24 مايو 2024

السرّ الكامن في زقاق جباليا: حوار مع سعيد زياد

السرّ الكامن في زقاق جباليا: حوار مع سعيد زياد

مضى أكثر من أسبوعين على استخدام الاحتلال "الورقة الأخيرة"؛ رفح. وهو توغل تبعه التوغل للمرّة الثالثة في حي الزيتون، وتبعه دخول جيش الاحتلال في معركة مع مخيّم جباليا للمرّة الثانية منذ بدء الطوفان، أما بيت حانون فقد مسحها مسحاً على مدار قريب الثمانية شهور.  

"لابد أنها القاضية"، ربّما قال الكثيرون في داخلهم. وإذ بمقاطع فيديو المقاومة تتوالى يوماً بعد يوم، تفصح عن قتال أسطوريّ  منقطع النظير، لربّما هو أشد ما شهدته هذه الحرب. كيف حدث كلّ ذلك؟ وماذا في رمال رفح؟ ولماذا معسكر جباليا؟ وكيف تخرج "عنقاء الرماد من الدمار" هكذا؟ 

هذا ما كنا نفكر به، عندما توجهنا بالأسئلة للباحث في الشأن السياسي الفلسطيني، الأستاذ سعيد زياد، وهو قبل كلّ شيء، ابن مخيم جباليا؛ المخيم الذي صدّر العجائب، فإلى الحوار.

خلال الفترة الماضية، ظلّ الاحتلال الإسرائيلي يلوّح بورقة "اجتياح رفح". يقولون: هناك سنحقّق أهداف الحرب؛ سنقضي على "حماس"، وسنحرّر أسرانا. ولمّا دخلوا رفح، سرعان ما تحوّل الزخم والحديث إلى جباليا. لماذا قرّر الاحتلال بالتزامن مع رفح، أن يبدأ معركة جباليا للمرة الثانية؟

بالعودة إلى سلوك العدو في حرب أكتوبر عام 1973، وحرب تموز على لبنان عام 2006، يمكن القول إنّ هناك سلوكاً يحكم قادة الكيان. ففي تاريخ 22 تشرين الأول/ أكتوبر 1973، اتخذ مجلس الأمن قراراً بشأن وقف إطلاق النار، لكن وزير حرب العدو في ذلك الوقت موشيه دايان، قرر خرق وقف إطلاق النار هذا، بتوجيه "ضربة أخيرة" أفضت إلى احتلال مدينة السويس المصرية؛ الأمر الذي تحول إلى هزيمة نكراء، انتهت بإخفاق جيش العدو في أغلب نقاط الاشتباك في المدينة، وتكبّده خسائر فادحة تجاوزت الـ 200 جندي، نصفهم على الأقل من القتلى.

وفي نهاية حرب لبنان الثانية، في شهر آب/ أغسطس 2006، أصدر مجلس الأمن القرار (1701)، القاضي بإنهاء الحرب، لكن رئيس الحكومة الإسرائيلي آنذاك إيهود أولمرت، ووزير دفاعه عمير بيرتس، وقادة الجيش، أصدروا أوامرهم بمواصلة القتال من أجل تحسين مواقع تموضع قواتهم، وتقريب خطّ الجبهة نحو نهر الليطاني. في تلك المعركة، سقط عشرات القتلى والإصابات، وتحولت "الضربة الأخيرة" من ضربة موجَّهة للمقاومة اللبنانية إلى مذبحة في قوات العدو.

علّه من نافلة القول، أن قصة "رفح" فقدت أهميتها، وانقلبت إلى مبرّر لتسخيف أطروحات نتنياهو وأوهامه بـ"النصر المطلق"، وامتد التسخيف من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، ومن ساسة وكتاب بلا حصر، وربما يمكن القول إنّ هذه العملية تمثّل جزءاً أصيلاً من العقلية العسكرية التاريخية الإسرائيلية في ضرورة توجيه "الضربة الأخيرة".

منذ أسابيع طويلة، ولا شغل لنتنياهو غير قصة "رفح"، كأنها الدواء الذي سيعالج به أمراضه كلها. ومنذ أسابيع أيضاً، وجيش من المحللين والخبراء يسخّفون من فكرته، منهم مسؤولون أميركيون قالوا له إنّه دخل مختلف المناطق قبلها ثم انسحب وما زالت المقاومة مستمرة وعادت السيطرة "الحمساوية" إليها، فضلاً عن سؤال مصير الأسرى الذي يتردّد في أرجاء "الكيان" يومياً، والذين سيضحّي بهم على مذبح هوسه بالبقاء رئيساً للحكومة.

كانت القوة التي زُجّ بها في معركة السويس في حرب أكتوبر، وكسر بها وقف إطلاق النار، هي "الفرقة 162"، وهي ذات الفرقة التي كسر بها قرار مجلس الأمن في حرب لبنان الثانية، وتورطت بخسائر فادحة، وهي ذات الفرقة كذلك التي تقود مسرح العمليات الآن في رفح، فهل سنكون أمام ضربة قاصمة تكسر هذه الحرب بذات السلوك الذي كسرت به حرب أكتوبر وحرب تموز؟

جيش الاحتلال يُحرك قواته ودباباته على طول حدود قطاع غزة، في الأول من أيار/ مايو 2024، وتمركز جزء منها بالقرب من مدينة رفح. (تصوير مصطفى الخروف/ الأناضول)

إلى جانب ذلك، من المهم إدراك أن العدو يمتلك أهدافاً حقيقية تدفعه إلى التمسك باجتياح رفح، بوصفها تعادل خُمس قوة المقاومة، ففيها اللواء الوحيد من الألوية الخمسة الذي ما زال محتفظاً بكامل قوّته. وبالنسبة للاحتلال، لا يمكن بحال من الأحوال إنهاء هذه المعركة مع بقاء كل هذه القوة على ما هي عليه بدون محاولة إضعافها، وإلا ستتحوّل إلى قاعدة انطلاق سريعة لترميم القوة الكاملة، وهذا ينسجم مع الهدف العملياتي الذي وضعه العدو لنفسه منذ بداية المعركة، وهو الانخراط في القتال مع جميع الكتائب القتالية في محاولة لإضعافها.

