25 سبتمبر 2020

خَليّة في كنيسة العُرس

خَليّة في كنيسة العُرس

وَصَل حسونة، المعروف من أهل القدس بالنخوة وخِفة اليد، وبيده عصفور الكَنار. أبلَغنا سيادةَ الحاكم، ولما جاء أُعجِب بالعصفور، ثمّ قال لحسونة: "بيّغني هذا العصفور؟"، "نعم يا سيدي، بيّغني" أجابه حسونة، ثمّ أردف الحاكم: "شو بيغني؟ وين محمد قام بالسيف؟"، قال هذا وعيّناه تنظر لحسونة بازدراء، ثمّ التفت إليّ وإلى متيا وابتسم. فبادرتُ قائلاً: "يا سعادة الحاكم هاد بيغني: يا عزيز عيني أن بدي أروح بلدي"، فسكت وفي نفسه غصة". هذا ما دوّنه الموسيقي واصف جوهرية في مذكراته عن لقاءٍ جمعهُ بحاكم لواء القدس البريطانيّ لويس أندروز مطلع عام 1936، بعد أن طلب هذا الأخير جلب طائرِ كنار له، كي يهديه لزوجته في عيد ميلادها على ذمة صاحب المذكرات.1جوهرية، واصف، القدس الانتدابيّة في مذكرات الجوهرية، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، ج2/ ص538-539). 

على أيّة حال مَالَنا والكنار، فنارُ ثورة الـ36 كانت قد اشتعلت في حينه، وتسلّم أندروز كتاباً يُكَلِّفه بإدارة لواء الجليل شمالاً، دون أن يعرف بأنّ الجليل وأهله على موعدٍ مع رأسه؛ هُناك عند كنيسة العُرس في كفر كنا (قانا الجليل)، ثمّ عند كنيسة الجرينة بقرب الـ"كازانوفا" في نـاصرة يسوع، حيث مسرح الدم وصيّحة المجذوب: "أجوكوا عرب الشرق – سال الدّم، هون سال الدّم". 

اقرأ/ي المزيد: "جندي على العود.. الجوهريّة في القدس العثمانيّة".

تـنــقّـل الضّابطُ الإنجليزيّ الأسترالي المولد لويس ييلاند أندروز Lewis Yelland Andrews بين عدة وظائف إداريّة ومهمات استعماريّة منذ بداية الانتداب البريطانيّ على فلسطين. فقد كان قاضياً في المحكمة المركزيّة في حيفا بين 1921-1922، وحاكماً للواء الشّمال بين 1929-1932، ومساعداً لأمور التطوير في حكومة الانتداب في القدس، وعضواً في لجنة تطوير الزراعة، ومسؤولاً عن ضريبة الأرض.2عن دور أندروز ومهماته الإدارية التي شغلها راجع، يزيد سليمان، فرحة في الجليل – قصة اغتيال الجنرال أندروز، موقع عرب 48، تاريخ النشر 27-1-2018. 

لم يكن استعداء أندروز لعرب فلسطين في شكل دعمه للصهاينة اليهود واستيطانهم فقط، إنما أيضاً في ازدرائه لملامح الشخصيّة العربيّة ووجودها في الأرض.3عمل أندروز على انتزاع أراضٍ عربيّة وتسليمها لليهود من أجل استيطانهم عليها، وساهم في إقامة مستوطنات "جدار وبرج" الصهيونية، وحتى مقتله وقف أندروز وأشرف على إقامة 16 مستوطنة صهيونيّة من هذه المستوطنات، من أصل 52 مستوطنة أقيمت بين سنوات 1936-1939. راجع، يزيد سليمان، "فرحة في الجليل – قصة اغتيال الجنرال أندروز". تبنّى أندروز هذه الملامح فلَبِسَ الزيَّ العربيّ، وتنقّل على حصان من سلالة عربيّة، والأهم أنّه أتقن اللغة العربيّة بنسختها الفلسطينيّة المحليّة كما لو كان سليل الزيادنة في البلاد. فالإنجليز كان لديهم تصور استكشافيّ - استشراقيّ عن ثقافة السكان المحليين في البلاد يقوم على ازدرائها وأخذها بجدية معاً.4اهتم الإنجليز منذ بدايات القرن التاسع عشر بثقافة السكان المحليّين العرب في فلسطين، وسعوا إلى فهمها فهماً جديّاً، بالرغم من نظرة قناصلهم إليها كثقافة "منحطة" ومع ذلك قدّموا تقارير مفصلة متعلقة بالعادات والممارسات الاجتماعية والثقافية لسكان فلسطين العرب. عن ذلك راجع، فِن، جيمس، "أزمنة مثيرة – وقائع من سجلات القنصلية البريطانية في بيت المقدس"، ترجمة : جمال أبو غيدا، منشورات المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2017.

