3 يوليو 2020

"عليك الأمان".. العيون المسكونة بالأرواح

"عليك الأمان".. العيون المسكونة بالأرواح

كان الماءُ ولا زالَ مَقصداً يرتحلُ إليه الإنسانُ، وغيرُه من المَخلوقات. يطلبونَ جميعهم الماءَ ويتنافسونَ على العيش بقُربه، فلا حياةَ بلا ماء، والمخلوقاتُ- كلّها- جُبلَت على حُبّ الحياة، وغُرِزَ فيها حُبّ البَقاء. وماءُ الأرضِ ماءان، مالحٌ وعذب. المالحُ يُهيمنُ على مساحة الأرضِ ويصنعُ البحار والمُحيطات. أما العذبُ فينزلُ غيثاً من السّماء، فينهمرُ، ثمّ يسيلُ في الوديانِ ويصنعُ البرَكَ والبُحَيرات، ويُعطي الحياةَ لطالبيها، أو يتغلغلُ بينَ الصّخورِ والتّراب، فيتجمّعُ في باطن الأرضِ، في خزّاناتٍ بين صخور ضَخمَة، ويبقى حبيسَها إلى أنْ يأتِيَهَا زلزالٌ فيَصدَعُها، وتتفجّرُ ماءً عَذباً يخرُجُ من جَوف الأرض إلى سطحها. هذه دورة المياه على الأرض، كما نعرفها في عصرنا هذا. 

لكنْ في عصرٍ سبق، كانت العيونُ محلَّ شكٍّ وتساؤل، حول تلك الماء مجهولة المصدر، متقطّعة التدفّق، الباردةُ حيناً والساخنة حيناً آخر، وحول مَنْ يتحكّم بها من أهلِ جوفِ الأرض.

عيونُ فلسطين.. أشكال ألوان

فلسطين غنيّة باليَنابيع، أو العيون كما يُسمّيها الفلسطينيّون، وأوديتُها تَعُجّ بالعيون الّتي تتدفق بلا انقطاع منذ آلاف السّنين. تنتهي نصفُ مياه الأمطار التي تتساقط على فلسطين في الخزانات الجوفيّة، وتتفجّر في الضّفة الغربيّة وحدها 300 عين ماء، وهذه المياه الجوفيّة مصدر لأكثر من ثُلثي المياه الّتي تغذّي فلسطين.

أبدَى الفلسطينيّون اهتماماً كَبيراً إزاء العيون، فمنحوها أسماء لتمييزها عن بعضها. كما بَنَوا البِرَك الحجريّة أمامها لتَجمَعَ مياهها حتّى لا تذهب سُدى، وسبحوا في تلك البِرَك في حرّ الصّيف، وحفروا لها أنفاقاً طويلة داخل الجِبال، وزيّنوا مَنابعها بالأقواس والحجارة. 

بعضُ العيون تنبُعُ بماءٍ عَذب لا ينقطعُ صَيفاً ولا شتاء، مثل عين بوبين في قرية دير ابزيع قضاء رام الله، وثمّة عيون أخرى تنبُعُ شِتاءً، ثمّ تَجِفُّ وتنقطعُ عند توقّف الأمطار، مثل العين الفوّارة في وادي العيش في قرية عجّول في رام الله. وتوجد عيونٌ باردَة مثل عين فريجْ، جنوب غَرب سَلفيت، لها خزّانٌ جَوفيّ عَميق في بَطن الجبل بعيداً عن حرّ السّطح فتَخرُجُ باردَة، وهناك أخرى تأتي من أعماق سحيقة تحت الأرض فتخرُجُ حارّة تَغلي مليئة بالمَعادن الأرضيّة، كعيون طبريّا. 

عين بوبين، دير ابزيع، رام الله. عدسة: عماد حسين.

بعض العيون تتدفّق بقوّة، مثل"نبع العين"، في قرية زواتا في نابلس، وما يدل على قوّة تدفقه منذ زمن طويل وجودُ بقايا طاحونة مائية قديمة، كانت تعتمد على قوّة تدفق هذا النّبع. بينما يكون تدفق عيونٍ أخرى ضعيفاً، مثل عين القصّيب الصّغيرة في الوادي بين رام الله وبيتونيا، والتي ينمو أمامها نبات القصّيب المُحبّ للماء.