كذلك، يُشكّل احتلال "محور فيلادلفيا"، وتدمير البنى التحتيّة فيه، من أنفاق وغيره، أمراً مركزيّاً بالنسبة للعدو، خاصّةً أنّ السيطرة عليه، بالتوازي مع السيطرة على "محور نتساريم"، تساعد العدو في دفع استراتيجيته إلى حيز الفعل المؤثر لتحسين البيئة التفاوضية.

أما عن تزامن معركة جباليا مع معركة رفح، فيمكن قراءة ذلك عسكريّاً بأنَّ أي عملية عسكريّة هجوميّة تتضمن عملين هجوميين: الأول رئيس، والثاني ثانوي، ويمكن أن يصاحب الهجوم الرئيس أكثر من هجوم ثانوي، لأغراض إشغال بقية القطاعات القتالية عن إسناد القوات المُدافِعة التي تقع عليها مهمة الدفاع ضدّ الهجوم الرئيس، سواءً بعمليات الإسناد الناري، أو الإمداد بالذخيرة والسلاح والقوات.

إلى جانب ذلك، هناك أهداف عملياتية صغيرة يريد العدو تحقيقها في جباليا، من قبيل البحث عن رفات أسراه الذين قتلهم قصفاً، وما يزالون تحت الركام، والذي استطاع إيجاد ثلاثة منهم حتى الآن، ما قد يخفّف عنه أوراق الضغط في المفاوضات القادمة، كما يظن، فالثمن المقابل لستين جثة لن يكون مثل الثمن المقابل لخمسين مثلاً.

إضافةً لذلك، يمثّل معسكر جباليا رمزيةً عاليةً على طول الصراع الفلسطيني الإسرائيلي بشكلٍ عام، وعلى صعيد هذه الحرب على وجه الخصوص، كونه من المناطق القليلة التي لم يتمكن العدو من الدخول إليها مطلقاً. بالتالي يقع على رأس جدول أعمال العدو محاولة تهشيم هذه الرمزية، وتوجيه ضربة إلى قلب لواء الشمال، سواء المقاتلين الذين كسروا هجومه الجارف في تشرين الثاني/ نوفمبر وكانون الأول/ ديسمبر الماضيين، أو سكان المخيم الذين صمدوا رغم هول الإبادة وحرب التجويع، ونجحوا في كسر رأس سيناريوهات العدو في هذه الحرب، أي سيناريو التهجير.

ربّما بعد بدء جيش الاحتلال بالتوغّل في رفح، وما تبعها من عمليات في جباليا وحي الزيتون.. وكأننا رأينا دفعة قتال جديدة لدى المقاومة، هل نستطيع القول إن تطوّراً جرى على التكتيكات القتاليّة للمقاومة؟ 

شهدت معركة جباليا الثانية، ومعركة الزيتون الثالثة، قتالاً أشدَّ ضراوةً من معركة جباليا الأولى التي حدثت في شهري تشرين الثاني/ نوفمبر وكانون الأول/ ديسمبر 2023، ما يجعلنا نقف مليّاً لفهم الأسباب وراء ذلك، في محاولة لفهم المشهد العملياتي والتكتيكي للمقاومة، وكذلك للعدو.

المختلف في المرحلة الحالية هو عدة عوامل، بعضها من جانب قوات العدو، والآخر من جانب مقاتلي المقاومة، وجميعها تُشَكّل بيئةً تجعل طبيعة القتال الدائر مختلفة، منها:

  1. حجم النيران ومبدأ التأمين: يعتمد العدو بشكلٍ مركزيّ في تحرك قواته على تأمينها بزخمٍ ناريّ هائل، ففي العودة لبداية المعركة، إلى الأيام العشرين الأولى من القتال، والتي سبقت المناورة البرية، سنرى كيف كنا أمام قصف سجادي غير مسبوق، نفّذ فيه العدو حوالي عشرة آلاف غارة من السماء، وثلاثين ألف قذيفة من القطع البحرية وقطع المدفعية، مستهدفاً بشكل أساسي تسوية المناطق والأحياء التي ينوي التقدم إليها، وقد بدأ مثلاً، بتدمير أحياء كاملة مثل "حي الكرامة"، و"أبراج المخابرات" في منطقة غرب غزّة، والتي شكّلت منطقة الهجوم الرئيس للعدو في الجولة الأولى من المناورة البريّة، بقيادة الفرقة المعادية "162"، وقد استمر هذه النوع من التمهيد الناري طيلة أيام القتال في المرحلة الثانية.

هذا الزخم في هذه الجولة من القتال -خاصّةً النيران التمهيدية- أصبح أقلّ بطبيعة الحال، وذلك نظراً لمشكلات فنية، مثل تقلص مخزون الذخيرة عند العدو، بسبب استهلاكه ذخيرة هائلة في الشهور الثلاثة الأولى من المعركة، ومشكلات سياسية من قبيل عدم احتمال الحالة السياسية الإقليمية والعالمية أن تكون المعارك بالدموية ذاتها التي كانت عليها في النصف الأول من أيام القتال.

وعلى الرغم من ذلك، ما يزال العدو متمسكاً بمبدأ التأمين، بسبب خشيته المفرطة من الخسائر، فهو أكثر جيش في العالم لديه حساسية من تعداد خسائره، خاصة وأن قرار إرسال الجنود إلى جبهات القتال مرتهن بأمهات المقاتلين. هذا الأمر جعل جيش العدو ثقيلاً، لا يمتلك رشاقة المقاتلين من المقاومة.

