تَقَع أرض فلسطين على الحوض الشرقيّ للبحر الأبيض المتوسّط، ولموقعها الجغرافيّ هذا كانت المنطقة مغمورةً بالمياه قبلَ ملايين السّنين. ومما يُثبتُ ذلك اكتشاف الكثير من الأحافير التي تعود لحيواناتٍ مائيّة تحجّرت فكوّنت الصخور هُنا. بعدها بزمان، انحسرت تلك المياه وتعرّت اليابسَة أمامَ شمسِ الكَون، فانبثقت منها حياةٌ هِيَ النّباتات التي تنوّعت أشكالها وطُرُق بَقائها. لاحقاً، صارَ هذا المكانُ موطناً لآلاف الأنواع من النّباتات، ثُمّ جاء الإنسان وسَخّر ما وَجَدَ منها لخدمته وبقائه، فتداوى بها، وصنع منها ألَذّ الأطباق، واتّقى ما كان منها سُمَّاً ويجيءُ بالمُصائب والآفات.
تُزهر معظم النباتات خلال فترة الربيع، وتتفتّح في منطقة الغور قبل المناطق الأخرى بشهر تقريباً. وما بين هذا وذاك، فصولٌ وبيئات جغرافيّة تحتوي على ما يزيد عن 2500 نوع من النباتات. جِبالٌ عاليَة، وهِضاب، وأخاديد سَحيقة (أخدود وادي الأردن والبحر الميّت)، وسُهولٌ خَصبَة، وبحيرات، وأنهار، وصحراء، ولكلّ بيئة نباتاتها الخاصّة بها، والمشتركة كذلك. ستكون هذه المقالة أشبه بجولةٍ افتراضيّةٍ في ربوع فلسطين؛ مشياً على الأقدام بالطبع.
نباتات بعد أول قطرة ماء
بَعدَ صيفٍ حارِق يفني مُعظَمَ نباتات الأرض ويجعلها هَشيماً يابساً، تبدأ الجبال الفلسطينيّة بالاخضرار مُجدّداً بعدَ أوّل قطرات من أمطار الخَريف. تهتزّ بها الأرضُ فتُحيي ما بجوفها من بذور، ويبدأُ الفلّاحونَ عندها بقطف زيتونِهِم المُقدّس، وتخرُجُ النّباتات الواحدَة تلوَ الأخرى لتُزيّن الجبال بألوانها الزهيّة.
نبدأ رحلتنا بأوّل نباتٍ يُزهر، وهو اللّحلاح؛ زَهري اللّون، يخرُجُ من أرض الجِبال كزَهرَة بلا ساقٍ، ويُستعملُ منذ القدم لأمراض المَفاصل، ويُستخرجُ منه أهمّ دواء لمرض النّقرُص. بعدَهَا يُزهر الزّعفران الأبيَض؛ أكثر أنواع الزّعفران الفلسطينيّة الثّمانيَة انتشاراً، وهوَ قَريبٌ من الزّعفران الّذي يستخرج منهُ أغلى التّوابل، ولهُ زهرَة بَيضاء تُشبه اللّحلاح، فهيَ أيضاً بلا ساق.
عندما يشتدُّ البَردُ قَليلاً، يُزهر النّرجِس المَشهور بزهرَة بَيضاء، لها وَجهٌ أصفَر وساق خَضراء تَحملُها بَعيداً عن الأرض وأقرَبَ إلى السّماء. لزهرتها رائحة جميلة فوّاحَة، وهي من المُرحِبّين بالشّتاء، فبظهورها يبدأ شتاءُ الجبال بالهطول. وقبلَ أن يشتَدّ شتاء السّماء، تنضُجُ ثمار أشجار القَيقب الحَمراء، فتكونُ مُتدليَة من أغصان الأشجار كعناقيدَ حَمراء؛ يسمّيها اليونانيّون: شجرة الفراولة، لحلاوة ثمارها وشبهها بالفراولة، وهي شجرة أصلية تستوطن أرض فلسطين من زمن طويل.
اللّحلاح والزّعفران والنّرجس، هي أمثلة على نباتات لها بُصيلة تحت الأرض، تُخزّن بها الغذاء كُل سنة لتَعيش. وهيَ وسيلة طوّرتها لبَقائها، وهناك العَديدُ غيرها مما يُسمّى بنباتات الأبصال، والكَثير من هذه الأبصال يأكُلهُ النّاس، وهو أيضاً الوَجبَة المُفضّلة لحيوان الخَنزيز الجَبَلي الّذي يحفر الجبال بحثاً عنها.