وتتركّز العيون في وَسط فلسطين وشمالها، وذلك يعود إلى التركيبة الجيولوجيّة للجبال، التي تسمَح بتخزين كميّات كبيرة من المياه. لكنّ العيون تندُرُ في صحاري الجَنوب وصَحراء أريحا، باستثناء بعض الحالات، كـ"عين جدي" الخلّابة، الّتي تتفجّر من الصّخور الجيريّة هناك بالقُرب من البَحر الميّت. وسُميت بهذا لعيشِ حيوان الجدي الفلسطينيّ حولها، وفي واحاتها، وبين جبالها، واعتماده عليها في شُربه وعَيشه.

لا شيء يُضاهي صَنبوراً ينبعُ بمياهٍ باردةٍ لذيذةٍ عَذبَة لا تنقطع ولا تَنتهي، تخرُجُ من صخرةٍ وكأنّها من بلادِ العجائب. ولكنّ بعض العيون في فلسطين عيون "لا تَروي"، مثل عين اللّيمون في مزارع النوباني برام الله، أيْ يُعتقَد بأنّها لا ترويك حتى لو شربت منها ما شربت، ولا تعطي لذّة الشّبع. ومن المرجّح أن يكون ذلك الاعتقاد ذا علاقةٍ بالتكوين الكيميائيّ للمياه داخل الخزّان الجوفيّ، فالمياه تتأثر بالصّخور المُحيطه الملامسَة لها، وتكتسب منها مكوّناتها ومعادنها.

عليك الأمان

عندما تكونُ العيون آمنة، تُصبحُ أرضُها جنّة للنّاس، كمدينة نابلس الّتي بُنيت لوفرة الينابيع فيها، وذلك لوقوع المدينة بين جَبليْن، حتّى أنَّ المثل يُضرب بمياه نابلس فيُقال: "نابلس الهرمة، مهلكة الظّلمة، ماؤها لا يَغور، وظالمها لا يدوم". أهمُّ عيون نابلس، مثلاً، هي عين القريون، في بلدتها القديمة، أدنى مبنى رومانيّ قديم، يُعتقد بأنّه أوّل بناءٍ في المدينة. ووُجِدت عين القريون على خريطةٍ رومانيَّة قديمة لمدينة نابلس في مدينةِ مادبا الأردنيَّة. ولاحقاً، كانت هذه العيْن- وحدها- كافيةً لتلبية احتياجات أهالي نابلس من الماء في العام 1930.1كتاب "ينابيع نابلس: شريان حياةٍ عبر التاريخ"، أمجد عليوي، ص 37.

لكن مُعظَم العيون تنبُعُ في الأوديَة وبين صخورها الوَعرة، وهذه مناطق ليست آمنة دائماً ليَعيش فيها الإنسان، أيلقاها من وعورة الجبال؟ أم من الفيضانات الموسميّة للوديان؟ أو الحيوانات المُفترسَة العَطشى؟ لذا فقد بنى الفلسطينيون بيوتهم على الجِبال أو في السهول، وكانت عادة النّساء جَلبَ المياه من العين البَعيدة بالجرار الفخّارية.

لكن هناك لغزٌ ما، جعلَ العيشَ بقربِ عيونِ الماء أمراً مخيفاً أكثر. غالبيّة العيون لها تدفّق مُنتظم، لكنّ بعضَها يتدفّق بشكل متقطّع، مثل "عين الفوّار" العَجيبة في وادي القلط بأريحا. تخرُجُ المياهُ منها بشكلٍ متقطّع، فإنْ جلستَ بجانبها قليلاً، قد تجدها تنبع بقوّة من الأرض، لكنّك إنْ أطلتَ الجُلوس، ستتفاجأ باختفاء المياه وانقطاعها فجأة، وكأنّ لا عينَ هُنا... بعدها بقليل، تعودُ و"تَفورُ" مجدداً.

هذا غريبٌ، حتى بالنسبة لنا، مع كلِّ ما نعرفه الآن وما فسّره العلماء. لا نزال غيرَ متأكّدين من سبب هذا التقطّع في بعض العيون، فما بالُكُم بغرابة الأمر عند الفلسطينيّ قديماً؟ كثيراً ما تساءل الفلّاحُ الفلسطينيّ، كيف تخرُجُ المياهُ من باطِنِ الأرض؟ وهَل هناك من يتحكّم بتدفُّقها؟ وهل لهذا علاقَة بأهل جَوف الأرض من الجنّ؟

العين المحروسة..