  1. معنويات المقاتلين: نحن أمام انقلاب في المشهد، فعادة ما يمتلك المهاجم معنوياتٍ عالية بطبيعة الحال، بيد أنه يدخل هذه المرة بمستوى معنويات منخفض، بسبب عجزه عن أداء المهمة في المرة الأولى، وطول أمد القتال بلا جدوى. أما المدافعين، فمن الواضح أنهم يمتلكون روحاً تعرّضية أكثر بكثير من القوات الغازية، ويمكن أن نرى ذلك في الزخم القتالي العالي، والعمليات الدقيقة والكثيرة التي ينفذها المقاتلون، والثبات الأسطوري الذي يبديه سكان المخيم ومقاتلوه.
مقاوم يلصق عبوة متفجرة على ظهر دبابة إسرائيلية خلال عملية مشتركة نفذها مجاهدو كتائب القسام وسرايا القدس في مدينة جباليا. (المصدر: صورة من مقطع مصورة نشرته كتائب القسام)

هذه المعنويات العالية، والروح القتالية الجسورة، كسرت ما تبقى من هيبة الحرب عند المقاتلين، خاصّةً بعد فشل العدو في كسر المشروع خلال المرحلة السابقة، وتجاوز مرحلة الخطر الوجودي (سيناريو التهجير وغيره). ويمكن أن نرى شواهد ذلك في حالة التسابق على ميادين الاشتباك بشكلٍ مذهل، ففي الوقت الذي جرى فيه -في الجولات السابقة من القتال- استهداف دبابة واحدة بقذيفة ياسين واحدة، شهدنا في هذه المعركة استهداف ثلاث دبابات دفعةً واحدة، مرّةً في معسكر جباليا؛ في مشهد اصطفاف ثلاثة مقاتلين بجوار بعضهم بعضاً، يستهدفون ثلاث دبابات بثلاث قذائف ياسين في اللحظة ذاتها، ومرّةً في رفح؛ حين خرج ثلاثة مقاتلين من نفق لاستهداف ثلاث دبابات، اثنان منهم بعبوات "شواظ"، والثالث بقذيفة "الياسين".

  1. المرونة التكتيكية: "حماس تقاتل كالحرباء"، هكذا يقول جنرال كبير في جيش العدو، محاولاً توصيف قدرة المقاومة على تبديل تكتيكاتها وتغييرها بما يتلاءم مع طبيعة الميدان ومستجدات مسرح العمليات، وهذا ما شهدناه في معركة جباليا الثانية تحديداً، من إدخال تكتيك البيوت المفخخة إلى مسرح عمليات جباليا، والذي لم يبرز بالقدر ذاته في معركة جباليا الأولى. وكذلك على صعيد العمليات المركّبة؛ طبقات ومراحل بعضها فوق بعض، بالاستفادة من استثمار النجاح في كل طبقة، والمراكمة عليه، وهو ما أفرز نجاحاتٍ بارزة وحقق إصابات قاتلة في القوات الغازية.
  2. العمى الاستخباري: العدو الذي اعتاد الدخول في معاركه بمخزون أهداف ثقيل، فقد جزءاً كبيراً منه نتيجة استهلاكه في الغارات الكثيفة والعنيفة، وفقد القدرة على ترميم هذا المخزون نتيجة سلب المقاومة منه القدرة على ذلك لعدة أسباب؛ منها تغيير طريقة عملها وقتالها وانتشارها في ميدان القتال، وكذلك إجراء تعديلات على منظومة الاتصال والتواصل، وتكتيكات القيادة والسيطرة. وأيضاً، فقد العدو جزءاً كبيراً من خارطة الأهداف هذه نتيجة القصف المجنون، الذي غيّر ملامح البنية الحضرية للقطاع تغييراً جوهرياً، ما أفقده عناصره البشرية على الأرض، وأي تحضيرات فنية كانت تساعده في جمع المعلومات حول المقاومة.

هذا العمى، أدخل قوات العدو في معضلة حقيقية في مسارح العمليات، وهو ما اضطرهم للتماس بغية إنتاج أهداف، على خلاف تكتيكه الذي يقوم على القتال بالأذرع الطويلة، خشية الوقوع فريسة الضربات القاصمة.

ولكننا في الشهر السابع على الحرب. لا بد أنّ المقاومة تضرّرت على مستوى مقدراتها العسكرية، وعلى مستوى القيادات أيضاً. على مستوى الشمال مثلاً؛ نحن نتحدث عن عمليّة اغتيال واحدة نفّذها الاحتلال في بداية الطوفان، ارتقى فيها قائد بحجم أبو أنس الغندور، وقد كان قائداً للواء الشمال، ونائبه القائد التاريخي لكتيبة شرق جباليا رأفت سلمان، وهي الكتيبة التي تتولى اليوم التصدي للجيش الإسرائيلي في توغله في معسكر جباليا، وأيمن صيام قائد لواء المدفعية، ووائل رجب قائد كتيبة بيت لاهيا. مع ذلك، نرى زخماً هائلاً في القتال والاستهدافات التي تقوم بها المقاومة في الشمال، تحديداً في مخيم جباليا، كيف حدث ذلك؟ 

في بداية الطوفان، دخل العدو المعركة ببنك أهداف ثقيل، وتكتيكات حديثة، وأنظمة تقنية لم تكن المقاومة قد أحاطت بها بعد، ما جعله ينجح بالوصول إلى بعض قادة المقاومة، منهم قادة سياسيين أمثال زكريا أبو معمر وجواد أبو شمالة، في استهداف واحد في منطقة خانيونس، وكذلك د. جميلة الشنطي، ود. أسامة المزيني، في استهدافات أخرى.

أما على صعيد القادة العسكريين، فاستطاع العدو الوصول إلى قائد لواء الوسطى أيمن نوفل بعد عشرة أيام فقط من بداية المعركة، وكذلك وصل إلى لفيف من قادة كتائب وسرايا آخرين في مناطق متفرقة من القطاع خلال الشهر الأول للمعركة، لكن الضربة الأشد قسوة كانت في اغتيال قادة لواء الشمال وقائد سلاح المدفعية للقسام في ضربة واحدة، وذلك قبيل هدنة الأيام السبعة.

تركّزت هذه الاغتيالات في الشهر الأول على الحرب، ثم انخفضت وتيرتها إلى مستوى متدنّ جداً بعد الهدنة المؤقتة، وكأن المقاومة فهمت آلية عمل العدو، واكتشفت الثغرات التي لديها، فعملت بشكلٍ عاجلٍ على إجراء تعديلات جوهريّة على نظام تأمينها، وشبكة الاتصال والتواصل؛ الأمر الذي نجح وبشكل سريع وفعّال في تقليل الوصول إلى أيّ من قادة الصف الأول والثاني في الكتائب.

