21 مايو 2021

ف ل س ط ي ن : ستجتمع قريباً

ف ل س ط ي ن : ستجتمع قريباً

ليلة الجمعة خرج علينا المُلثّم الناطق باسم آمالنا من النّهر إلى البحر، ليُعلِن انتصارَ المقاومة في هذه الجولة، وفوقه كتب: "ولِيدخلوا المسجدَ كما دخلوه أول مرة". هل دَخَل هؤلاء الرجال الملثمون المسجد الأقصى من قبل؟ هل جاؤوا من قلبِ الزمن البعيد المُغرِق في القِدم، يحاولون إعادة الكرّة ليُتَبِروا ما علوا تتبيراً؟

لأنّ ذلك يُفسِّرُ كيف لهذه القلّة القليلة، ممن تشغل 360 كيلومتراً مربعاً، محاصراً من كلّ مساماته، أن تُقاتِل بكلِّ كفاءة وتُرضِخُ دولةً كانت لوقتٍ قريبٍ أسطورةً لا تُقهر في أوهام من وهنوا واستكانوا.

هل انتصرنا؟

 سيقول المرجفون في المدينة: لا، هذه مبالغات، ما زال الاحتلال موجوداً.

وهذا صحيح، ما زال الاحتلالُ موجوداً، لكن على حافتِه، كلُّ نصرٍ اليوم يُراكم على أخيه، كلُّ مرحلةٍ نُنْجِزُها تُسلِّم للتي بعدها. كلُّ أملٍ نصنعه يُحَوِّل أيامَنا مطايا لِمُنتَهاه، سيقول الذين أبرد التحليلُ العقلانيّ أعصابَهم إنّ الأملَ خطير لأنّه يخلق الصدمات.

لكننا في صدمةٍ منذ أكثر من سبعين سنة، وليس لدينا ما يصدِمُنا أكثر. لِتَكن محاولتُنا الأخيرة ولنأخذ أملَها إلى مداه. قبل أن يُحولونا لمتحف الشّعوب المنقرضة نُحوِّلُهم لمصير الجبابرة المنكسرين، قبل أن نموت ونحن نخشى خيبة الأحلام أن نموت ولدينا أحلامنا نحرسها، ونوّرِثُها، أو حتى نراها وهي تتحقق أمام أعيننا ولو ليومٍ واحد، نرمِشُ في وجهها، نبتسمُ ونموت. من الكتابة على الجدار حتى "تيك توك"، من المولوتوف إلى الصّاروخ محليّ الصنع، ننقل آمالَنا في التّحرر، ونُسلِّمها تسليم اليد، لأنّ المعركة تحدث قبل كلِّ شيء في الذهن.  

ما الذي حققناه؟

بمجرد دخول المقاومة هذه الجولة كانت قد حققت انتصارها. كيف هذا؟

حاولت "إسرائيل" أن تُحيّد فاعلية جيش المقاومة في غزّة على مدار الـ15 سنةً المنصرمة، من خلال حصر مهامه بقضايا المعيشة والمعبر وخلافه، وهي قضايا على أهميتها إلا أنّها عطّلت زَخَم تراكمِ القوّة، وحدّت مُمكناتِ المقاومة، وجعلتها محصورةً ببقعةٍ جغرافيّةٍ لا تستطيع تجاوزها هي غزّة. كانت "إسرائيل" تمارس حصارين على غزّة، الأول على معيشتها، والثاني على إرادتها. هذه الجولة التي استمرت 11 يوماً كسرت قواعدَ النوع الثاني من الحصار.

قلبت هذه الجولةُ كلَّ شيءٍ؛ فتحت أفقَ المواجهة دفعةً واحدةً لتُصبح لدينا روحٌ جامعة تجعل من فلسطين كلّها، حقيقةً لا مجازاً، معركةً واحدة، قضيةً سياسيّةً يقع في داخلها الهمُّ المعيشيّ ولا يتقدمها.

هل هذا هدفٌ كبير؟ في الواقع هذا هو الهدف الأهم، وقد أنجِزَ من يومه الأول. دخلت المقاومةُ هذه الجولة مُراكِمَةً على انتصارات القدس وليس حمايةً لضعفها، وكأنّ روح الشّباب المقدسيّ مدّت يدها للصاروخ، ووضعت منصة إطلاقه، ووقفت ترقب سقوطه قرب مُنجَزِها الجديد.

تماماً مثلما أخذ ابن الأراضي المحتلة عام 48 شعلةً من هذه الروح، وأشعلَ بها شوارعه متجاوزاً سقفَ اللعبة مهين الانخفاض الذي تسكن تحتَهُ قيادتُه. هناك في أراضي الـ48، وقفت القيادات على الرصيف وركض النّاسُ في الشوارع.

كلٌّ خرَقَ قبّتَه، ابن الـ48 خَرَقَ قبّةَ الـ"كنيست" كأفقٍ وحيدٍ للنضال، وابن غزّة خَرَقَ القبّة الحديديّة كرمزيٍةٍ للمحتل في  سيادته على السّماء. قطّعتنا "إسرائيل" لجزرٍ منفصلةٍ، ورسمت لكلِّ جزيرةٍ أفقاً وقواعد للمقاومة المتاحة، لكنّها كلّها خُرِقت اليوم.

ثمة انتصاران للمقاومة في هذه الجولة.

