19 مايو 2020

جنديٌّ على العود.. الجوهريّة في القدس العثمانيّة

جنديٌّ على العود.. الجوهريّة في القدس العثمانيّة

"أما اسمي، فقد عَرفتُ بأنّ والدي أسماني واصف تيّمناً بصديقه الحميم واصف بك العظم من دمشق-سوريا عندما كان رئيساً لمحكمة جزاء القدس"، يقول واصف جوهرية مُفتَتِحاً مُذكراتِه التي تعود إلى مطلع القرن العشرين. تروي تلك المذكرات جانباً مهماً من تاريخ القدس العثمانيّة، المدينة التي كان لا يزال يتنفسُ معظمُ مَن فيها مِن داخل سورِها، وأحيائها التي بقيت في حينه مِحلات يُحيل اسمُ كلِّ مِحلةٍ منها إلى نسب آهليها أو حرفييها، وذلك بعيداً عن مذاهب أهلها، والتي سيوقِظُها الإنجليز فيهم لاحقاً، لتغدو الحارةُ على دين أهلها مع عشرينيات القرن الماضي.

في دار الجوهرية وُلِدَ واصف في كانون الثاني سنة 1897 لعائلةٍ من العرب الأرثوذكس، وتحديداً في حارة السعدية، الحيّ الذي يجثو على ربوةٍ تُطلّ على كامل مدينة القدس، في جوار مقام الشيخ ريحان. فالقادم من باب العامود إذا ما صعد مارّاً عن قنطرة المملوك سيصل السعدية، أما القادم من مِحلة الواد فعليه صعود عقبة الأصيلة ليصل إليها، فيما القادم من الروضة إلى السعدية عليه المرور بعقبة مدرسة راهبات صهيون للفرنسيين.

واصف جوهريّة طفلاً، في صورة مع والده جريس جوهرية. المصدر: مؤسسة الدراسات الفلسطينيّة.

شبّ واصف عن طوق طفولتِه مولعاً بالتسكع والغناء مثل كثيرين من هواة حارة السعدية، في حاضنةٍ شعبيّةٍ متكافلة، يشبك أبناؤها قبضاتهم مسلمين ومسيحيين في ليلة الحرومية "الكرنفال" من ليالي أول صيام العيد الكبير، لتهزّ شوباشاتهم الغنائيّة جدرانَ وأرض مِحلة الواد المرصوفة ببلاط الريم.1الحرومية: اعتاد أهالي القدس، وبالأخصّ طائفة الأرثوذكس، إحياء السهرات الطويلة في بيوتهم، وذلك في أيام ما يعرف بـ"وقفة" عيد الفصح المجيد. راجع، واصف جوهرية/ المذكرات، ج1، ص68. وهو البلاط الذي رُصِفت به مساربُ وشوارع المدينة في عهد الحاج سليم أفندي الحسيني رئيس البلدية في ذلك الحين، والذي بقي المقدسيون يحلفون برأسه طوال عقود تـلت.

كانت مِحلة السعدية معرّة الغناء والإنشاد بالنسبة لواصف. ويذكر منذ طفولتِه في رمضان، كيف كانت فرقة الحوّاية من مدّاحي الحيّ تجوبُ، بعد ضرب مدفع الإفطار، الحارات إنشاداً ووقوفاً على أبواب البيوت طلباً للمعلوم من أصحابها غناءً. وما أن يُنهي مصلّو الحرم صلاة التراويح، حتى ينبعث الغناءُ والتواشيح، وتفجُّ أصواتُ دراويش مقام الشيخ ريحان بالذكر والمدائح النبويّة. كان أحبها إلى قلب واصف مديح: "يا راحلين إلى منى بقيادي – هيّجتُمُ يوم الفراق فؤادي"، فضلاً عن الابتهالات الدينيّة المنبعثة من حضرةٍ هنا أو زاوية هناك، يضبطها كلُّها إيقاعُ قرّاء قرآن مصاطب الحرم.

لوالد واصف، جريس جوهرية، أُذنٌ موسيقيّةٌ تأثرت بموسيقى أذان المآذن، ويذكر واصف كيف كان أبوه يوقِظُهُ فجراً لسماع الصوت الملائكيّ المُنبعِثِ من حنجرة الشيخ محمد السلواني، وتنغيمهِ الأذان من على المئذنة الحمراء المُطلّة على مِحلة السعديّة. وفيما يتعلق بذلك، يروي واصف عن أبيه حادثةً طريفةً، إذ احتجّ أبوه ذات يوم على استبدال الشيخ السلواني بمؤذنٍ آخر، وكان صوتُ المؤذن الجديد من أنكر الأصوات، فعكّر ذلك صفو والده، فقام بتنظيم مضبطة احتجاجٍ على المؤذن مُوقّعة من وجوه الحارة. ولما توّجه بها إلى دائرة الأوقاف الإسلاميّة مطالباً بإعادة الشيخ السلواني، دُهش موظفو الأوقاف وقتئذ من كونه مسيحيّاً. ولما سُئِلَ عن منطق احتجاجه، أجاب جريس مُنشِداً الأبيات التالية:

سمعتُ مؤذناً يؤذي بصوته
لسامعـه وقـد أذن الأذانــا
فقـلتُ وقد أُذت منهُ أذنـي
آذانٌ تقصد أنت أم أَذَانَــا...