لم يكن لهذه الاغتيالات -خاصّةً اغتيال قادة لواء الشمال-، الأثر الكبير على أداء المقاومة في معركة جباليا الأولى، إذ لم تتأثر الأنساق الدفاعية ولا القدرات التكتيكية لها بشكل كبير. ونجحت كتائب جباليا الأربع في الحيلولة دون دخول العدو المخيم، رغم الزخم الناريّ الهائل للاحتلال، وعلاج بعض المشاكل التكتيكية والفنية التي واجهتها كتائب المقاومة من قبيل ضعف التغطية الإعلامية لعمليات المقاومة، والتي جرى تعديلها ببراعة كبيرة في معركة جباليا الثانية.

ربما يكون مردّ ذلك إلى التدريب العالي الذي يتلقاه جنود المقاومة على القتال في أقسى الظروف وأصعبها، إذ يخضع المقاتلون لنظم تدريب تؤهلهم لأن يكونوا قادرين على القتال كزُمر معزولة دون الحاجة لمنظومة توجيه وإدارة متكاملة. كما يعود عدم تأثر الأداء القتالي للمؤسسية العالية التي تتحلّى بها الكتائب، فلديها بروتوكول عمل ناظم يجعل من الصعوبة بمكان ترك فراغ قيادي دون شغله بسرعة كبيرة، وشهد العدو على ذلك بقوله إنّ المقاومة، تحديداً في لواء الشمال، نجحت في ترميم هيكلها القيادي في وقتٍ سريعٍ جداً، وعيّـنت قادة جدداً بدلاً من القادة الذين جرى اغتيالهم، وهو ما ظهر أثره جلياً في معركة جباليا الثانية.

منذ بداية معركة الطوفان، وبعد 20 يوماً من هجوم السابع من أكتوبر، كان الاحتلال يحرّك آلياته باتجاه جباليا، فوضعها من الأهداف الأولى لعمليّته البريّة. كيف جرى القتال في معركة جباليا الأولى؟

يعتبر معسكر جباليا مركزاً من المراكز العسكرية لفصائل المقاومة، إذ تنشط فيه العديد من الفصائل، غير أن القوة الأكبر فيه لـ "كتائب الشهيد عز الدين القسام"، إذ تدافع عن جباليا 4 كتائب مشاة؛ ثلاث في المعسكر وواحدة في البلد، وهي من التشكيلات المعروفة تاريخياً ببأسها وشدتها، وقد بدأ العدو هجومه عليها في اليوم الأول بعد الهدنة مباشرة، واستمر حتى شهرين تقريباً، وصرّح مرّات عدّة بأنه يشهد فيها قتالاً ضارياً.

وقتها، هاجم العدو المنطقة من محورين: المحور الغربي أولاً، من مسار (زيكيم، الأمريكية، التوام، الصفطاوي، بير النعجة، الفالوجا)، ومن المحور الثاني، وهو الشمالي الشرقي، من مسار (بيت حانون، قليبو، الأندونيسي، تل الزعتر، مشروع بيت لاهيا).

القتال في المحور الغربي:

بدأت المعركة منذ أن هاجمت "الفرقة 162" المدرعة المعادية، معززة بلواء مشاة "جفعاتي" ولواء "ناحال"، المحور الغربي لمنطقة الشمال منذ الليلة الأولى للاجتياح البري. وقد خاض العدو معارك ضارية في هذا المحور في مناطق "الأمريكية" و"التوام" و"الصفطاوي" و"بئر النعجة"، ووقع فريسة للعديد من الكمائن في محاولته الاقتراب من مخيم جباليا، حتى قبيل الهدنة الإنسانية (هدنة الأيام السبعة) حين وصل إلى مشارف المخيم، وحافظت قواته على مواقعها في منطقة التوام والصفطاوي طيلة أيام الهدنة السبعة.

حاول العدو اختراق المخيم من محوره الغربي بمحاولات بلغت 15 محاولة اختراق، باءت جميعها بالفشل، كان أبرزها: "اليمن السعيد"، و"الفاخورة"، و"مقبرة الفالوجا"، وتلقّى فيها جميعاً ضربات موجعة أجبرته على التراجع. وقد سُجّل في هذا المحور تدمير المقاومة لما يزيد عن 50 دبابة، تحت قيادة كتيبة غرب معسكر جباليا. كما تعرّضت قوات العدو في هذا المحور لعدة عمليات إغارة وهجمات مضادة وكمائن، اتسمت جميعها بتنسيق محكم للنيران، ما أفصح عن صمود منظومة القيادة والسيطرة وفعاليتها.

اضطرّ العدو -على وقع الضربات- إلى التراجع في أكثر من مرة، وإعادة تموضعه في مرات أخرى، إلى أن وصلت المعركة إلى نقطة انكسار تمثلت في "كمين القصاصيب"، والذي دمرت فيه كتائب القسام 7 آليات، اضطرّ العدو بعدها إلى الانسحاب من كامل المحور من فوره، لينتهي الهجوم تماماً عند هذه المنطقة.

كتائب القسام تستهدف دبابات الاحتلال خلال محاصرتها مدينة جباليا. (المصدر: صورة من فيديو نشرته كتائب القسام)

تتولى مسؤولية الدفاع عن هذا القاطع كتيبة غرب معسكر جباليا، والتي تُسمّى "كتيبة الشهيد عماد عقل"، نسبةً للقائد القسامي الشهير، والذي كان مكان ولادته ونشأته في منطقة غرب معسكر جباليا، تحديداً في منطقة الفالوجا. ومن القادة التاريخيين للكتيبة، الشهيد القائد فوزي أبو القرع، والذي يعتبر الرجل العملياتي الأول في كتائب القسام، بل ربما في تاريخ المقاومة الفلسطينية برمتها، إذ كُتب على يديه التخطيط للعديد من العمليات الاستشهادية، كان أبرزها عملية اقتحام ميناء أسدود.

قاتلت الكتيبة في معركة جباليا الأولى قتالاً ضارياً، صمد فيه القاطع الغربي للمعسكر طيلة أيام القتال، والتي تجاوزت الخمسين يوماً، وذلك منذ الساعة الأولى التي وطأت فيها قوات "الفرقة 162" المحور الشمالي الغربي "محور زيكيم"، وحتى انكسارها في كمين القصاصيب، وانسحابها بلا رجعة.