كلّ هذه السيرة الاستعماريّة لأندروز لم تكن السبب في طلب رأسه من قبل الثوار، بقدر ما كان السبب هو سعيه الدائم لإهانة الناس والبطش بهم أثناء الثورة العربيّة 1936-1939، فهو من ابتكر تقنية شلع لوح نبات الصبّار، وإجبار المستجوبين العرب المشي عليه حُفاةً حتى ينطقوا.5ورد في عدة روايات شفوية محلية عن مثل هذه الممارسات وارتباطها بأندروز خلال الثورة. راجع، علي حبيب الله، كبشانة الفداء، موقع باب الواد، 14-5-2017. من هنا شرب ثوارُ الجليل فنجانَه، وبدأت كتيبةٌ قسّاميّةٌ الإعدادَ لذلك.

في مطلع أيلول سنة 1937 أرسل حاكم اللواء -اللوى بلهجة أهل البلاد- أندروز إلى خوري كنيسة العرس في كفركنا يُخبره عن نيّته زيارة الكنيسة.6وهي كنيسة القديس برثولماوس الرسول، وتقع في الجزء الأوسط في الحي المسيحي في قرية كفركنا في الجليل شمال فلسطين. ويعود اسم الكنيسة "العُرس" من الحدث المذكور في إنجيل يوحنا عن عُرس قانا الجليل الذي دُعي إليه سيدنا عيسى المسيح وتحويله الماء فيه إلى خمر. ومن على مكان إقامة ذلك العُرس وحدوث المعجزة أُقيمت الكنيسة.كان ذلك ضمن سلسلة زيارات قام بها أندروز إلى الكنائس المسيحيّة في الجليل بغرض استمالة المسيحيّين العرب لصالح سلطات الانتداب ضدّ الثورة. توّجه خوري كنيسة العُرس بحسب ما قيل إلى درويش سمارة، وهو أحد وجوه عائلة الأمارة في قرية كفر كنا، والذي كانت له صلةٌ بالثوار، وأبلغه عن نيّة حاكم اللواء زيارة الكنيسة، فعرفت قيادةُ الثورة في الجليل بذلك وأوصت الخوري أن يُحسِن ضيافة الضيف.7ذُكرت حكاية كنيسة العرس وزيارة أندروز لها في عدة روايات شفويّة محليّة في منطقة الناصرة، والموثق منها، راجع، الحاج أحمد الحايك من قرية اندور قضاء الناصرة، ضمن سلسلة التاريخ الشفوي للنكبة الفلسطينية، موقع فلسطين في الذاكرة، أجرى المقابلة سعيد عجاوي، تاريخ 22-12-2010.

رسم لكنيسة العُرس في كفر كنا (صفحة الباحث أحمد مروات).

من بساتين رُمان الغَرابا مرّ أندروز ترافقه سَريةٌ عسكريّة متوجهاً نحو شارع الكنائس في كفر كنا إلى أن حطّ على باب كنيسة العُرس. كان ذلك ظهيرة يوم الأربعاء 22 أيلول 1937، أي قبل أربعة أيام من اغتياله. استقبل خوارنة الكنيسةِ أندروز، وتعمّدوا تقديم ضيافة عربيّة الطابع، وانتبه أندروز إلى القهوة المُقدمة إليه بفناجين عربيّة كبيرة الحجم من تلك التي يستخدمها العرب في شرب القهوة "السّادة"، فكانت إشارةً مِنهم فَهِمَها الضيفُ جيّداً؛ المعزبون عربٌ أكثر من كونهم مسيحيين.8المرجع السابق، الجزء الثاني من المقابلة.

غادر أندروز كنيسة العُرس تاركاً كفر كنا بلا رجعة. في هذا الوقت، كانت خلية من ثوار القسّام يقفُ على رأسها الشيخ سعد سويدان الخالدي، أردنيَّ الأصل من مضارب الزعتريّ البدويّة، ومعه أبو إبراهيم الصغير توفيق الإبراهيم من قرية اندور، ومحمد أبو جِعب ابن قباطية، وأحمد التوبة الصفوري "أبو غازي"، قد بدأت التخطيط والترصد. 