الأول: في الدخول بمواجهةٍ جامعةٍ حول قضيّةٍ مركزيّة هي القدس وتهجير أهلها، وانتصاب المقاومة اليوم كممثلٍ شرعيٍّ ووحيد للفلسطينيين في جميع أماكن تواجدهم، بعيداً عن المؤسسات المتكلسة وبذلك كسرت القواعد التي ثبّتتها "إسرائيل" للمواجهة.

وببركة هذا الدخول بعثت المقاومةُ الروحَ  للمحيط من حولنا، وكأن بعثاً جديداً كُتِب ليس لقصتنا الفلسطينيّة فقط، بل انطلاقاً منها لكلِّ شعوب المنطقة، لأن الإشكال الجوهريّ لبؤس حياتنا ينبع من مصدرٍ واحدٍ. بهذا المعنى، فإنّ هزيمة "إسرائيل" قصةٌ غير منفصلة عن هزيمة الأنظمة المحيطة، والتي تشرف على قمع هذا الشعور الهادر الذي يغلي في شعوبها توقاً للتحرر من أغلال الاستعمار والاستبداد معاً.

الثاني: هو طريقة إدارة المعركة في الميدان بما جعل العدوّ يخضعُ لوقف إطلاق النّار دون أن يطرح حتى أي شرطٍ أو أيّ تفكيرٍ للدخول البريّ، وهو ما يُمكن أن نسمّيه كي الوعي المعكوس الذي حقّقته المقاومة.

وهذا إنجازٌ كما يُحسب للمقاومة، فإنّه يُحسب للناس حاضنةِ الفعل، ولأهالي الشهداء، ولكلّ من تألم ولم يضع ألمَه نقيضاً لشوقه للتحرر، بل وقوداً له. كما يُحسب للقادة الذين ذهبوا والجنود الذين حفروا ولليالي الصامتة والطويلة من العمل الدؤوب.

قد اقتربنا

ثمة روحٌ جديدةٌ تسري في فلسطين، تكاد تكون غير مسبوقة. وعلينا أن نُراكم عليها ونستثمرها لأنه من الخطورة بمكان أن نعود ونتحدث بكلمات قاموسٍ قديم لوصف حقائق جديدة، أو أن نستخدم أساليب سياسيّة مهترئة للتعامل مع الوقائع القادمة. نحن أمام مرحلة ما بعدها يقطع مع ما قبلها، ومهمة الجميع أن يكون وفياً للجديد الذي يولد أمامنا؛ السياسيّ والإعلامي والناشط والتربوي ...إلخ. الكلُّ مطالب أن يعمل على رعاية الجديد وتغذيته.

اليوم ليس لدينا دليل أوضح مما جرى بأن الواقع قد يسبق الخيال، وبأن الوحدة الوطنية لا تشترط علينا أن نخضع لفريق سلطة المقاطعة ونهرول للقاءات القاهرة بلا جدوى. إنّ الوحدة الوطنيّة الحقة هي ما يجري أمامنا من التفاف لكلّ الفلسطينيين حول أملهم الجديد، وما سواها دعوات مشبوهة.

لقد كانت هناك فرصة أخيرة لنخبة المقاطعة أن تقترب ولو اقتراباً من روح الناس ومقاومتهم. كانت لديها فرصة ولو بالمعنى البراغماتي، ولو بمعنى تحسين شروط وجودها الهشّ. لكنها كما عودتنا دائماً وصلت إلى قاع انعدام الإرادة، وآثرت ألا تتجاوز دور الشّركة الأمنيّة الذي خطّته لها "إسرائيل". 

وسيكون من المعيب مستقبلاً التعامل مع تلك النخبة كطرفٍ وطنيٍّ جدّي تُجرى معهم الحوارات، أو يُستجاب لإشرافهم على انتخابات. سيكون من المعيب إعادتنا لأفقهم السياسيّ الذي يَفترض أنّ فلسطين هي الضفة وغزة، أفقهم السياسيّ الذي أخرّنا سنوات عن هذه اللحظة. علينا أن نتقيأهم ونتقيأ معهم ذهنيّتهم التي سادت سلوكنا السياسيّ لأعوام.

علينا أن نبني سياسةً تتجاوزهم، وتتجاوز قاموسهم ومنطقهم بالعمل، تتجاوز التقسيم الجغرافيّ وتشتبك بروح واحدة، تمتد من داخل الوطن إلى خارجه في كل مكان يتواجد فيه ولو لاجئ واحد. آن الأوان لزخمنا السكانيّ في الخارج أن يستعيد فعاليته وتجتمع جهود العمل بين التنظيم المركزي والعمل الشبكيّ بتناغم لم يعد نظريّاً، فلقد شاهدناه يحدث أمام أعيننا. وعلينا أن نُغيّر لغتنا في وصف الأمور، ونترك المجال لخيالنا السياسيّ أن ينطلق بعيداً عن قمع سدنة الأمر الواقع.

لم تكن "إسرائيل" أوهن في أعيننا مما هي عليه اليوم، ولم تكن المقاومة بكل طرقها مرتفعة بأعيننا مثل ما هي عليه اليوم. لنقبض على هذه اللحظة ونبدأ... فقد اقتربنا.



13 فبراير 2024
سجن الضفّة المركزيّ، فرع الخليل

ما أن يحلّ مساء يوم الخميس، معلناً نهاية الأسبوع وبداية العطلة الأسبوعيّة، حتى يشدّ الموظفون في رام الله (عاصمة الوظيفة)،…