القتال في المحور الشرقي:

تولى مسؤولية الهجوم على هذا المحور "الفرقة 252"، وهي ذاتها التي تولت القتال في بيت حانون، وتولى الدفاع عن هذا المحور كتيبة شرق معسكر جباليا وجزء من كتيبة وسط المعسكر، وقد توقف العدو طويلاً في حي تل الزعتر بعد تفجير عين نفق قتل فيها نجل غادي آيزنكوت، الرئيس الأسبق لهيئة الأركان الإسرائيلية، وكمين آخر في منطقة الإدارة المدنية، مما اضطرّه إلى الانسحاب بعد فشله في اختراق المخيم من القاطع الشرقي.

يتولى الدفاع بشكل رئيس في القاطع الشرقي على تخوم معسكر جباليا، كتيبة شرق المعسكر، المسمّاة بـ "كتيبة الشهيد سهيل زيادة"، المعروفة بتاريخها العريق عسكرياً في المعارك الدفاعية، إذ كان لها الدور الأبرز في صد اجتياح العدو في معركة أيام الغضب، ومنعه من اختراق المخيم، ثم كان لها دور بارز في "معركة الفرقان" (2008-2009)، فقد نفذت الكتيبة حينها كميناً مركباً في منطقة جبل الكاشف حالت دون سيطرة العدو عليه في المعركة، كما كان للكتيبة دور كبير في عملية "طوفان الأقصى"، حيث اقتحمت قواتها "مستوطنة سديروت" وموقعي "مفلاسيم" و"16" العسكريين.

مجاهدو كتائب القسام في أحد أزقة مخيم جباليا خلال حرب الفرقان، في 2 آذار/ مارس 2008. (تصوير: وكالة فرانس برس/محمد عابد)
مجاهدو كتائب القسام في أحد أزقة مخيم جباليا خلال حرب الفرقان، في 2 آذار/ مارس 2008. (تصوير: وكالة فرانس برس/محمد عابد)

أما القائد التاريخيّ للكتيبة فهو القائد الشهيد رأفت سلمان، ويعتبر أحد مؤسسي الكتائب ومن رموزها البارزين في لواء الشمال، وقد استشهد في هذه المعركة بعد تاريخ طويل من العمل العسكري، إذ كان لأبي عبد الله دور بارز مؤسس في كتائب القسام بجانب الشهداء: عماد عقل، وفوزي أبو القرع، وسهيل زيادة، وأبو أنس الغندور.

وأحد قادة الكتيبة البارزين أيضاً، هو القائد الشهيد عصام أبو ركبة، الذي كان له دور هام كذلك في بناء القوّة الجويّة للقسام، وكانت له إسهامات كبيرة في بناء منظومة "متبّر"، وطيران "أبابيل". كما سميت الكتيبة بهذا الاسم نسبة إلى القائد البارز في القسام سهيل زيادة، الذي كان له دور هام في تأسيس منظومة صواريخ القسام، و"قاذف البنا" المضاد للدروع، والإشراف على كثير من العمليات الاستشهادية.  

ما تقوله، كأنه يشي بأن ثمة سرّ في هذا المخيّم الذي اصطلح على تسميته "معسكر". ما السرّ في معسكر جباليا؟

من وقت نشأته عام 1948، من اللاجئين الذين لجؤوا إليه بعد النكبة، شكّل معسكر جباليا منطقة تمركز للفدائيين الذين التحقوا بمعسكرات التدريب التابعة لـ"جيش التحرير الفلسطيني" في ستينيات القرن الماضي، إذ سارع المئات من شبان المخيم للانضمام إليه، وشاركوا في عمليات فدائية داخل خط الهدنة ومعارك حرب حزيران عام 1967، ولم تثنهم الهزيمة والاحتلال عن المقاومة والانضمام إلى التشكيلات الفدائية التي أرقت العدو وأوقعت فيه الخسائر الجسيمة. وكانت أوج هذه العمليات بين عامي 1968 و1972، إذ قام وزير الحرب الإسرائيلي آنذاك أرئيل شارون، بعمليات استهداف كبيرة للفدائيين، وهدم أعداد كبيرة من منازل المخيم، في محاولة منه لوأد المقاومة المسلحة ضد الاحتلال، وذلك عبر عملية اجتياح واسعة، حاول العدو فيها تجريف المخيم وتهجير أهله عبر عملية واسعة استمرت لأربعة أعوام، انتهت بالفشل الذريع. 

وكانت شرارة انطلاقة الانتفاضة الأولى عام 1987 (انتفاضة الحجارة) من معسكر جباليا، ففيه تعاظمت وتصاعدت حتى بلغت الآفاق، وبرز فيها مقاتلون أشداء مثل: عماد عقل، ومحمود المبحوح، ومجدي حماد، وأبو أنس الغندور، وسهيل زيادة، ورأفت سلمان، وفوزي أبو القرع، وإسماعيل أبو القمصان، وحسن المدهون.

مجاهدو كتائب القسام يديرون موقعاً دفاعياً مسلحاً بقاذفة صواريخ محلية الصنع مضادة للدبابات داخل مخيم جباليا في 5 أكتوبر/تشرين الأول 2004. (تصوير سكوت نيلسون/ غيتي إيماجز)

وفي انتفاضة الأقصى عام 2000، شهد معسكر جباليا معارك ضارية، منها معركة "أيام الغضب" عام 2004، حاول فيها العدو اقتحام المخيم، لكنّه عاد يجرّ أدراج الهزيمة بعد قتال دام 17 يوماً. وهي المعركة التي ظهر فيها الشيخ نزار يقود المقاتلين ويثبّتهم في الصفوف الأولى، وفيها قال مقولته التاريخية: "لن يدخلوا معسكرنا، يعني لن يدخلوا معسكرنا". 