اختلفت الروايات على اشتراك آخرين في العملية، مثل الشيخ محمود الديراوي، وصالح نصر الصفوري (والد زوجة الشّهيد ناجي العلي)، وصالح عون الله، وذياب الفاهوم من الناصرة، أو لنقل إنّ هؤلاء -كما يبدو- كانوا على علمٍ بنشاط الخلية، غير أننا نميل إلى أن التدبير للعملية كان يقتصر على عددٍ من الرجال أقلّ مما تناولته الرواياتُ الشفويّة الفلسطينية، وإلا ما كان للعملية أن تنجح.9ورد اسم كل من صالح عون الله وذياب الفاهوم في رواية لدى الباحث مصطفى الأسعد، وذهب الأسعد إلى القول بأن التخطيط النهائيّ للعملية جرى في بيت ذياب الفاهوم في الناصرة في الليلة التي سبقت يوم العملية. أنظر: الأسعد، مصطفى القنانبة، "الثورة الفلسطينية الكبرى 1920 -1948"، مخطوط غير منشور، ص54-55. أرسل الأسعد بعضاً من صفحات كتابه للكاتب عبر شبكة التواصل الاجتماعي بتاريخ 21-9-2020.

وقد ساهم  فشل الإنجليز في العثور على المنفذين الفعليّين للعملية بعد تنفيذها في إشعال المخيال الاجتماعيّ الفلسطينيّ عن العملية وهوية منفذيها، فاختلفت الروايات وتعدّدت الأسماء إلى يومنا. إلا أنّ المُجمَع عليه في كلّ ما قيل، أن الشيخ سعد سويدان الخالدي كان هو من ضَغَط بسبابته على الزناد ليُخلِّصَ الجليلَ وأهلَه من حاكمٍ تمثّـلَت كلُّ وحشية الإنجليز في شخصه.

أما عن الموعد في الناصرة وعلم الخلية المُسبق بقدوم أندروز لكنيسة الجرينة عند الكازانوفا لأداء صلاة الأحد، ففي ذلك أكثر من رواية.10كنيسة المسيح الإنجيلية أو الجرينة التي تقع بالقرب من التيراسنطة عند طلعة حي الكازانوفا في مدينة الناصرة.منها، أن الثوار كانوا قد نظّموا إمام الجامع الأبيض في الناصرة– وهو من قرية إكسال ولم يُذكر اسمُه – لمراقبة الكنيسة التي يتردد إليها حاكم اللواء في أيام الآحاد، والذي نقل لأعضاء الخلية أخباراً متعلقةً بحركة ميدان العملية ومواعيد تردد آندروز.11راجع، يزيد سليمان، فرحة في الجليل – قصة اغتيال الجنرال أندروز. 

غير أنّ الحاج أحمد يوسف الحايك يقول في رواية أخرى بأن نور الدين العبوشي، الضّابط العربيّ في الجيش البريطانيّ، الذي كان يعمل لصالح الثورة في الجليل، هو من نقل لثوار الخلية عن طريق شخصٍ نصراويّ اسمه صالح العفيفي الخبرَ عن نيّة قدوم حاكم اللواء إلى الكنيسة مع كامل التفاصيل المتعلقة بالتوقيت وعدد المرافقين. كان الموعد الساعة الخامسة من مساء الأحد 26 أيلول 1937. 12اختلفت الروايات الشفويّة المحليّة على نور الدين العبوشي، ابن مدينة جنين الذي كان يعمل ضابطاً في الجيش البريطانيّ ودوره في سنوات الثورة، فالحاج أحمد الحايك يقول في روايته بأن العبوشي كان يعمل لصالح الثورة وقيادتها، وقد نقل لها كثير من المعلومات المتعلقة بحركة الدوريات الإنجليزيّة وضباطها، ومنها المتعلق بحاكم اللواء لويس آندروز. ويؤكد الحايك على أن العبوشي كان مرافقاً لآندروز عند اغتياله وعلى علم مسبق بذلك. بينما يقول مصطفى الأسعد ابن قرية إندور في كتابه بأن العبوشي لم يكن له هذا الدور مع الثورة والثوار، بل كان من الضبّاط العرب في الجيش الإنجليزي الذين بطشوا بأبناء جلدتهم، والعبوشي تحديداً كان على رأس الكتيبة الإنجليزية التي فرضت طوقاً عسكريّاً على قرية إندور بعد معركة الشرّار عام 1937. راجع الحايك، أحمد. مقابلة على موقع فلسطين في الذاكرة. أيضاً، الأسعد، مصطفى، مقابلة على شبكة التواصل الاجتماعي، تاريخ 21-9-2020.

الشيخ سعد سويدان في يسار الصّورة. (من صفحة الباحث مصطفى الأسعد على فيسبوك).

