30 نوفمبر 2022

قرية النبي صموئيل.. لـ"إسرائيل" صدر البيت، ولأهله العتبة!

قرية النبي صموئيل.. لـ"إسرائيل" صدر البيت، ولأهله العتبة!

"ممنوع وضع هذا الكونتينر لأنه بدون عجلات"، هكذا كانت فحوى القرار الشفوي الذي صدر على لسان ضابطٍ إسرائيليّ في جيش الاحتلال، لحق بسيارته شاحنةً تحمل غرفةً حديديّةً (كونتير) إلى قرية النبي صموئيل، الواقعة حوالي 8 كم شمال غرب القدس. لتجاوز السياسة الإسرائيلية بمنع البناء وهدم كل ما يُبنى حديثاً في القرية، قرر الأهالي إقامة عيادة طبيّة في "كونتينر"، بدلاً من المخاطرة ببناءٍ حجريّ مصيره الهدم.1بناء على مقابلة للكاتب مع ناشطٍ شبابيّ في قرية النبي صموئيل فضّل عدم نشر اسمه، أُجريت المقابلة بتاريخ 2 تشرين الثاني/نوفمبر 2022.   

اشترط الضابط أن يكون "الكونتينر" بعجلات، ربما ليكون قابلاً للتحريك والإزالة، وحتى لا يُعطي أي مشروع جديد في القرية معنى الثبات والبقاء. يُلخص هذا الطلب وهذه الملاحقة مجمل سياسات التهجير الإسرائيليّة بحق أهالي القرية، والذين يُقدّر عددهم بحوالي 250 فلسطينياً فقط.

تُعتبر قصة العيادة الطبية الممنوع إقامتها حتى اليوم في قرية النبي صموئيل مثالاً واحداً من قائمة طويلة من الممنوعات التي تفرضها سلطات الاحتلال. ويُمكن للناظر للقرية اليوم أن يرى أنها لم تمر بأي تطور عمرانيّ أو زيادةٍ في المباني السكنية. ومدرسة القرية مثال آخر، فهي مكوّنة من غرفةٍ واحدةٍ مبنية، أُلصقت بها لاحقاً غرفٌ حديدية. جاء هذا "الحل" بعد سنوات اضطر فيها الطلاب للتوجه إلى مدارس القرى المجاورة.

فلسطينيات يشاركن في مظاهرة احتجاجاً على التضييقات والاعتداءات الإسرائيلية على قرية النبي صموئيل، أيلول/ سبتمبر 2022. (عدسة: ماتان غولان/SOPA Images).

للحدائق "صدر البيت".. ولأهله العتبة

تبلغ مساحة قرية النبي صموئيل ما يقارب 2261 دونماً، ويتربع على جبلها، جبل النبي صموئيل، مقامُ ومسجدُ النبي صموئيل على ارتفاع 859 متراً عن سطح البحر، ومنه يمكن الإطلالة على مناطق واسعة من القدس ورام الله والساحل الفلسطيني، وتظهر منه كذلك جبال الأردن. 

احتُلت القرية إثر عدوان النكسة عام 1967، وبعد ذلك بسنوات قليلة، تحديداً عام 1971، هدم الاحتلال منازل القرية المحيطة بالمسجد، وهجّر أهلها منها، وقد اتجه بعضهم للسكن في بيوت أخرى في القرية، تقع إلى الشرق من بيوتهم الأصلية، وهو المكان الذي تتركز فيه القرية اليوم.

بعد اتفاق أوسلو صُنِّفَت جميع أراضي القرية ضمن تصنيف "ج"، والتي تخضع أمنيّاً ومدنيّاً للاحتلال، فيما يحمل أهلها بطاقات الهوية الفلسطينية (الضفة). وفي العام 1995 أعلن الاحتلال عن كلّ أراضي القرية، بالإضافة إلى دونمات أخرى محيطة بها، بمساحة تصل إلى 3500 دونم، لتكون جزءاً من "حديقة قوميّة" إسرائيليّة. يشمل هذا جميع أراضي القرية الزراعية وبيوتها وفي مركزها مسجد ومقام النبي صموئيل والموقع الأثري من حوله.

اقرؤوا المزيد: "الحدائق القوميّة".. الاستيطان باسم الطبيعة".

