لم يشهد تاريخُ فلسطين بعد النكبة تسليحاً للنضال في الأراضي المحتلّة عام 1948، لكنّه في الوقت ذاته لم يشهد انقطاعاً تامّاً عن مشاركة أفراد أو مجموعات فلسطينيّة من تلك الأراضي في جهود المقاومة، خاصةً على الصعيد الفرديّ وفي مجالات الدعم اللوجستيّ أو المعلوماتيّ. قدّم فلسطينيّو الداخل شهداء وأسرى في العمل المقاوم، إلّا أنّ الحالة السياسيّة والاجتماعيّة خلّفت رواية نضاليّة تمّحي منها آثار هؤلاء الشهداء والجرحى، وتغيّبهم وترسلهم إلى النسيان.
شهدت الانتفاضة الثانية منذ بدايتها صعوداً في مشاركة فلسطينيي الداخل في المجهود المقاوم. بحسب التقارير الإسرائيليّة، كشفت المخابرات بين عاميّ 2001 و2004، أكثر من 100 خليّة مقاومة نشط بين صفوفها فلسطينيّون من الداخل، ووصل عددهم خلال هذه السنوات إلى ما يقارب 200 ناشط فلسطينيّ من الداخل. وبين عامي 2005 و2006 ادّعت المخابرات الإسرائيليّة ضبط 40 خليّة أخرى ينشط فلسطينيّون من الداخل بين صفوفها.
ولعلّ أبرز المحطّات في هذا السياق عمليّة محطّة القطار في نهاريا (سبتمبر/ أيلول 2001) التي نفّذها الشهيد محمّد حبيشي من قرية أبو سنان (قضاء عكّا)، وقُتل فيها ثلاثة إسرائيليين. كانت "كتائب عزّ الدين القسّام" قد أعلنت في بيانها أنّ هذه العمليّة تأتي "إهداءً لشهداء انتفاضة الأقصى وخصوصاً شهداء الأراضي المحتلّة عام 1948، في ذكراهم السنويّة الأولى". ويُمكن في هذا السياق إدراج عشرات الأمثلة الأخرى لعمليّات عسكريّة كان لفلسطينيي الداخل دورٌ في تنفيذها.
لفهم مساهمة الداخل في العمل المسلّح مقابل إسقاطه من الرواية النضاليّة لهذا الجزء من شعبنا، يتوجّب النظر في الادّعاء الأساسيّ للقيادة السياسيّة في الداخل: "بأن نضال فلسطينيي الداخل هو نضال سلميّ في إطار القانون الإسرائيليّ". بالتالي، فإنّ أيّ مساهمة في العمل المسلّح ليست جزءاً من هذا النضال، بل وتتسبّب للنضال "الشرعي" وللمجتمع الفلسطينيّ في الداخل بـ"أضرارٍ جسيمةٍ"، بحسب تصريحات القيادات السياسيّة لأحزاب الداخل في أكثر من مناسبة. في إطار هذا المنطق تستخدمُ التيّاراتُ السياسيّة المهيمنة نمطين تبريريين. الأوّل تستخدمه في حالة الخرق الجماعيّ لمنطقها؛ أي عندما يخرج الناس عمداً للمواجهة الشعبيّة العنيفة ضدّ قوات الاحتلال الإسرائيليّ، والثاني تستخدمه في حالة الخرق الفرديّ لهذا المنطق.
كيف تصاعدت المشاركة؟
شهد المجتمع الفلسطينيّ في الداخل انخراطاً شعبيّاً تاريخياً في الانتفاضة الثانية، وهو أساسيّ لفهم تصاعد مشاركة فلسطينيي الداخل في العمل المسلح. شهد النصف الثاني من التسعينيّات تغيّرات جذريّة في الداخل. ارتبط بعضها بالشرعيّة التي اكتسبتها "منظّمة التحرير" من قبل "إسرائيل"، ثم تغيّر سياسات المخابرات الإسرائيليّة بعد اغتيال رابين. أمرٌ أدّى إلى تخفيف الملاحقة السياسيّة إلى حدٍ ما، وإتاحة المجال لنشاطات سياسيّة كانت محظورة في السبعينيّات والثمانينيّات. رافق ذلك انفصال نسبيّ عن المؤسسات المدنيّة الإسرائيليّة، وعمليّة تأسيس جمعيّات ومؤسّسات أهليّة فلسطينيّة في الداخل تحمل خطاباً وطنيّاً (على الصعيد الثقافي/ الخطابيّ على الأقلّ).
