تُنشر بالتعاون مع "شبكة قدس الإخباريّة".
ليس لأهالي الضفّة الغربيّة من البحر سوى رطوبته، بعد أن طُرِدوا من السّاحل وسُلبوا رحابة الجغرافيا. دفعتهم "إسرائيل" نحو قرى داخليّة مُكتظة، باتت شيئاً فشيئاً مُدناً مخنوقةً بالحواجز والأبراج والجُدر وفقر المعيشة. ومن يفكر باستراحةٍ من هذه المنطقة المخنوقة يزور فيها بلادَه على الطرف الغربيّ من الجدار، فإنّه بحاجة إلى تصريحٍ إسرائيليّ، له شروطٌ أهمّها: سجل أمنيّ نظيف.
لكن، هذه المرّة حظي كثيرون من أهالي الضفّة الغربيّة بزيارة ما حُرموا منه منذ الانتفاضة الثانيّة (وبعضهم محرومون منه منذ ولادتهم). منذ أيام عيد الأضحى نهاية يوليو/ تموز الماضي وحتى اليوم، دخل عشرات الآلاف من الفلسطينيّين من سكان الضفة الغربيّة عبر فتحاتٍ وثغرات في السّياج الفاصل (الذي هو جزء من الجدار الاسمنتيّ الإسرائيليّ الفاصل) دون أن يحملوا أيّة تصاريح أو يمرّوا بأية حواجز؛ "بشكل غير قانونيّ" حسب المعايير الإسرائيليّة، ومرّاتٍ كثيرة أمام أعين الجيش الإسرائيلي.
إنّ الضفّة الغربيّة سجن كبير، وكانت الفتحات بمثابة "فورة" لهذا السّجن، غضت "إسرائيل" الطرف عنها لبعض الوقت وبشكلٍ محسوب، تُراقب من خلالها لهفةَ النّاس على تنفّس شكل الحياة واحتضان البحر.
ممنوعون أمنيّاً، عائلات مع طبخاتها، أطفال غير مدركين القصّة بعد، عجائز غُيّبوا عن بلادهم منذ عشرات السنين، شبانٌ لم يروا غير البحر الميّت في حياتهم... جميعهم دخلوا من فتحاتٍ كان "المُهرّبون" قد فتحوها في السياج. في العادة، يمرّ من هذه الفتحات العُمّالُ الذين لا يحملون التصاريح الإسرائيليّة مُقابل مبالغ ماليّة يدفعونها للمُهربين. أما الآن، فهي فتحاتٍ "مجّانيّة" بعد أن ترك الاحتلال الناس تمرّ منها.
تتوّزع هذه الفتحات في عدة مناطق من السيّاج الفاصل، محاذيةً عدداً من مدن الضفة الغربيّة، كالخليل، وطولكرم، ورام الله، وقلقيلية. في طولكرم مثلاً عدة فتحات في قرى شويكة وقفين وزيتا وفرعون. والأخيرة، جنوب المدينة، هي أشهرهم، وذلك لقصر المسافة التي يجب أن يقطعها الفلسطينيّ من شرق السيّاج إلى غربه؛ إذ يمشي من أطراف قرية فرعون حيث يركن سيارته، أو حيث تتركه سيارةُ التكسي، ما يقارب 5 دقائق، يقطع السياج من خلال الفتحة، وإذ به على الجهة الثانية. هناك تنتظره سيارات وحافلات تقل الركاب إلى مختلف الوجهات في القدس أو الداخل الفلسطينيّ، عكا، ويافا، وحيفا، وأم خالد (مستوطنة نتانيا).
لم يُعلن الاحتلال بشكلٍ رسميّ عن "الفتحات"، كما لم يُعلّق على الأعداد الضخمة التي دخلت، إلا في تصريحٍ يتيم، يوم أمس الجمعة، حذّر فيه من الاقتراب إلى السيّاج (إضافةً إلى اعتقاله بعض الشبان وإعادتهم للضفة). أمّا سلوكه تجاه دخول آلاف الفلسطينيّين على مدار الأسابيع الأخيرة فقد كان التغاضي شبه التام، والاكتفاء بمراقبة هذا الدخول، وأحياناً "إدارته"، فمثلاً ورد أنّ جيش الاحتلال سوّى أرضاً تقع بمحاذاة السياج في قرية فرعون، لتصطف فيها الحافلاتُ التي تحمل لوحات تسجيل إسرائيليّة وتنقل النّاس إلى وجهاتهم في الداخل.