تُعلن "إسرائيل" عن الأراضي كـ"حدائق قوميّة" عادةً بحجة "حماية الآثار والغطاء النباتي المميز"، ولكنها بالفعل تستخدم هذه الحجة لفرض سيطرتها على المكان، ولمنع الناس من البناء، وبالتالي تهجيرهم. وفي النبي صموئيل يهدف القرار إلى السيطرة على المنطقة المحيطة بالمسجد، والتي تشمل أنقاض المباني التي هدمها الاحتلال عام 1971، واعتبارها موقعاً أثرياً، وإلى السيطرة على المناطق الفارغة والغابات الشجرية المحيطة بالبلدة، لمنع نمو السكان وبالتالي طردهم.

وتحويل الأرض إلى "حديقة قوميّة" يعني في سياسات الاحتلال: منع البناء، بل حتى منع الزراعة وبناء المدرجات الزراعيّة أو تسييج الأراضي، إلا بموافقة "سلطة الحدائق والطبيعة"، وهي موافقة نادراً جداً ما يحصل الفلسطينيّ عليها. ويذكر الأهالي بأن الاحتلال يمنع أيضاً امتلاك أية آليات لتنظيف شوارع القرية، إذ تتعرض للمصادرة الفورية. وهذا الحال ينطبق على أي نوع من الحفر، ومنه الحفر الامتصاصية وآبار الماء، وبناء الجدران الاستنادية في الأراضي الزراعية.

بفعل هذه السياسات، انحصرت بيوت القرية في مساحة صغيرة، وهي بيوت في الغالب لا يمكن ترميمها بشكل موسع أو البناء فوقها، فاضطرت العديد من العائلات الكبيرة لاستئجار منازل أخرى في قرى شمال غرب القدس، وخاصة قرية الجيب. وبذلك لا يفتأ عدد سكان القرية عن التراوح بين 200-300 شخص.

منظر عام لقرية النبي صموئيل، حيث تتركز اليوم بيوت القرية القليلة، والمحرومة من أي فرص للتطوير العمراني والتوسع، أو الاستغلال الزراعي، نيسان/ أبريل 2012. (عدسة: أحمد غرابلي/ وكالة الصحافة الفرنسية).

لم يكفِ تحويل أراضي القرية إلى "حديقة قوميّة"، بل أقام الاحتلال أيضاً على جزءٍ من أراضي النبي صموئيل مستوطنتين؛ الأولى "هار شموئيل" التي التهمت 331 دونماً من أراضي النبي صموئيل، ومستوطنة "نيفي شموئيل" الجاثمة على ما يقارب 136 دونماً من أراضي البلدة. 

وبات المستوطنين يشاركون في سياسات التضييق وانتهاك حقوق الفلسطينيين، والاعتداء على الممتلكات والمنازل. فيما صادر الاحتلال عشرات الدونمات لصالح شق الطريق الالتفافي الذي يربط التجمعات الاستيطانية شمال غرب القدس بالمدينة ومنها تجمع مستوطنة "جفعات زئيف الاستيطاني"، ولصالح بناء جدار الضم والتوسع الاستيطاني.

استهداف المسجد والموقع الأثريّ 

إضافةً إلى استهداف البشر، يُستهدف مسجد النبي صموئيل والموقع الأثري من حوله. فقد حُوّل الطابق السفلي من المسجد إلى كنيس للمستوطنين اليهود زاعمين أن النبي صموئيل هو أحد الأنبياء اليهود، وهذا يناقض الرواية الإسلامية الواردة على لسان الطبري وبعض المفسرين أن صموئيل هو النبي الذي جاء بعد يوشع وقبل داود عليهما السلام، وهو الذي قال له بنو إسرائيل: "ابعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله" (البقرة، 246). وهناك اعتقاد غير مُثبت بأنّ ضريحه موجود في المكان.

فلسطينيون يتجمعون أمام مسجد ومقام النبي صموئيل قبيل صلاة الجمعة، في الثاني من أيلول/ سبتمبر 2022. في ذلك اليوم تعرَض أهالي القرية لاعتداءات مجموعة من المستوطنين ألقوا عليهم الحجارة والزجاجات الفارغة، بحضور عضو الكنيست إيتمار بن غفير. (عدسة: إياد الطويل/ وكالة الأناضول).

وقد أشارت مؤسسة إسرائيليّة بحثية معنية بالآثار أنّ الحفريات التي تجريها سلطة الآثار الإسرائيلية منذ عام 1992 بهدف الوصول الى آثار يهودية في المكان لم تفلح، وقالت بأن الآثار التي عُثر عليها حتى الآن. ورغم ذلك قامت سلطة الآثار الإسرائيلية بسرقة آثار تاريخية من المقام، منها حجر تاريخي كان موجوداً في أعلى مدخل المسجد، وتعرض المسجد للحرق على يد المستوطنين، وعطّلوا السماعات فيه، كما يمنع الاحتلال ترميم واستخدام الطابق الثالث فيه، ويقتصر "المسموح" فقط على أداء الصلوات، مع رفعٍ منخفض الصوت للأذان.