يُضاف إلى ذلك ازدياد المنافسة بين أحزاب فلسطينيّة في الانتخابات البرلمانيّة الإسرائيليّة، خاصةً بعد انفصال "الحركة الإسلاميّة"، ودخول جناحها الجنوبيّ بقيادة إبراهيم صرصور للانتخابات، وتأسيس "التجمّع الوطني الديمقراطي" (الذي ضمّ تيّاراً واسعاً من حركة "أبناء البلد")، واستثمار أحمد الطيبي لعلاقته بياسر عرفات لدخول العمل السياسيّ من خلال البرلمان. هذه كلّها عوامل صعّدت الخطاب السياسيّ الفلسطينيّ عامةً وقوّته ورفعت من سقفه، وبالتالي وسّعت ورفعت سقف هوامشه الرديكاليّة، خاصّةً في ظلّ الإعجاب الشديد الذي ساد في حينه بمنجزات المقاومة اللبنانيّة في الجنوب.
تبريرات لخرق "النضال الشرعيّ"
يأتي التبرير الأوّل: تبرير الخرق الجماعيّ لمنطق "النضال الشرعيّ"، عبر تحويل البطل إلى ذبيحة: أي التشديد على أنّ قوى القمع الإسرائيليّة هاجمت المظاهرة "دون سبب"، أو أنّ قتل الشهيد لم يستوف "شروط إطلاق النار" بحسب القانون الإسرائيليّ، أو أنّ الحجارة لم تكن تشكّل خطراً فعليّاً على شرطة الاحتلال الإسرائيلي. هذه الادّعاءات، قد تكون في الغالب صحيحة من حيث المعطيات، لكنّ أسلوب صياغتها نابع من رفضٍ لحقّ الفلسطينيّ بالنضال الذي يخرق ويتعدّى على ما يسمح به القانون الإسرائيليّ. ويخلق بهذا رواية تنتفي منها بطولة الشابّات والشبّان، واستعدادهم للتضحية، وإقدامهم للدفاع عن بيتٍ مهدّد بالهدم مثلاً.
أمّا في حالة العمل الفرديّ، خاصةً إن تعلّق بالعمل المسلّح، فإن تبرير القيادة السياسيّة يعتمد في الغالب، إمّا على محاولة إنكار أن يكون الفرد من فلسطينيي الداخل فعلاً، وإمّا أن يُوصف باعتباره "شاذّاً" أو "طائشاً"، أو يُركّز لاحقاً على تفاصيل مثل الخلفيّة الجنائيّة للعمل (فلان فعل ذلك لأجل المال مثلاً)، أو خلفيّة عائليّة أو مرضيّة، أو أنّ العمل لم يكن متعمّداً (وهي كلّها أمور يمكن أن تجدها في أي حالة عملٍ نضاليّ).
هذه التبريرات السياسيّة، الموجّهة غالباً لاسترضاء الإعلام الإسرائيليّ، لا تخضعُ للمنطق القائل بأنّ الناس ليسوا مبرمجين بحسب قرارات المكاتب السياسيّة لهذا الحزب أو ذاك. إنّ العوامل الاجتماعيّة المتغيّرة تلعب أدواراً في رفع أو خفض المشاركة في العمل المسلّح ضدّ الاحتلال الإسرائيلي، وإنّ هذه المساهمة (حتّى وإن اتفقنا على أنّها قد تؤدّي إلى "ضرر سياسيّ") هي جزءٌ من حالةِ تماهٍ أصيلة للمجتمع مع حقيقة انتمائه الوطنيّ، وإنّها جزء من حالة سياسيّة عامّة يتحمّل الاستعمار مسؤوليّتها.
بكلمات أخرى: إنّ المنطق السياسيّ لهذه القيادة التقليّديّة أضيقُ من المنطق الاجتماعي الوطني، الذي يستطيع أن يحتوي الاختلافات التي تتعدّى مزاج المشرِّع الإسرائيليّ. بالتالي، فإنّ هذه القيادة السياسيّة غير قادرة على صياغة خطاب سياسيّ، أو رواية نضاليّة متماهية مع أصلها: السياق الوطني الفلسطينيّ العام. لذلك نرى، مثلاً، أن جماهير الداخل التي خرجت بشكلٍ طبيعيّ جدّاً كجزءٍ من انطلاق الانتفاضة الثانية، تحوّلت على لسان القيادة والنخبة السياسيّة في الداخل إلى "هبّة أكتوبر" أو "هبّة القدس والأقصى"، رغم أنّها لم تختلف من حيث القمع بأي شيءٍ عن مجمل أحداث الانتفاضة في تلك الفترة.