مقاومون من حركة حماس يرتدون عباءات بيضاء إشارة لاستعدادهم تنفيذ عمليات استشهادية، وذلك خلال تظاهرة في 27 أكتوبر/تشرين الأول 2000 في مخيم جباليا. (FAYEZ NURELDINE/AFP)

وفي الانتفاضة ذاتها خرّج معسكر جباليا عدداً من الاستشهاديين في عمليات استهدفت مستوطنات قطاع غزّة، كان أبرزها عملية اقتحام مستوطنة "إيلي سيناي الأولى" في 2 تشرين الأول/ أكتوبر 2001، التي نفّذها الاستشهاديان إبراهيم نزار ريان وعبد الله عودة شعبان، وعملية اقتحام مستوطنة "إيلي سيناي الثانية" بعدها بشهرين تماماً، التي نفّذها الاستشهاديان جهاد المصري ومسلمة الأعرج، وعملية اقتحام "ميناء أسدود" بالاشتراك مع كتائب شهداء الأقصى في 14 آذار/ مارس 2004، التي نفّذها الاستشهاديان محمود سالم ونبيل مسعود. أما عملية اقتحام الاستشهادي سمير فودة لمستوطنة "نتساريم" في 24 تشرين الأول/ أكتوبر 2003، فقد كشفت الوثائق التي أفرج عنها عام 2017، أنها كانت العنصر الحاسم عند شارون في اتخاذ قرار الانسحاب من قطاع غزّة عام 2005.

حسناً، ما هو وضع الجيش الإسرائيلي في القطاع اليوم؟ ألا ترى بأنه نجح بعض الشيء في تكييف نفسه مع حرب العصابات التي تقاتل المقاومة ضمن فلكها؟ وربما بات يقاتل مؤخراً بشكل أقرب للعصابة منه للجيش النظامي، وشكل العمليّات التي ينفذها وطبيعة توغله قد تشي بذلك، هل تتفق؟ 

من المعروف أن العدو شنّ هجومه في معرض رده على عملية الطوفان مستنداً إلى ثلاث مراحل: المرحلة الأولى؛ تضمنت الحملة الجوية التي استمرّت عشرين يوماً، والتي هدفت إلى خلق حالة دمار شامل ومنهجي للبنية التحتية المدنية والاقتصادية والصحية ومنظومات الاتصالات والطرق والكهرباء وغيرها، خاصّةً في النصف الشمالي للقطاع، بهدف جعله غير قابل للحياة تمهيداً لعملية التهجير الكبرى، وتحويله إلى منطقة عازلة خالية من السكان.

وتركزت المرحلة الثانية على العملية البرية، وهدفت إلى تفكيك البنية التنظيمية والتحتية للمقاومة، ومثّـلت هذه المرحلة ذروة الحرب لما تضمنته من اعتماد على المناورة البرية الغاشمة والهجوم الواسع بقوام ست فرق قتالية، وألفي دبابة ومدرعة.

أما المرحلة الثالثة فقد ارتكزت بشكل أساس على "العمليات الجراحية"، القائمة على استهدافات مركزة بناء على المعلومات الاستخباراتية، والتي من الواضح أنها لم تفلح في تحقيق شيء، بل استطاعت المقاومة خلالها ترميم قدراتها بشكل كبير.

وهنا تدور العديد من التساؤلات حول الوضع العملياتي لجيش العدو في غزّة، وحول المرحلة التي وصلت الحرب إليها، هل هي بمثابة مرحلة رابعة للحرب، أم أنها فترة استثنائية للمرحلة الثالثة التي اعتمدت "العمليات الجراحية" سلوكاً تكتيكياً لها؟

إن كان من تسمية موضوعية للذي يحدث في ميدان القتال في غزّة منذ أكثر من أسبوع في جباليا والزيتون تحديداً، فهو "العودة إلى المرحلة الثانية"، وهو ما يجعلنا نطلق على ما يجري "الموجة الثانية من العملية البرية"، ويُعزى هذا إلى عدة عوامل رئيسة، أهمها: 

  • تعدد محاور القتال، إذ يُنفّذ العدو عملياته في ثلاثة محاور مركزية؛ الشمال وغزّة ورفح.
  • حجم القوات، إذ ينفّذ العدو هجومه بعديد قتالي يصل إلى ثلاث فرق؛ "162" و"99" و"98"، وهذا يذكّرنا بالعملية البريّة في المرحلة الثانية، فهي بدأت بنفس حجم القوات تقريباً، وانخرطت فيها الفرق "162" و"252" و"36". 
  • تصريحات قادة العدو، فورد عن هاليفي، رئيس أركان العدو، قوله: "الجيش يعمل الآن في جباليا مرة أخرى، وطالما لا توجد عملية دبلوماسية لتطوير هيئة حكم في القطاع عدا حركة حماس، سيتعين على الجيش تنفيذ حملات عسكرية مراراً وتكراراً في أماكن أخرى لتفكيك البنية التحتية لهذه الحركة". معنى ذلك، أنه لا جديد فيما يجري (عملياتياً)، ولا يعدو كونه اجتراراً لأهداف قديمة.

لعل من الأمور الواجب فهمهما في معركة جباليا الثانية، كمثال على حالة الاستعصاء الميداني التي يعاني منها العدو، هي حجم القوات المنخرطة في القتال من الجانبين، فالاحتلال زجّ بفرقة عسكرية كاملة هناك، وهي "الفرقة 98"، وينضوي تحتها -عملياتياً-؛ "اللواء السابع المدرع"، و"اللواء 460" الذي يعتبر مدرسة سلاح المدرعات في جيش العدو، كما جرى إسنادهم بقوة نخبوية بعد 48 ساعة من المعركة، تمثلت "بلواء المظليين"، الذي له تاريخ عريض في القتال. بينما من طرف المقاومة، فالقوة المنخرطة في القتال لا تتجاوز حجم كتيبة واحدة من كتائب جباليا الأربع، وهي كتيبة شرق جباليا، ورغم ذلك نجد العدو يواجه قتالاً ضارياً بشكل لم يسبق له مثيل في معركة جباليا الأولى، وبقية معارك القطاع.

يدفعنا ذلك للتوقف مليّاً، للنظر في الهدف الذي يكرر العدو الحديث عنه، حول عودته المتكررة إلى المناطق التي فرغ من القتال فيها سابقاً، إذ يحاول تقديم ذلك على أنها عودة لإعادة تدمير ما رُمّم بالفعل من بقايا حماس.

بالاستناد إلى ضراوة المعارك، وحجم الخسائر في قوات العدو، ومعطيات الميدان، ندرك أن هذا الحديث ليس سوى بروباغندا لصناعة نجاح موهوم، سواء في أوساط الجنود، أو على صعيد الجبهة الداخلية للعدو، ولا يعدو كونه مراوحة للقوات في مكانها، واجترار لأهدافها ذاتها.