فلسطيني يصلي داخل مسجد النبي صموئيل، ويظهر في الصورة المقام، نيسان/ أبريل 2021. (عدسة: أحمد غرابلي/ وكالة الصحافة الفرنسية).

الجدار.. فصل جديد من العزل

مع بداية الانتفاضة الثانية (2000-2005)، سعى الاحتلال إلى فصل شمال غرب القدس عن مدينة القدس عبر نصب الحواجز العسكرية، ومنها حاجز الضاحية في بلدة الرام، ومن ثم حاجز قلنديا، والتي منع من خلالها حَمَلة هوية السلطة الفلسطينية من دخول مدينة القدس. في تلك الفترة شكّلت قرية النبي صموئيل منطقة عبور للفلسطينيين المتجهين من شمال غرب القدس إلى رام الله، وساحة تنكيلٍ بهم، وذلك بعد أن أغلق الاحتلال في وجههم الطريق الاعتيادية التي كانت تمر عبر سهل بدو- بيت إجزا. في أراضي القرية، أقام الاحتلال حاجزاً، وكان كل من يريد التوجه من شمال غرب القدس نحو رام الله مجبرٌ على المرور عبره، ومن هناك إلى حاجز قلنديا، ومن ثم رام الله.

 الثاني من أيلول/ سبتمبر 2022، فلسطينيون يتظاهرون أمام مسجد ومقام النبي صموئيل احتجاجاً على اعتداءات المستوطنين وإغلاق القرية. (عدسة: ماتان غولان/SOPA Images).

ثم بعد ذلك، ومع نهاية عام 2004 أعاد الاحتلال هندسة المنطقة عبر مسار الجدار الفاصل. ما بين العام 2004-2008، بُني الجدار في مساره المحيط بقرية النبي صموئيل. إلا أنّ المختلف هنا، أنّ القرية، ورغم كونها بحسب تقسيمات أوسلو من مناطق الضفّة (تصنيف ج)، إلا أنّها عُزلت أيضاً عن مناطق الضفّة، وليس عن القدس. 

فقد التف الجدار حول قرى شمال غرب القدس، كالجيب وبيت إجزا وبيت دقو، وترك جارتهم النبي صموئيل خارجاً، مفصولةً بالجدار وبالأسلاك العازلة وبالحواجز والأبراج العسكرية عن امتدادها في تلك القرى، بينما لا يفصلها عن مركز مدينة القدس أي جدار. 

يعني ذلك أنّ أهالي القرية معزولون عن امتدادهم الطبيعي في قرى شمال غرب القدس، ولا يمكنهم الوصول إلى هناك إلا بعد المرور عن حاجز عسكري (هو حاجز الجيب). ورغم كون الطريق بين مركز القرية ومركز مدينة القدس (نفوذ بلدية الاحتلال) لا يتخلله أي حاجز أو جدار، إلا أنّ أهالي القرية ممنوعون من الوصول إلى القدس بأمر عسكريّ، تراقبهم في ذلك كاميرات جيش الاحتلال المنصوبة على مداخل القرية والشوارع المؤدية إليها.

ومع نهاية عام 2008، كان الاحتلال قد أحكم قبضته على قرية النبي صموئيل، وزاد من حدة سياساته الممنهجة الهادفة لترحيل الفلسطينيين، بدءاً من تقييد التوسع العمراني والترميم وهدم المباني بحجة عدم الترخيص، ومنع الزيارات للسكان من خارج القرية، وتقييد بناء حظائر الحيوانات وربط إقامة المشاريع بالحصول على تصاريح من الإدارة المدنية، التي لا تمنحهم هذه التصاريح غالباً. 

كذلك قُيّدت المشاريع التي ينفذها المجلس القروي بقرارات عسكرية، مما أدى إلى تعمق الأزمات في قطاع الخدمات العامة، وزيادة في نسب النزوح وتغيير مكان السكن اضطرارياً للمتزوجين الجدد الذين يمنعهم الاحتلال من بناء منازل جديدة أو توسعة منازلهم. هذا عدا عن التضييق في إدخال البضائع والمواد الغذائية ونقلها من وإلى القرية، كل ذلك بهدف خلق أزمات معيشية تقوّض الصمود والمواجهة. 