وليست كل النّباتات بأبصال، فجُلّ نباتات الأرض الفلسطينيّة هي نباتات حوليّة، أي تَحيى وتنمو في موسم الأمطار، وتزهرُ وتنتعشُ في الرّبيع، وتموتُ بالكامل في الصّيف مُخلّفة وراءها أولاداً لها هُم البُذور، يختبئون تحت التّراب ينطرونَ أوّل قطرات من المَطَر ليَحيوا ويعيدوا هذه الدورَة، كـ الأقحوان والدحنون وباقي الأزهار الجميلة المشهورة.
في الشّتاء، تخرُجُ أوراق نبات الميرميّة من الجبال، تقطفها الناس لخلطها مع الشّاي، ولتَسكين آلام البَطن. تنتعشُ النّباتات بمياه السّماء، فتخضرُّ السّراخس، وهي نباتات بلا أزهار. أشهرها ما يسمّيه أهلُ البلاد بـ شَعر الغول، وهي نوع يعيشُ على فوّهات عيون الماء الرّطبَة، وقد سمّيت بهذا لأنها تُشبه الشّعرَ في شَكلها، ولأنّ النّاس كانت تظُنُّ أنّ الكَثير من العيون مَسكونة بالأرواح، التي أشهرها وأخطرها الغول.
في هَذا الوَقت، تملأُ أوراق نبات اللّوف الجبال، يقطفونها في الشّتاء لطبخها. لورقتها شكل أذن الفيل، وبهذا يسمّيها الكثير من الفلّاحين. وعادةً ما يقطفون أوراق نبات الزْعمطوط معها من بين السّناسل الحجريّة على الجبال، فهو نبات شتوي أيضاً، ويؤكَل بغلي أوراقه وحَشيها بالأرُز. كان الفلسطينيّون قَديماً يستعملون جذوره السامّة لقتل أسماك البُحيرات وصَيدها، أما زهوره الجميلة، فهي من أكثر نباتات الزّينة مَبيعاً في العالم.1للمزيد انظر؛ كتاب: Education and Development among the Negev Tribes in the Twentieth Century, صفحة: 47.
اقرؤوا المزيد: "عليك الأمان.. العيون المسكونة بالأرواح"
ألوان
تَكسو الألوانُ المختلفة الجبالَ في الشّتاء. أشهرُ الصّفراوات نَباتُ الاقحوان الّذي يفرشُ الحقولَ بلونه في آخر الشّتاء، وأشهَرُ الزرقاوات نباتُ التٍرمُس الشَّعري، وأشهرُ الزهريّات نبات العوينَة بزهرتها الخُماسيّة، تعيشُ بكثرَة في حقول الزّيتون، وكان الناس يستخدمونها لعلاج الحُمّى، وأشهر البيضاوات رَبيعاً نبات الحويرنة، وتكون بأزهار رُباعيّة صليبيّة الشّكل، يأكُلها النّاس بعد تقطيعها وإضافة اللّبنة عليها، وأشهر البُرتقاليّات نبات البَكوريّة، صَغيرة وتَملأ الحقول ولَهَا زَهرَة بُرتقاليّة صَغيرَة.
أمّا أزهار الدحنون، فهي أشهر الأزهار الحمراء وأوّل المُزهرات من لونها على الجبال. لها تاجٌ أخضَر تحت زهرتها، يميّزها عن غيرها من الزّهور الحمراء الأخرى، مثل: الخشخاش. وقد كان الفلّاحون قديماً يستعملونَ النّباتات والزّهور كمواقيت لفًصول السّنة وأحوال الجَو، فيقول المثل الشّعبي عن زهور الدّحنون الحَمراء والنّرجس، وعلاقتهما ببدايَة الشّتاء البارد: "طلع النرجس والحنون، ضب بدارك يا مجنون".
إن أمعنت النّظر وبحثت جيّداً تحت أشجار الجبال في أوّل الشتاء، ستجدُ الفطرَ بأنواعه مختبئاً، وهناك الكَثير من الأنواع أشهرها فطرُ البيضَة الأبيَض ويكونُ تحت أشجار البلّوط.
الربيع والحيوان المُسافر
بعدَ انتهاء الشّتاء، تكونُ خزّانات الجبال الجوفيّة مُمتلئةً بالمياه. تنفجرُ الصخور على إثرها في الرّبيعِ عُيوناً تنبُعُ بالمياه العَذبة، ستُعطي حياةً لطالبيها من المَخلوقات، فتصحو الحيواناتُ وتبدأُ في حركتها بنقلِ بذور النّباتات والأشجار هُنا وهناك، لتبدأ حياةً جديدة بعد عام، فالحيوانات عاملٌ أساسيٌّ في تَكوين الأشجار والغطاء النّباتيّ.
