نعرف من النكبة قصصاً كثيرة، عن استيلاء الصهاينة على بيوت الفلسطينيين والسكن فيها. هذه قصّة بالاتجاه المعاكس: كيف صارت مشاريع إسكان المهاجرين الصهاينة أحياء فلسطينيّة تماماً.
داخل الأسوار
تظهر عكّا التي يعرفها معظمنا في صورها بهيّةً، يلفّ مظهرها سحرٌ ما، يختلط فيه البحر بالسور وبيوت الحجر القديمة. لكنّ هذه الصورة ليست إلّا جزءاً بسيطاً من مشهدٍ متخيّلٍ للمدينة المحتلّة. عكّا التي يعرفها معظمُ الفلسطينيّين والعرب من هذه الصور ليست الحقيقة الكاملة للمدينة. فمن بين ما يقارب 19 ألف فلسطينيّ يعيشون في المدينة، لا يسكن هذه البلدة القديمة، داخل الأسوار، إلّا ما يُقدّر بـ5000 منهم، بينما تتوزّع البقيّة على أحياء "المدينة المختلطة" خارج الأسوار.
سقطت المدينة تحت سيطرة العصابات الصهيونيّة في 16 مايو/ أيّار 1948، وهُجّر معظم سكّانها. قبل بدء معارك النكبة، كان يسكن في المدينة 14,280 فلسطينياً، ومع بدء المعارك (وبعد سقوط حيفا خاصّةً) ارتفع عدد المقيمين في المدينة، بين سكّانٍ ونازحين سكنوا الكنائس والمساجد والخانات، إلى 40 ألف فلسطينيّ. بعدها، في مايو/ أيّار، هجّر الصهاينة مُعظم أهالي المدينة، ولم يبق فيها إلّا ما يُقدَّر عدده بـ5000 فلسطينيّ، فرضت سلطات الاحتلال عليهم حُكماً عسكريّاً داخل أسوار البلدة القديمة، بينما حلّ المستوطنون في المدينة خارج الأسوار ليصبحوا أغلبيّة فيها. هكذا، تحوّلت عكّا إلى "مدينة مختلطة".
بناءٌ لجموعِ الُمستعمِرين
سعياً لتوطين المستعمِرين، شيّد الصهاينة مستوطنات وأحياء لاستيعاب مئات آلاف الغرباء. لهذا الغرض، انتهجت سلطات "إسرائيل" بعد النكبة عدّة أساليب في التخطيط والبناء، كان هدفها أن تستوفي عدّة شروط: إسكان أكبر عدد من المهاجرين، وإنجاز هذه المشاريع بسرعة فائقة، والتوفير في المساحات المخصصة، والتوفير في تكاليف البناء. لهذا الغرض، اتّبع الاحتلال "الإنتاج الشامل" في مشاريعه الإسكانيّة. كان العمران وليدَ المنطق الإسكاني الهجين، لا التطوّر الطبيعي، الأمرُ الذي جعل المنازل مُتراصّة تتساوى في مساحتها المتواضعة. وبينما حاول الاحتلال تسويق رؤيته في التخطيط والبناء باعتبارها جزءاً من السيرورة "الحداثية" التي يحاول إرساءها في البلاد، تحوّلت هذه المناطق إلى أحياء فقرٍ، لينتهي العمل بهذه الرؤية التخطيطيّة في ثمانينيّات القرن الماضي. إذ كانت آخر المشاريع التي تم إعمارها في الأرض المحتلّة بهذا الشكل، هي مشاريع إسكان مهاجري دول "الاتحاد السوفييتي" سابقاً.