ذكَر توفيق كنعان، الطبيب والباحث الأنثروبولوجي الفلسطيني، في كتابه "الينابيع المسكونة والشياطين المائية في فلسطين"، أنّ الفلسطينيّين اعتقدوا بأنّ هناك روحيْن تسكُنان "عين الفوّار"، روحٌ خيّرة وأخرى شرّيرة، وأنّهما دائماً في صراع، وحين تفوزُ الرّوحُ الخيّرة، فإنّ الماء يخرج ليتنعّم به الإنسان، وحين تُهزَم، تنقطع الماء. 

عين قينيا، رام الله، عدسة: عماد حسين.

وليست عينُ الفوّار الوحيدة التي اعتقد الفلسطينيّون أنّها مكسونة، فقد ارتبطت بغيرها من العيون أخبارٌ وحكايات عن أشرار وأخيار "سكنوها". من الأخيارِ من هُم رجال دينٍ صالِحون مُسلمون، مثل عين قينيا المسكونَة من الشّيخ أبو العينين، ومَسيحيّون، مثل عين الكبريان، غرب بيت جالا، المَسكونَة من القدّيس جابرينوس، وعين كارم في القُدس، المَسكونة من مَريم عليها السّلام.2راجع: Haunted Springs and Water Demons in Palestine, Taufik Canaan. 

يحرص "الأخيارُ"، حسب تلك المعتقدات، على تنعّم أهل البلاد بالمياه، فذبح النّاسُ لأرواح الخَير الأضاحي، طلباً لبركاتهم؛ وهناك عيونٌ بها أشرار، لها أسماء كالماردِ والغُول، حتّى أنّ بعضَ النّباتات سميّت باسمَه، كنبات "شعر الغول"، وهو نوع من السّراخس يعيش عند منابع المياه من الصّخور، ويُشبه الشعر المتدلّي ويُغطّي عادةً مَنبعَ العَين.

وفي طبريّا، تعجّب الفلسطينيّون من العُيون السّاخنة، كيف يغلي ماؤها هكذا؟ لكنّ الجواب كان حاضراً، إذ اعتقدوا بأنّ العَفاريت كانوا يسخّنون الماء داخل الأرض، بأمرٍ من النبي سُليمان، وما زالوا يقومون بالتّسخين منذ زمانِ النبيّ، وأنّ العفاريت صمٌّ عُمي، لا يَعلمون بموتِ سُليمان إلى يومنا هذا، ويعملون بأمره السابق بلا كَلل.

ويُعتقد بأنّ هناك عيون تحرُسها الحيوانات، مثل الجَمَل الذي يحرس عين مِصباح في رام الله، وثمّة عيونٌ تحرُسها عروسات (جنيّات)، وهنّ إناثٌ جَميلات بشعورٍ طويلة، يجلسنَ بجانب العَينِ ينتظرنَ رجلاً يمشي وحده قريباً منهنّ، فيجذبنه ويعِدنَهُ بالغناء والرّاحة.

عين مصباح أسفل الشارع، رام الله. عدسة: عماد حسين

ولا تُحبُّ العَروسات النّساء، وحين تصطدنَ رجلاً، فإنّه يَختفي لسنوات، كما تُقول القصّة الّتي حصلت يوماً في عين الحمّام في بيرزيت والّتي تسكُنُها عَروسة3هامش: المصدر السابق.. وقد تتحوّل العَروسة إلى ماعز، فيلحقها الرّجل ظانّاً بها غَنيمة. تبدأ الماعز بعدها بالقفز من صخرة إلى أخرى، حتّى تصل بالرجل إلى بقعة خالية، وعندها ترجع عروسة، وتَغوي الرجل، كما حصل في قصّة ذكرها توفيق كنعان في كتابه، وكان قد سمعها من صاحب القصّة نفسه في عين القَصر في رام الله. والعَروسَة لها حضور في عيون أخرى كعين مُنجد وعين بيتين في رام الله.

واعتُقِدَ في فلسطين قديماً أنّ الارواح تخرُجُ ليلاً لتتمشى، لكنّها لا تبعدُ عن العين، بعضها يبحث عن الأعشاب ليأكُلَ كالجِمال والخِرفان، بينما يجلسُ الشّيوخ والقَساوسة في صَلاة وخُشوع. أمّا الغولُ والمارد، فيخرجان للبحث عن ضَحايا لهما، لذا أوصى الفلسطينيّون- جيلاً بعد جيل- بذكرِ اسم الله عند ورودِ أيّ عين ليلاً.