ستُزهر نباتات الأوركيد، وهي كلمَة إغريقيّة لها معنى "الخِصيَتَين" لتشابه شَكل جذور نباتات هذه العائلَة بخصيتي الرّجل. وهناك أنواع كَثيرة منها، مثل: أوركيدَة الهَرَم بشكلها الهَرَميّ وأزهارها الزهريّة. ولكنّ أشهرها هي أوركيدة النّحلة، الّتي طوّرت زهرةً كشَكل النّحلَة، ورائحَةً كرائحة إناث النّحل لتجذبَ إليها ذكورَ النّحل لتلقيحها.
سيُزهر نبات القَندول؛ عِطرُ الجِبال. شُجيرة متوسّطة الحَجم، لها أزهار صفراء تملأ الجبال برائحتها الجَميلة، تراها في الرّبيع تُنير الجِبال بلَونها، لهذا كانَت كالقنديل باشتعاله، وبهذا سُميّت.
يذكُرُ أبو عبد الله التّميمي (طبيب وعالم نبات مَقدسي من القرن العاشر الميلادي) في مُذكّراته، أنَّ النّاسَ كانوا يجمعون أزهار شُجيرَة القندول هذه، ويضعونها تحت الشّمس بعد خلطِهَا مَع حُبوب السّمسِم على بِساطٍ من الخَيش، ويُغطّونها بغطاء من الكتّان لتمتَصَّ حُبوبُ السّمسِم الرّائحة الأخّاذَة للقندول، وبعدها يتكوّنُ زَيت يكونُ له طعمٌ يُشبه الفانيلا يُضاف للأطعِمَة.
نباتات تتبختر فرحاً
يجيءُ الصّيف، وتبدأ النّباتات بالاختفاء والفَناء الواحدة تلوَ الأخرى، فجُلّها لا يحتمل حرارة الشّمس، والمحظوظ منها ما أكمل تلقيحه وأنتج بذوره وضمن تكاثره قبل مَجيء الصّيف الحارق. أمّا ما استطاع البَقاء والنّجاة من حَرّ الصّيف، فإنّه يتبخترُ فَرِحاً بحياته بين قَليل ممن نَجَوا، فعند مَشيِكَ على سفوح جبال وسط وجنوب فلسطين في الصّيف، ستجدُ شُجيرات اللُّبّيد (القّريظَة) الصّغيرَة خَضراءَ سَعيدة، تُهيمن على الجبال بأزهارها الزهريّة والبَيضاء العطريّة الَجميلة، تُقطف أوراقها لعلاج السّعال. وكان قديماً يُجمع زيتٌ ينبُعُ من أغصانها لاستعماله في إنتاج العُطور، وذلك لرائحته الشّبيهَة بالعَنبَر.
ستجدُ شُجيرات النَّتش الشوكيّة تُغطّي الجبال بلونها البُني المُسوّد. كانَ النّاس يجمعونها ليصنعوا المكانس ولإشعال النّيران، فهي أسرع النّباتات اشتعالاً على الجبال. كذلك سترى عَين البَقَرَة بزهرتها الكَبيرة وساقها الطويلة على جوانب الطّرقات الفلسطينيّة، إذ وجَد ستّة أنواع منها في فلسطين، تختلف من حيث شكل الزّهرَة والأوراق.
"الصنوبر" يخسر المعركة
ما جرّبنا أن نفعله في هذه الجولة الافتراضيّة هو التعريف بالغطاء النباتيّ لفلسطين. ارتبط أهل البلاد بما تجود به أرضهم قبل مجيء الاستعمار، ارتباطاً وثيقاً، فهو جزء أصيل من ثقافتهم وعلاقتهم الأصيلة بالمكان. لذلك، فإنّ الغطاء النباتي -مثله مثل أشياء كثيرة- لم يسلم من محاولة "إسرائيل" طمسه وتغيير معالمه، والتوسّع الاستيطاني وبناء الجدار الفاصل إحدى تعبيرات ذلك. لكنّ التعبير الأكثر وضوحاً هو في امتلاء البلاد بشجر لا يخصّها، وهو شجر الصنوبر.
كانت عملية تشجير أرض فلسطين من أهم أنشطة الصندوق القوميّ اليهوديّ، الذي حشد الأموال منذ بدء الهجرة الصهيونيّة في أوائل القرن الماضي لزراعة الأرض التي رأوها بعيونهم الاستعماريّة صحراء قاحلة، فاختفت القُرى المُهجّرة تحت وابل من الأشجار الأوروبيّة التي تتوافق مع الرؤية التوراتيّة لأرض "الميعاد".