الثاني من أيلول/ سبتمبر 2022، مستوطنون يرفعون الأعلام الإسرائيلية أمام مسجد ومقام النبي صموئيل، وقد جرت خلال ذلك اليوم مناوشات بين أهالي القرية المحاصرين والمستوطنين. (عدسة: إياد الطويل/ وكالة الأناضول).

أمام هذه الغطرسة لا يجد سكان النبي صموئيل وسيلةً لرفع صوتهم ومواجهة الاحتلال سوى العصيان المدني والتظاهر على مدخل القرية. تُواجه هذه الوقفات بقمعٍ من الاحتلال بالاعتقال وقنابل الصوت، والضرب، عدا عن هجوم المستوطنين وتنظيمهم وقفات مضادة، آخرها ما كان في آب/ أغسطس وأيلول/ سبتمبر 2022. ويواجه الأهالي إجراءات الاحتلال بالصمود، وحتى العائلات التي اضطرت للسكن خارج القرية ترسل بعض أبنائها للإقامة فيها، فالتواجد هو أحد أدوات الصمود المتاحة. كما يلجأ الأهالي إلى دفن الموتى من أبناء القرية المقيمين خارجها في مقبرتها رغم تكدّس القبور، والاضطرار إلى فتح القبور القديمة وإعادة وضع موتى جدد فيها، خاصّة أن الاحتلال يمنع توسع المقبرة، إلا أن الأهالي يجدون في حدث الدفن والجنازة في قلب قرية أداة إضافية للصمود وإظهار التواجد وحشد الناس.

بعضٌ من تاريخ القرية..

شكّلت قرية النبي صموئيل تاريخياً ساحةً لعدد من المعارك بحكم موقعها الاستراتيجي، بدءاً من الحملة الصليبية على بلاد الشام عام 1099، وصولاً إلى الاحتلال الإسرائيلي عام 1967. خلال الحرب العالمية الأولى، وتحديداً عام 1917، شهد جبل النبي صموئيل معركة شرسة وطاحنة بين الجيش البريطاني وقوات الدولة العثمانية، انتهت بتدمير القرية واحتلالها، راح ضحيتها أكثر من 100 جندي عثماني، وقُتل مئات جنود الجيش البريطاني المُعتدي. وقد كان هدف الاحتلال الأبرز حينها فتح الطريق أمام الجيش البريطاني نحو مدينة القدس.

بعض آثار بيوت ومسجد النبي صموئيل بعد الحرب العالمية الأولى. (HUM Images/Universal Images Group)

وفي معارك النكبة الفلسطينية عام 1948، وتحديداً شهر أبريل/ نيسان، سعت عصابتا الـ"هاغاناه" والـ"بلماح" الصهيونيتان لاحتلال أكبر عددٍ من الأحياء والقرى المقدسيّة ضمن خطّتها للتقدم نحو مدينة القدس، بهدف تحقيق الترابط والاتصال مع الحي اليهودي الواقع جنوب القدس القديمة. بعد احتلال قرى بيت إكسا وشعفاط، واجهت العصابات الصهيونية مقاومةً في النبي صموئيل من جيشي الجهاد المقدس والإنقاذ اللذين تمركزا في ذلك الوقت على قمة الجبل. واضطرت القوة الصهيونية للتراجع بعدما تكبدت خسائر كبيرة وصلت إلى 44 قتيلاً، منهم قائد الوحدة المهاجمة، و88 جريحاً، وفشل هجومها. 

بعد مرور 19 عاماً، تمكّن جيش الاحتلال الإسرائيلي من احتلال القرية عام 1967 بعد معارك مع الجيش الأردنيّ الذي كان يستحكم بها، ثم عام 1971 هُدم ما يقارب 80% من بيوت القرية حول المسجد والمقام، رُحّل أغلبهم إلى مناطق أخرى داخل القرية. وقد أظهرت وثائق من الأرشيف الصهيوني، كُشِف عنها مؤخراً، وجود أوامر من رئيسة وزراء الاحتلال آنذاك، غولدا مائير، بتطهير بلدة النبي صموئيل عرقيّاً لتأسيس مستوطنة خاصّة بالأثرياء اليهود الذين "بإمكانهم مساعدة الدولة". ثم أُلغيت فكرةُ المستوطنة أواسط الثمانينات بعد معارضةٍ واسعة من أصوات إسرائيلية رأت أنّ البناء على قمة الجبل يُتلف المشهد البيئي،  وبعد ذلك علت أصوات تطالب بمنع الفلسطينيين من البناء على قمة الجبل طالما لم تستطع الحكومة إقامة مستوطنة عليه، وهذا ما طُبق فعلاً.