ليست النخبة السياسيّة فقط
للخطاب الذي تصنعه النخبة السياسيّة في الداخل، دورٌ مهمّ في صياغة الصورة التاريخيّة التي نملكها. إنّما يُمكن أن نجد عوامل كثيرة أخرى تحذف دور فلسطينيي الداخل من النضال المسلّح، لا ترتبط بالنخبة السياسيّة الفلسطينيّة بشكل مباشر. جزءٌ منها، وهذه حقيقة، هامشيّة الدور نسبةً إلى التضحيات العظيمة التي قدّمها الناس في الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة، هذا طبيعي، طبيعيّ لكنّه يختلف كليّاً عن إسقاط هذا الدور إنطلاقاً من دوافع سياسيّة.
من بين هذه العوامل الأخرى: ضعفُ الالتفاف الشعبيّ حول عائلات من شارك في العمل العسكريّ، واستفراد الأمن الإسرائيليّ بهذه العائلات، والخوف الشرعيّ من العقوبات ضدّهم دون حماية ودون مزاج وحالة شعبيّة تثمّن التضحيات، وكذلك سعي معظم المعتقلين وعائلاتهم إلى تحويل الملف، قضائياً وبالتالي خطابياً، إلى ملفٍ جنائيّ من أجل تخفيف الحكم.
لكنّ العامل الأساسيّ غير المرتبط بدور النخبة السياسيّة، يُمكن أن نجده في طبيعة التعامل الإسرائيليّ مع دور فلسطينيي الداخل في العمل المسلّح. إذ أنّ التصريحات الحادّة التي اعتاد السياسيّون الصهاينة إطلاقها مع كل انكشافٍ لنشاط مسلّح يتعلّق بالداخل، لم تُترجم إلى تغييرات قانونيّة جذريّة أو ممارسات عقابيّة شاملة ضد الفلسطينيين في الداخل.
اتّبعت المخابرات الإسرائيليّة منهجاً يعزل العائلات ويحوّل القضيّة إلى مسألة فرديّة، وهي حريصة كل الحرص على عدم خلق حالة جماعيّة وعامّة، بل وحرصت على إبراز كل الدوافع "الجنائيّة" في العمل، وعزله قدر الإمكان عن السياق السياسيّ. هذا، بالإضافة إلى وجود توجّهٍ عامّ في "إسرائيل" (خاصةً في تلك السنوات) لإظهار تعاملها "الديمقراطي" مع مواطنيها الفلسطينيين، خاصةً بعد الضغوطات الخارجيّة التي واجهتها بعد ارتقاء 13 شهيداً في الداخل. علاوةً على الصدمة الحقيقيّة التي عاشتها "إسرائيل" مع انطلاق الانتفاضة الثانية من جاهزيّة (المعنويّة لا الماديّة) فلسطينيي الداخل للانخراط في حالة شعبيّة عامّة معادية لـ"إسرائيل".
سؤال يتطلّب ردّاً
إن الرواية النضاليّة التي تتشكّل في الداخل، تقوم على رفض وتهميش وحذف كلّ ما لا يتماشى مع خطاب التيّارات والنخب السياسيّة المهيمنة في الداخل. لذلك، لا تسقط منها مساهمة الناس في المقاومة المسلّحة فقط، إنّما تسقط منها النضالات المحليّة الصغيرة التي خاضها الناس بشجاعة دون قيادة سياسيّة، وتسقط منها القصص الحقيقيّة لصنّاع النضال والتضحيات في الهبّات الكبرى. هذا علاوةً على إعادة صياغة التضحيات بحيث تُلائم وتخدم التيّارات السياسيّة المهيمنة على شعبها والخاضعة لمنطق الاستعمار.
لا يُمكن لمن يناضلون من أجل العدالة، خاصةً وإن كانت عدالة تاريخيّة وتزوير التاريخ جوهريّ في سلبها، أن يصنعوا رواية ترفض من يختلف مع خيارات التيّارات السياسيّة المهيمنة في هذا النضال. واقع الداخل معقّد ومركّب، والعمل السياسيّ فيه شائك، خاصةً على ضوء ما وصل إليه من ارتهان للسياسة الإسرائيليّة. لكنّه سؤال يتطلّب ردّاً: هل يُحذف من التاريخ ما يخرج عن حدود الصفحات الإسرائيليّة؟