نجحت المقاومة نجاحاً باهراً في إجراء تعديلات على تكتيكاتها الدفاعية، وهي تتحلى برشاقة ومرونة لا يمتلكها العدو، مما يمنحها قدرة عالية على البقاء بهذا الزخم في ميدان القتال، وهذا يشي بمرونة تنظيمية عالية تستحق الدراسة والتأمل بعناية. في المقابل، يتحرك جيش العدو كالدب، جامداً بطيئاً، في استراتيجياته وتكتيكاته، مما يجعله يقع فريسة المراوحة في المكان، ويجعله يغرق في رمال غزّة.

إن المشكلة التي يعاني منها العدو تكمن في أمرين رئيسين: غرور القوة، وهو السبب ذاته الذي أعماه عن تخيّل هجوم بحجم السابع من أكتوبر، ما جعله يخسر دفاعاته، ويفقد الإنذار، وبالتالي ينهار لديه الردع والحسم، أما السبب الثاني؛ فهو طبيعة تشكيل الجيش التي لا تناسب حروب العصابات، وهذه النقطة تحديداً هي ما حذر منها الجنرال الإسرائيلي المتقاعد إسحاق بريك، الملقب بـ "نبي الغضب الإسرائيلي" بسبب تنبؤه بطوفان الآقصى.

ربما يكون أكثر حديث شائع في هذه الأيام، هو حديث "اليوم التالي للحرب"، تحديداً وأن الاحتلال الإسرائيلي لا يمتلك إجابة على هذا السؤال، على خلاف المقاومة بالمناسبة، وهو ما عبّرتَ عنه مرّة بالقول بأن نتنياهو "لا يوجد لديه فكرة حتى عن الصباح التالي". ولكن السؤال: ما هي سيناريوهات المستقبل ضمن غياب أفق سياسي مطروح على الطاولة؟ 

‏يمكن القول بأن العدو أدخل نفسه في حرب لا يمكن كسبها سياسياً، ولا يمكن حسمها عسكرياً، فهو ما يزال يفشل في إخضاع المقاومة أو كسرها، سواء على صعيد الحكم أو على صعيد الجيش والعسكر. كذلك، لم ينجح في تحرير أسراه، وتقريباً، أصبحت دولته دولة معزولة، بل يمكن القول إنها فقدت طريقها وشرعيتها، وتحولت إلى أزعر بلطجي أو سكّير يتعرض للضرب المميت. كما ويمكن القول، إن التاريخ لن يحاسب جيش "إسرائيل" وقيادتها على فشل 7 أكتوبر فحسب، يل سيحاسبها على فشل 27 أكتوبر، والذي امتد لنحو 8 أشهر متواصلة، وراكم الفشل فوق الفشل، والهزيمة فوق الهزيمة، فحماس اليوم هي الجهة الأقوى بالنسبة لسكان شمال القطاع، ولا ينازعها في ذلك أحد، وما زالت تحتفظ بـ 60-80%؜ من بنيتها التحتية، كما يقول الأمريكيون، وبناءً أيضاً على الأرقام التي أعلن عنها العدو، المشكوك أصلاً في صحتها، فإنه قد قتل 12 ألف مقاتل من أصل 50 ألفاً، بمعنى أنّ حماس ما زالت تحتفظ بـ 70% من قوتها. كما أوردت صحيفة "الإيكونوميست" البريطانية عن جنرال إسرائيلي متقاعد قوله: "إن الحديث عن تفكيك كتائب حماس لا معنى له، فمقاتلوها لا يحتاجون لقادة للقتال".

وبالتالي، فإن أمام جيش العدو أربعة خيارات لنهاية هذه المعركة: 1- الحكم العسكري 2- الفوضى (نموذج الصومال) 3- سلطة بديلة عن حماس 4- بقاء حماس.

على صعيد الحكم العسكري، فيمكن القول بأن أكثر ما تخشاه الجيوش في الحروب غير المتناظرة، أن تقع فريسة معركة استنزاف طويلة ضدّ عصابة، وهو ما يعني بالضبط أن يتحول جيش الكيان إلى جهاز شرطة يلاحق المقاتلين في الخنادق والأزقة والأنفاق، ويكون مسؤولاً عن معاش الناس ورفاهيتهم. لذلك نجد وزير حرب الكيان، يقول بشكل واضح: "إن أسوأ الخيارات هو الحكم العسكري"؛ الأمر الذي دعاه للخروج بمؤتمر صحفي في 16 أيّار/ مايو 2024، يطالب فيه نتنياهو أن يعلن بشكل واضح؛ لا حكم عسكري لـ "إسرائيل" في قطاع غزّة.

وعلى صعيد الفوضى، فقد حضر وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، اجتماعاً لمجلس حرب العدو، في الشهر السابع على الحرب، وأخبر فيه أعضاء المجلس، أنه في المسار الحالي ستبقى حماس في السلطة في غزّة، أو ستكون هناك فوضى لن تؤدي إلا إلى خلق الظروف لمزيد من الإرهاب. و‏بعد أن استمع نتنياهو لكلامه، ردّ معترفاً: "إذا حدث ذلك (الفراغ السياسي الذي سينتج الفوضى) فسننشغل بغزّة لعقود". لذا، يمكن اعتبار هذا السيناريو صعب التحقق بشكل كبير.

مسلحون من لجان الحماية الشعبية يحرسون شاحنة مساعدات إنسانية في رفح بجنوب قطاع غزة في 3 أبريل 2024. (تصوير سعيد خطيب / وكالة الصحافة الفرنسية)/

أما على صعيد السلطة البديلة عن حماس، يعترف نتنياهو بالفشل فيقول: "محاولتنا لدمج جهات محلية في إدارة قطاع غزّة فشلت بسبب تهديد حماس لها واستهدافها لردع الآخرين"، ثم يقول: "الحديث عن اليوم التالي للحرب في غزة فارغ من المضمون ما دامت حركة حماس قائمة". وفي الحقيقة، أظن ‏نتنياهو محقاً بمواجهة خصومه ومنتقديه، بأن حماس قادرة على أن تمنع أي عبث في الساحة الفلسطينية، وستحسم عسكرياً كل من يأتي لحكم غزة على ظهر دبابة، وأظن أن الكتائب القادرة على صد عدوان جيش مكون من ست فرق، والصمود لثمانية شهور، ستكون هذه مهمة يسيرة بالنسبة لها.