وبينما كان حاكم اللواء يحتفل ظُهر يوم الأحد بذكرى ميلاده الواحد والأربعين، في مستعمرة "بيت زيرع"، كان صوت عبد الله المجذوب يدوي في حي الكازانوفا النصراويّ: "أجوكم عرب الشّرق-سال الدّم، هون سال الدّم"، على ما ظلَّ يذكر أهل الناصرة في ذلك اليوم. أثناء ذلك كانت خلية القسّاميين قد حطت متفرقة بين أزقة المدينة.

تسلل الشيخ سعد سويدان مُتنكراً بثياب حرّاثٍ، ومعه محمد أبو جِعب، ولاذا خلف مبنى مقابل للكنيسة، وظلّ أبو إبراهيم الصغير وأحمد التوبة الصفوري يحيطان بهما على بعد عشرات الأمتار كغطاء أمنيّ، إضافةً إلى آخرين قيل إنهم تواجدوا في حي الكازانوفا. عند الساعة الخامسة والنصف شرّف "العريس" ببزّته البيضاء ومعه ثلاثة من مرافقيه مترجلين بعد أن ركنوا مركبتهم على رأس الطلعة المؤدية للكنيسة.

قبل اقتراب أندروز من باب الكنيسة بأمتارٍ قليلة باغته الشيخُ سعد سويدان وجهاً لوجه. ويقال إن أندروز صرخ في وجهه "رابيش" وتعني "مقرف"، وقبل أن يتلفظ بأخرى كان سويدان قد ردّ عليه بطريقته؛ ثماني فشكات (رصاصات) تركت حاكم اللواء "مبطوحاً على الدخانة". 

ولمّا حاول "ماكوين"، مرافق الحاكم، سحب مسدسه لقتل سويدان، كان أبو جِعب قد ناوله إياها في رأسه فأرداه قتيلاً هو الآخر. فرّ باقي مرافقي آندروز إلى داخل الكنيسة، بينما بدأ أبو إبراهيم الصغير والتوبة إطلاق الرصاص إلى أن انسحب أربعتهم وتواروا بين أزقة المدينة، ثم غادروا إلى صفورية، ويُقال إنّ منهم من فرّ إلى قرية إندور.13ذكرت بعض الروايات بأن زوجة لويس أندروز كانت برفقته وشهدت اغتياله قبل أن تفرّ إلى داخل الكنيسة. الأسعد، مصطفى، المرجع السابق، ص 56.

خلال ساعة واحدة، كانت فلسطين كُلّها قد عرفت بأن أندروز إلى جهنم وبأس المصير. أعلن المندوب السّامي اغتيال حاكم اللواء، واتخذت بريطانيا صبيحة اليوم التالي سلسلةَ إجراءاتٍ قمعية ضدّ الثورة وقياداتها. حُظرت اللجنة العربيّة العليا، وفرّ المفتي بعد إصدار مذكرة باعتقاله إلى خارج فلسطين، واعتُقل أكثر من 15 ألف فلسطينيّ خلال الشهور التي تلت العملية. هذا غير الجائزة التي رصدتها بريطانيا بقيمة 10 آلاف ليرة فلسطينيّة لمن يدلّ أو يسمّي حتى أحد المنفذين في حينه، ولكن بلا طائل.

صحيفة "نيويورك تايمز" الصادرة في 27 سبتمبر/أيلول 1937 تنشر خبراً عن مقتل الحاكم أندروز.

اختفى عبد الله، ذلك المجذوب الذي كان يصيح منذ ما قبل التنفيذ: "أجوكوا عرب الشرق......"، شوهد آخر مرة في نفس الليلة بعد العملية يكلّم طريق الكازانوفا وقد خفت صوته. اعتبرته بريطانيا مطلوباً، وبحثت عنه ولم تجده، غير أن كلماته ظلّت ترن في ذاكرة سكان ذلك الحي طوال عقود طوت. 

احتفى عرب فلسطين بتلك العملية البطوليّة التي أشعلت مخيالهم، فالناس تحكي أكثر كلّما عرفت أقلّ، ونكّس اليهود أعلام مستعمراتِهم حداداً، لكن ما بقي يجهله الجميعُ وظلَّ طيّ الكتمان، هو هناك في كفر كنا، فعند كنيسة العُرس، لم يُقابل أندروز خوارنة الكنيسة كما يُظَن، إنما جالس قاتليه!



8 يوليو 2023
الرجل الذي مات ولم يمت

هذه سلسلة تسعى لقراءة إرث كنفاني في القصة القصيرة. وتبدأ كل حلقة بموجز للقصة المعنيّة، وتنتهي بهامشٍ يحاور النص ويحاول…