"لولا أنّ المؤذن الجديد يتيم الأبوين، لصرفتُهُ من المدينة كلّها"، ردّ مديرُ الأوقاف وقد أدهشته أبياتُ أبي واصف. أُعيدَ الشيخُ السلواني إلى المئذنة الحمراء، أما الآخر فقد نُقل إلى مئذنة مِحلة سعد وسعيد في الشيخ جرّاح.

وعلى سيرة المآذن، فقد حملت كثيرين من مؤذنيها المشايخ نزولاً إلى عالم الغناء والتمثيل على المسارح. يذكُر واصف جوهرية الشيخ الاسكندراني سلامة حجازي الذي حَمَلَهُ صوتُه المُشبع والجَهور من على مئذنة جامع الأباصيري في ثغر الاسكندرية نزولاً إلى مسرح "اسكندر فرح" في القاهرة. ومثله الشيخ أحمد العريفي الذي نزل من مئذنة جامع البحر في يافا إلى حلقات الغناء والإنشاد فيها. زار كلاهما القدس فيما كانت تلفظُ أنفاسَها العثمانيّة، واشتُهِرت بالأخصّ زيارةُ الشيخ حجازي من مصر إلى القدس سنة 1908، ومشاركته احتفالات العرب بانقلاب الاتحاد والترقي على السّلطان عبد الحميد الثاني. يَصِفُ واصف سرادق الإنشاد التي نُصِبت عند الخندق الملاصق لسور المدينة خارج باب الخليل، حيث وقف حجازي في إحداها، ومن أروع ما أنشده يومئذ: "سلام على حسن يد الموت"، يقول واصف جوهرية مستحضرا.

تثقّف واصف فنونَ الموسيقى على يد كلّ من محمد السيباسي وحمادة العفيفي، أشهر مُلحني المدينة وقتئذ. ومع ذلك، بقي واصف ينقرُ على العود كهاوٍ في مدينةٍ تموج فيها أصواتُ هواة الغناء من كلّ فجٍّ عميق، ليظلّ بيت الجوهرية مرجع شِلل الكاس والطاس، فعدا عن واصف وعودهِ، كان أخوه توفيق ينفخ على الناي، فيما أتقن أخوهما فخري الجوهرية الوترَ على القانون. وهكذا كانت السهرات الغنائيّة التي وصل فيها بيتُ الجوهرية ليلَ الناس بنهارهم، إلى حدِ خروجِ أمّ واصف عن دينها، لتصرخ على مسمعِ أهل حارة السّعدية: "بدي أنجن وأنزل على الحرم أَسلِم"، يستذكر واصف مُستظرِفَاً.

لم يكتفِ أبناءُ الجوهرية بالسهر ليلاً، إنّما أقاموه نهاراً عبر شطحاتهم خارج سور المدينة. والشطحة بما تعنيه من انشطاحٍ وانشراحٍ وخروجٍ عن قيود المدينة داخل السّور وشروطها، والانغماس في ترفٍ وطربٍ وخمر. وكانت الشطحة شتاءً إلى أغوار أريحا، وصيفاً إلى جبال قرى ريف قضاء القدس، مثل دير عمرو، ولفتا. عدا عن شطحة قالونيا في بساتين رمّانها القاني عند خطبة أو زواج أحد الأصدقاء، وذلك في إشارةٍ يُحيلها الرمّانُ للحبّ والوفاق. أما الشّطحة "الدوليّة"، فكانت إلى أرطاس وديرها جنوباً، وخاصّةً عندما يكون المدعوون ضيوفاً أو حجيجاً حلّوا في المدينة. كان لكل شطحة سياقها الخاص، وليس من ثابتٍ فيها سوى واصف وعوده.

ظلّ واصف في مذاكرته مشدوداً، مثل أوتار عوده، إلى القدس وأيامِها العثمانيّة، في استحضارٍ دائمٍ ليوميات المدينة وإيقاع الحياة فيها؛ عن جلبة الأسواق التي كانت تخبو بين زقاق وزقاق، عن الباعة والجوّالة وصيحات المنادين على أبواب الدكاكين: "ربّي جوزِكْ بقرش"، يصيح بائعُ أعواد الخيزران مغازلاً المارّات من النسوة يتذكر واصف متندراً، فيما تهتزُّ كرابيج بيّادة (بوليس) المدينة كلّما تأخر بغلٌ في فسخ حمله، ومستعجلةً أصحاب العجلات والحناطير.