وقد جرّب العدو أن يشكل قوّةً أمنيّةً في الشهر الخامس على الحرب، اعتماداً على شخصيات وقوات أمنية تتبع لجهاز مخابرات سلطة رام الله برئاسة ماجد فرج، وعندما بدأ بتحريكهم في مسألة تأمين شاحنات المساعدات التي كانت تتوجه من جنوب القطاع إلى شماله، تعاملت قوات المقاومة الأمنية بحزم مع هذه المسألة، وسارعت باعتقال عشرات الشخصيات الضليعة في هذا المخطط، واعتبرته سلوكاً خيانياً، وجرت السيطرة على المخطط في ليلة واحدة فقط.

إذن، بتحليل الخيارات السابقة، نجد أن الكيان أمام مأزق استراتيجي، ولا يمكنه بحال من الأحوال، الانتصار في هذه المعركة دون واحد من الخيارين: صفقة أسرى مع وقف إطلاق نار، أو اتفاق سياسي شامل. أما الخيار الأول، فهو اعتراف ببقاء حماس في السلطة؛ الأمر الذي يعني للاحتلال عدم تحقق أهداف المعركة، واعتراف منه بأن "إسرائيل" في ذروة بطشها لم تتمكن من القضاء على كيان صغير يتمركز في مساحة ضيقة لا تتجاوز الـ 400 كم2. وأما الخيار الثاني، فيعتبر خياراً أشد رعباً بالنسبة لقادة الكيان، فهو يفتح طريقاً لمنح الفلسطينيين دولة بجميع استحقاقاتها.

لنختم بهذا السؤال الصريح بعض الشيء. نحن متأكدون من أداء المقاومة أنه بطولي واستثنائي، ولكن قد يقول قائل: في النهاية هذه مقاومة محاصرة ولديها مخزون من المقدرات والعناصر، والوقت ليس لصالحها. هل عبرت المقاومة مرحلة الخطر أم أنها ما زالت فيها؟ 

اعتمدت المقاومة في الأعوام الأخيرة على استراتيجية مراكمة القوة، بما تقتضيه من عدم الانخراط في اشتباكات ثانوية تستنزف قوتها، وتعيقها عن مراكمة أكبر قدر ممكن من القوة تحضيراً للمعركة الكبرى.

التزمت المقاومة بهذه الاستراتيجية بعد معركة "العصف المأكول" (حرب عام 2014) وحتى معركة "طوفان الأقصى"، عدا عن جولة قتال قصيرة لم تتجاوز 11 يوماً في معركة "سيف القدس".

جانب من مناورة "الركن الشديد 4" التي نفذتها الغرفة المشتركة لفصائل المقاومة في قطاع غزة في ذكرى يوم المقاومة، أيلول\ سبتمبر 2023. (المصدر: قناة تليغرام كتائب القسام)
جانب من مناورة "الركن الشديد 4" التي نفذتها الغرفة المشتركة لفصائل المقاومة في قطاع غزة في ذكرى يوم المقاومة، أيلول\ سبتمبر 2023. (المصدر: قناة تليغرام كتائب القسام)

استثمرت المقاومة هذه الأعوام في المراكمة، خاصّةً في مسألة التصنيع العسكري، على صعيد الصواريخ والعبوات والقنابل اليدوية والقذائف المضادة للدروع وبنادق القنص وذخيرتها، وغيره من ترسانة عسكرية. كما استثمرت في تطوير سلاحها  سواء على صعيد مديات الصواريخ ودقتها، أو على صعيد القدرة التفجيرية لها، وتطوير العبوات، واختراع عبوات جديدة مثل "عبوة العمل الفدائي" و"العبوة القفازية"، وكذلك تطوير سلاح المُسيّرات وأنظمة القتال البحري والطيران الشراعي وغيره.

هذه المراكمة الطويلة، لا يعقل بحال من الأحوال، أن تكون المقاومة قد أعدتها لمعركة تدوم أشهراً قليلة، بل أعدت نفسها لقتال يمكن أن تصمد فيه سنيناً، وهو ما يمكن فهمه مثلاً؛ من استمرار المقاومة في إطلاق الصواريخ بعد كل هذه الشهور الطويلة، رغم أن العدو كان يتوقع أن لا يستمر إطلاق الصواريخ أكثر من ستة أشهر في أقصى حالات المقاومة تماسكاً وثباتاً.

يضاف إلى سبب المراكمة سبب آخر، وهو التكتيك القتالي للمقاومة، والذي اعتمدت فيه أسلوب بقع القتال المنتخبة بشكل دقيق ومركّز، بحيث تكون كل بقعة مستقلة بعتادها وأنساقها القتالية ومقاتليها بشكل شبه كامل. لم تقاتل هذه البقع جميعها في المعركة الضارية منذ أشهر، ولم ينخرط كثير منها في القتال، سواء بشكل كليّ أو جزئيّ، وما زال جزء كبير منها يحتفظ بكامل قوته، من مقاتلين وسلاح وذخيرة وبنى تحتية.

صورة نشرتها كتائب القسام في معركة طوفان الأقصى لسلاح مدفعيتها "رجوم". (المصدر: قناة تليغرام كتائب القسام)

تعتمد المقاومة على القتال البقعي رغم ما يكتنفه من صعوبة بالغة في تدريب المقاتلين عليه، وإعداد مسارح العمليات، بحيث يستقل كل مسرح عملياتي عن بقية المسارح بطريقة تجعله مكتفياً بالسلاح والمقاتلين والمؤونة والخطط العملياتية، لكن هذا ما يحفظ لها الاستمرار والصمود بشكل يصعب على التصديق، وهذا سر تعرض العدو لضربات شديدة العنف في أنساق خلفية، نظراً لعدم تركز القوة الدفاعية في نسق معين وتراجع قوتها في نسق آخر.

لم تبنِ المقاومة خطتها الدفاعية وأنساقها كقشرة الجوز، قاسية من الخارج، لينة من الداخل، بل هي أنساق متماثلة في القوة، لكل نسق فيها التشكيل القتالي المسؤول عنه، يقاتل في بقع قتال محددة ومنتخبة بعضها وراء بعض، وأكثرها صلابة؛ النواة.