيم أبو الروس، وجاسر سمارو، ومحمد ريحان، وياسر ونصر الدين عصيدة، ومحمود أبو هنّود (كان في سجن نابلس المركزي (المقاطعة)).

ملصق يحمل صور الشهداء الأربعة.

"من أكثرهم إنتاجاً للمتفجّرات"

حين اندلعت الانتفاضة الثانية في أواخر سبتمبر/ أيلول عام 2000، كان كريم ورفاقه لا يزالون معتقلين في سجن الجنيد. بعد اندلاعها بشهرٍ تقريباً، ذهب الناس إلى السجن وحطّموا أبوابه وأخرجوا منه جميع المُعتقلين. توارى كريم عن الأنظار، وساعد خروجُه والذين معه من سجون السلطة، وقد امتلكوا خبراتٍ سابقةً في التصنيع العسكريّ، في إعادة بناء الجهاز العسكريّ لحركة "حماس" في نابلس، بقيادة الشهيد صلاح دروزة.

اقرؤوا المزيد: خليل الشريف.. حكاية توديع اللغة.

في البداية، عملَ كريم مع الشهيد محمد الحنبلي، ثم انتقل إلى العمل في خطٍ واحد مع الشهيد علي الحضيري في مختبر متفجرات يديره الشهيد نسيم أبو الروس. ولقد شارك كريم كذلك مع طاهر جرارعة ومهند الطاهر ونصر الدين عصيدة وجاسر سمارو في تصنيع العشرات من العبوات الناسفة وزرعها في محيط نابلس.

ضريح الشهيد مفارجة في بلدته بيت لقيا.

كذلك، لم يقتصر تصنيع كريم على مدينة نابلس، إذ شارك هو وأبو الروس وسمارو في تصنيع حزامين ناسفين أواخر عام 2001 لخليّة عبّاس السيّد في مدينة طولكرم، من أجل استخدامهما في عمليّة الاستشهادي عبد الباسط عودة. هكذا، كان كريم مفارجة "من أهم مهندسي كتائب القسّام ومن أكثرهم إنتاجاً للمتفجّرات"، بحسب شهادة الأسير سليم حجّة.2المصدر السابق، 200.

اقرؤوا المزيد: عبّاس السيّد: الرجل الذي سيعيش أكثر من "إسرائيل".

يروي حجّة، في مذكراته "درب الأشواك: صفحات من تاريخ المقاومة في فلسطين" (2015)، عن حزامٍ ناسفٍ أعدّه كريم والحضيري لأبو الروس بناءً على طلب من حجّة، تجهيزاً لعمليّة ثأر ردّاً على اغتيال محمود أبو هنود. كان تصميم الحزام مُميّزاً عن غيره، فعند ارتداء الاستشهادي له يكون نصفه على ظهره ونصفه الآخر على خصره، ما يتيح له سهولة الحركة وإمكانية أن يرتدي معطفاً مفتوحاً فلا يثير حوله الشكوك. كان هذا الاستشهادي هو ماهر حبيشة، الذي وصل إلى مدينة حيفا في 2 ديسمبر/ كانون الأول عام 2001، وفجّر حزامه في حافلة فقتل 16 إسرائيلياً.

فيمكث في الأرض

استُشهد كريم في نابلس بعد مطاردة دامت العامين تقريباً، وعاد بعدها إلى بلدته بيت لقيا في رام الله بلا أعضاءٍ مُكتملة، لكن بفكرةٍ مُكتملة؛ من لحظة تكوّنها إلى لحظة تحقّقها. كانت لدى كريم فكرة تحدّث بها إلى رفاقه خلال مطاردته، وهي فكرة مُستقاة من دراسته للشريعة الإسلاميّة عنوانها "صدقة الأنفس". تتلخّص الفكرة بأنّه كما يُخرج الشخص صدقةً عن المال، عليه أن يخرج صدقةً عن الأنفس، فيُصبح واجباً على كلّ عائلة فلسطينيّة لديها خمسة أبناء أن توهب واحداً منهم في سبيل الله والتفرغ لمقاومة الاحتلال شريطة اجتماع عدد من الصفات فيه، وذلك حتى زوال الاحتلال من أرض فلسطين.

بعد استشهاد كريم بشهرين تقريباً، نفّذ الاستشهادي عبد الباسط عودة عملية "فندق بارك"، والتي تُعتبر أضخم عملية في انتفاضة الأقصى حيث قُتل فيها 30 مستوطناً وُجرح 200 آخرين. وبعد استشهاده بستة أشهر تقريباً، نفّذت مجموعة الشهيد نصر الدين عصيدة عملية "عمانوئيل الثانية" التي قُتل فيها 10 مستوطنين بعد تفجير عبوتين ناسفتين في الحافلة رقم 198 ومن ثم إطلاق النار عليها. كان حزام عبد الباسط من تصنيع كريم والحضيري، وتقول الرواية الإسرائيليّة إنّه أُخفي عند تصنيعه في دورة مياه النساء في المسجد الجديد في طولكرم. وكانت عبوات عمانوئيل الناسفة من تصنيعهما أيضاً، وقد اخفاهما نصر الدين في الجبال إلى حين تنفيذ العملية. رحل كريم، ولكنّ الأحزمة التي صنّعها ظلّت بعده تُذَكِّر بصنيعه.