يذكرُ صاحبُ العود احتفالاتِ ومواكب أعياد ومواسم القدس العثمانيّة، فرنّةُ السّيف بالترس في احتفال سبت النور ظلّت ترنُّ في أذنيه إلى أيام منفاه في بيروت. غير أنّ المشهد الأحبّ إلى قلبِهِ كان موكبُ موسم النبي موسى الذي كان ينطلقُ من الحرم الشّريف، وعلى رأسِهِ كلٌّ من المتصرف والقاضي الشرعي ومجموعة من أعيان المدينة.

مشهد من موكب النبي موسى، مطلع القرن العشرين. GettyImages، (تم تعديل ألوان الصورة).

يسير موكب النبي موسى نزولاً من باب الأسباط شرق المدينة، تُرافِقُه فرقٌ سيّارة بالطبول والمزاهر، مصحوبةً بإيقاع ضرب كاسات الشيخ عاطف الديسي ابن حي الشّيخ جراح، فيما تخفقُ بيارق دار البيرق على وقع تواشيح بصوت الشّيخ أبو عبد القزاز. يمتدّ الموكب إلى حيث محلة باب حطة محاطاً بهيصات وطرقة أكف أبناء فلاحي القضاء، وبحّة أصواتهم الريفيّة تصدح بـ "يا عمّنا وافتح لنا البوابة.... صفوا الكراسي جيناكم"، فيما تتراقص خيلٌ من على ظهرها الجندرمة ويوليوس سواري تزاحمها جِمال الهجّانة، في مهرجان يتدافع ويدفع البشر فيه البشر، وذلك إلى أن يحطّ الموكب في رأس العامود، ومن ثمّ إلى مقام النبي موسى. 2الهجانة: قوة عسكريّة عثمانية يركب أفرادها الجمال،والجندرمة: قوات شرطة عثمانية محليّة.

ظلّ واصف على حاله متسكعاً ومطّلاً بعوده على ما تبقى من عثمانيّةِ مدينته إلى أن تسلّم أعيانُ القدس ومخاتير قرى ريفها في نيسان سنة 1914 مكاتيب من الباب العالي مختومةً بالشمع الأحمر. منع السلطان فتحها إلى أن تأذن طبول فرقة إزمير العسكريّة بذلك، والتي أعلنت بوصولها النفير العام، فكانت الحرب العظمى.

التحق صاحبُنا بالخدمة العسكريّة مُلّزماً، فغادر القدس إلى أريحا حيث عُين فيها "قنطارجي"، أي مأمور ومسؤول عن وزن قمح الحرب بعد تسلّمه من فلاحي وعربان ضفتيّ نهر الأردن، ومن ثمّ خزنِه في مخازن أريحا قبل نقله لباقي مدن فلسطين.

اختلط شقارُ قمح الأغوار بلون أوتار عود واصف القمحيّة، ينقرها واصف فينبعثُ رنينها من داخل المخازن المكتظّة بالجيش والخيش، فوحدَه العودُ من كان يَجْبُرُ خاطرَ المغلوبين على أمرهم من عرب وترك، حتى حالت ريشة العود بينهم وبين الفرار مما هم فيه، كما يتذكر واصف. ويذكر واصف في مذكراته أياديهم ملوّحةً بكؤوس العرق المكسورة بماء البأس والبؤس معاً كلّما أنشد لهم "أحن شوقاً إلى دياري..."، فيهيج الضباطُ منهم. ومن عادتِهم عند ذلك "كسر النور"، كما يروي واصف جوهرية، إذ يتحسس الضباط طبنجاتهم، ومن ثم يبدأ إطلاق النّار على لوكس النور فيشتعل كازه ويطفئ نوره، فتحلّ لعلعة الرصاص إلى أن يصمت العود وصاحبه3الطبجنات: المسدسات بلغة تلك المرحلة.. سبعة شهور أمضاها واصف في أريحا خازناً للقمح نهاراً، وجنديّاً على العود ليلاً.

بعد أريحا، عاد واصف جوهرية إلى القدس ليستحضر في مذكراته احتضار عثمانيّة المدينة في ظلّ الحرب وملمّاتها. نهب وفوضى، بطش وتنكيل، وجثامين لقتلى الصفوف الأماميّة على الجبهات، بجنازاتٍ خجولة تنطلق من الحرم والتكايا الوقفية. غنّى واصف وإخوته أنشودةَ الجوع كرفض للتجويع، وفيما كان الزمن العثمانيّ يُرخي قبضتَه عن مدينة القدس، كانت حبالُ مشانق جمال باشا تلوح مشدودةً برقاب الفارّين من عبودية الحرب. منهم صديق واصف عيسى الصوص، كوّى الطرابيش وضارب الرقّ في فرقة الجوهرية، الذي شُنِقَ على باب العامود، وبقي لثلاث ليالٍ لم يقطع سكونها غيرُ وقع حوافر الخيل على بلاط أزقة المدينة كما يتذكر صاحب المذكرات.



2 مايو 2018
الشهادة والعرفان

إنّ الكمال إذا أطلق إنما يُراد به الله تعالى، ولكنّه يصحّ فيما دونه إذا قُيّد، فكان كمالاً بالنسبة. هذا الكمال…