اختارَ أعضاء هذا الصّندوق شجرة الصّنوبر لزراعتها وخَلق غابات بها، تَحديداً شجرة الصّنوبر الحَلَبي، والّتي أطلقوا عليه لاحقاً اسم "صنوبر القُدس"، لكثافة ما زرعوه منها في جبال القُدس. ويعود اختيار الشّجرة لسُرعة نموّها وظلّها الوَفير وتحمّلها للجَفاف، فزرعوا المَلايين من هذه الشّجرة على عشرات آلاف الدونمات قبلَ النّكبَة وبعدها.
زُرعت أشجار الصنوبر في جبال فلسطين، وزُرعت أيضاً في الصحراء امتداداً لرؤية توراتيّة بجعل الصحراء خضراء. لذا يوجد أكبر تجمّع لأشجار الصّنوبر في غابة "ياتير" الإسرائيليّة جنوب الخَليل في صَحراء النّقب، والّتي زُرعت في ستينيّات القَرن الماضي. ادّعوا أن هذه الغابَة ستُخفف من التصحّر وستُنقّي الجَو وتُنعش التّراب وتملؤه رُطوبة وماء.
لكن الحقيقة كانت عكس ذلك. فبعد زراعتها بزمن، كشفت أبحاث أنّ موطن الصّنوبر ليسَ فلسطين، وأنّ أشجار الصّنوبر تخرّب الأرض وتضرُّ بالغطاء النّباتي، وتُقلل من تنوّع الطيور، وتَزيد من الحشرات الضارّة التي تقتل الأشجار. كما أنّها ساهمت في تَخريب نظام الصّحراء البيئي وانقراض نباتات صحراويّة نادرَة ومَخلوقات أخرى. دفع ذلك سلطات الاحتلال إلى التوقف بشكل كبير عن زراعة هذه الشجرَة، والدّعوَة لزراعة غيرها من الأشجار الأصليّة كالبُطم والبلّوط.
تُعتبر أشجار البلّوط والبُطم والسرّيس والخرّوب والزّعرور والقيقب المكوّن الأساسي لغابات فلسطين وغطائها الأخضَر، وهي أشجار تُعمّر طويلاً. وقد استعملَ الفلّاح هذه الأشجار قديماً لخدمته، فأكل ثمار البلّوط، وجَمَعَ أخشاب البُطم والزّعرور ليصنع منها المحراث والعِصِي، وقَطَف ثمار البُطم الفستقيّة ليخبز الخُبز، وغَلَى ثمار الخرّوب السّوداء وصنع منها عَصيرا لذيذاً، وجمع ثمار القَيقب الحَمراء اللّذيذة وصَنَعَ منها المُربّى، وتداوى بثمار الزّعرور؛ التُفّاحيّة المَذَاق، وصنع منها الدّبس، وجمع الصّمغ من على أغصان السرّيس فجفّفها فصارَت المستكة العربيّة. قدّس الفلاح الفلسطيني بَعض هذه الأشجار واعتنى به، حتّى أنّه تغنّى بها في أغانيه الشعبيّة، فمثلاً؛ تقول الاغنيّة:
ميلي ميلي يا شجرة السريس ... ميلي ميلي يا حامله سريس
ميلي ميلي على محمد هالعريس ... ميلي ميلي مية سما الله عليه
لا تعيشُ هذه الأشجار في الصّحراء الفلسطينيّة، لكنّ غيرها يعيش هُناك بقلّة، كأشجار الأثل فضيّة اللّون، الّتي تملأ الجبال المواجهَة للبحر الميّت، ويصنعُ منها بدو الصّحراء شاياً يتداوون به. كذلك أشجار السّدر بثمارها الصّفراء المُحمرّة، والقَليل من أشجار البُطم الأطلسي المُعمّر.
إن أبصرتَ من بَعيد، سترى أنّ معظم غِطاء فلسطين النّباتي هو أشجار صغيرَة مُتراصّة تَكسو الجِبالَ والأوديةَ بلونٍ أخضَر، ويكون ظلّها خفيفاً على عكس الصنوبر. باقترابك، ترى بينَها الكثيرَ من الشّجيرات الأصغَر فالأصغَر، بأزهارِ وأشكال مُتنوّعة بَديعة. وباقترابك أكثر وأكثر، ستُبصر وتُحبّ المكان أكثر.