بنت "إسرائيل" نظاماً كاملاً لإدارة وضبط دخول الفلسطينيّ من الضفّة وقطاع غزّة إلى القدس وأراضي الـ48، وهو نظام يُفصّل 74 نوعاً من التصاريح، وبروتوكولات أمنيّة مُفصّلة ومُشددة تُحدّد الممنوع والمسموح من "العبور". أليس من المُستغرب إذاً ألاّ تبدو قلقةً على أمنها، تاركةً النّاس تدخل من "الفتحات" دون ضابط؟ ماذا تريد "إسرائيل" من هذه الخطوة؛ دعم اقتصادها المتأثر بـ"كورونا" كما قيل؟ أمّ أن وراء ذلك رسائل سياسيّة وأمنيّة ما؟
قيّد التجربة
في محاولة للإجابة من المهم معرفة السياق الأمنيّ والسياسيّ الذي نعيشه كفلسطينيين، والذي جاءت فيه هذه الخطوة. بعد أن واظبت "إسرائيل" في السّنوات الأخيرة، وبمعاونة أجهزة السّلطة الفلسطينيّة في كثير من الأحيان، على ملاحقة الخلايا العسكريّة، وقمع أي نشاط نضاليّ شعبيّ، وتنفيذ مئات الاعتقالات شهريّاً، واستثمرت في محاولات تدجين النّاس، كنسج العلاقات بين الإدارة المدنيّة وبين القطاع الاقتصاديّ مثلاً، يبدو أنّها استشفّت أن لا "خطر" عليها في هكذا خطوة.
لقد شهدت القضية الفلسطينيّة عدة أحداث متتالية لم يُسجّل بعدها أي تصعيد أو احتجاجٍ بعيداً عن مهرجانات السّلطة، من إعلانٍ لنقل السفارة الأميركية، إلى إعلان "صفقة القرن"، إلى مشروع الضمّ، وغيره. لكن لم يُحدِثْ أحدٌ ضجّةً تليق؛ لا سُلطة ولا أحزاباً ولا ناساً.
يُعطينا ذلك مؤشراً جزئياً عن نظرة "إسرائيل" تجاه مُجتمع الضفّة الغربيّة. وكأنّها من خلال سلوكها بترك الفتحات تُبرهن على أنّها وصلت إلى مستوى متقدمٍ من ضبط الضفة والسيطرة عليها وتفريغها سياسيّاً. ولذلك تبدو "الفتحات" وكأنها تجربة مجتمعيّة تُجريها "إسرائيل" علينا، لترى كيف سنتصرف، ومن ثمّ تستخدمها للدفاع عن مشاريعها والبرهنة على هيمنتها.
تنظر لنا "إسرائيل" كحقل تجارب في مُختبرها الأمنيّ الكبير. تُراقبنا كيف سنتصرّف إذا ما زادت أعداد التصاريح في فترات الأعياد ورمضان، والتي تُقدّمها على شكل "تسهيلات". وهي الآن تُراقب سلوكنا تجاه "الفتحات" الحاليّة، فتُغلق فتحة وتُبقي على أخرى، وتدفع الناس للتساؤل: هل سيُغلقون "الفتحات" غداً، وقبل أن أتمكن من الذهاب؟
لقد تُركت الفتحات لمدة تجاوزت الأسبوعين، ودخل عشرات الآلاف، دون أن يعني ذلك شيئاً على المستوى الأمنيّ بالنسبة لـ"إسرائيل". وكأنّها تقول: "لقد نجحت بضبطهم وهاكم الدليل!"، وكأنّها تقول كذلك لقيادة السّلطة الفلسطينيّة وللمجتمع الدوليّ الذي "ينتقدها" على مشاريع الضم وغير ذلك: "لا حقيقة لكل الأخطار التي تطرحونها، وهاكم الدليل: لم يُسجل أي فعلٍ مقاوم".
تستثمر "إسرائيل" في آلام الناس واحتقانهم على الواقع، فتُقدّم لهم عروضاً لمُنتجات ليست لها. فبعد أن تمنعهم عن الحركة والتنقّل في بلادهم بحريّة، تقوم بـ"تنفيسة" لهذا الضغط الهائل، وكأنها تمنح الناس مُنجزاً وهميّاً لسلوك مُستحقّ بالأصل. وهي بذلك تستخدم ما هو حقّ وما هو عاطفيّ بالنسبة لنا، كورقة للابتزاز والسياسة لاحقاً.
سينتهي الإنقاذ بعد رُبع ساعة!
من ناحيةٍ ثانية، يبدو أنّ لـ"إسرائيل" رسائل تُريد إيصالها للسلطة الفلسطينيّة من خلال هذه الخطوة. إحدى هذه الرسائل أن "إسرائيل" هي المسيطر الحقيقيّ والفعليّ على الأرض، هي "حارس البوابة"، تُسيطر عليها، تُغلقها وتفتحها متى تشاء، ولا قيمة لوقف التنسيق المدنيّ (نحتاج لما هو أكثر من الإعلان لنُصدّق أنّ التنسيق الأمني قد توقّف)، أو لأي تصريحات أخرى.
وكأنّ "إسرائيل" تريد أن تُبرهن أنّ بمقدورها أن تُدير العلاقة مع الفلسطينيّ من خلال "فتحة" في السياج، حتّى دون أن تتحدّث معه وتُخاطبه، ودون حاجة للسلطة الفلسطينيّة كوسيط. وبدا ذلك واضحاً، بنوع من السخرية، عندما تعالت تصريحات المسؤولين الفلسطينيّين بالتحذير من خطر "كورونا" القادم من الداخل، ومطالبة الناس بحجر أنفسهم بعد أن عادوا من شطآن بلادهم، دون أن يملكوا - أي المسؤولين- أن يُحوّلوا تصريحاتهم هذه أعمالاً على الأرض.
تُضاف محاولات السيطرة هذه، إلى مساعٍ متواصلة تقودها سلطات الاحتلال في الضفّة من أجل تطبيع العلاقات بينها وبين الفلسطينيّ. من ذلك استخدامها منصّات التواصل الاجتماعي بكثافة، مثل الدور البارز الذي تلعبه صفحة مكتب منسّق عمليّات حكومة الاحتلال في أراضي عام 1967 والمعروف على فيسبوك باسم "المُنسّق"، والذي يدعو النّاس للتواصل معـه من أجل "إزالة المنع الأمني" عنهم، أو إصدار تصاريح للعمل، وما إلى ذلك من الأمور المدنيّة.
نتيجةً لذلك أو امتداداً له، لدى "إسرائيل" اليوم علاقات مُباشرة مع رجال أعمال وغرف تجاريّة وشركات ومصانع،وقدمت مشاريع وامتيازات لأصحابها. رُبّما لذلك تبدو "إسرائيل" من سلوكها في موضوع "الفتحات" واثقة وغير عابئة بدور السُلطة كوسيط في الشؤون المدنيّة بين الاحتلال والفلسطينيين، فهي الآن تُجرّب أن تتواصل بشكلٍ غير مُباشر مع أعدادٍ ضخمة من الناس، من خلال تفصيل يتعلّق بإدارة حياتهم اليوميّة.
ثُمّ بوقاحة مُفرطة تُعيّد على أهالي الضفّة وهم مشغولون بحنينهم إلى البحر الذي سُرق منهم، ومن باب الحرص على سلامتهم تقول لهم بلديّة تل أبيب: "كُلّ عام وأنتم بخير.. نحن في بلديّة تل أبيب نُرحّب بكم في شواطئ تل أبيب.. نودّ إعلامكم أن الإنقاذ سينتهي نحو رُبع ساعة من الآن"!