أهلًا بكم في "فولسون"
أحد الأحياء العربيّة خارج أسوار المدينة اليوم هو حي "فولفسون". سُمّيَ بهذا الاسم تيمّناً بـ يتسحاك فولفسون (إسحاق وولفسون)، وهو رجل أعمالٍ صهيونيّ بريطانيّ موّل مشاريع بُنى تحتيّة منذ عام 1948. بتمويلٍ من فولفسون، بُني هذا الحيّ في بداية الستينيّات وافتُتح عام 1964. احتفت به السلطات الصهيونيّة باعتباره مشروعاً طلائعيّاً، وسكنه المستعمرون بينما أُحكم الإغلاق على الفلسطينيين في البلدة القديمة.
حتّى نهاية الحكم العسكريّ رسميّاً عام 1968 وفعليّاً في أوائل السبعينيّات، استطاع فلسطينيّو عكّا الخروج إلى "نور الشمس"، ممّا دفع أعداداً منهم للخروج بحثاً عن أماكن أفضل معيشيّاً في ظلّ الضيق والأزمة السكّانيّة، وأكثر تقدّماً من حيث الخدمات والبنية التحتيّة التي انعدمت في البلدة القديمة. تزامن ذلك مع رغبة الإسرائيليين الذين أصبحوا أكثر رفاهيّةً، في الخروج من الأحياء التي وصلوا إليها بعد الهجرة بحثاً عن تحسين "جودة الحياة".
هكذا، في سنوات الثمانينيّات والتسعينيّات، خرج من مدينة عكّا ما يُقارب 15 ألف إسرائيليّ، وانتقلوا للسكن في مستوطنات "طاهرة" من العرب وأكثر رفاهيّةً. ومع الازدياد الطبيعيّ للفلسطينيين، إضافةً إلى هجرةٍ فلسطينيّة من القرى المحيطة بعكّا إليها لأسباب متعددة، وفي ظل سياسةٍ ترفض بناء أحياء عربيّة جديدة، بات العرب في سنوات التسعينيّات، يشكّلون الأغلبيّة الساحقة من سكّان حي "فولفسون" الذي بات يُطلق عليه اسم "فولسون"؛ الصيغة الفلسطينيّة الدارجة للاسم الأجنبيّ الذي لم يتمكّن أهل المدينة من لفظه بدقّة. تحوّل الحيّ الإسرائيليّ إلى حيّ للفلسطينيين، وجرّ ذلك إهمالاً حكوميّاً وانعداماً للخدمات، وهو ما حوّل الحيّ إلى بؤرةٍ أخرى من البؤس ونسب البطالة والجريمة المرتفعة.
"الاحتلال العربيّ الزاحف"
ظلّت فكرة "فولسون العربيّ" تُزعج الإسرائيليين. ونبع هذا الانزعاج من الإيمان الراسخ لدى الصهيونيّة برفض الوجود العربيّ، وبالتالي رفض أن "يُسيطر" العرب على مناطق في عكّا أيضاً. أثار هذا التغيير الديمغرافيّ في المدينة، ردّ فعلِ مؤسّسات صهيونيّة استيطانيّة، وعلى رأسها تيّارات من مستوطني الضفّة الغربيّة.
بدأت ردّة الفعل الصهيونيّة هذه عام 1997، بعد وصول مستوطنين من منطقة الخليل للسكن في عكّا خوفاً من زيادة نسبة الفلسطينيين فيها. كان ذلك بدعمٍ من إسرائيليي المدينة، إذ قال حاخام عكّا (وهو المرجعيّة الدينيّة الأعلى في المدينة)، يوسف سر، في مقابلة صحافيّة عام 2003: "نحن نخسر الجليل الغربيّ بأكملة (...) الاحتلال العربيّ الزاحف هو المشكلة الرئيسيّة".
استطاع هذا النفس العنصريّ تجنيد الجهات الحكوميّة، ونجح في جلب أعداد كبيرة من مستوطني الضفّة الغربيّة المنتمين إلى تيّار الصهيونيّة المتديّنة. بُني مركز دينيّ ضخم في الحيّ عام 2003، وهو ما زاد من تواجد المستوطنين في المنطقة، خاصةً شبابهم ممّن يخدمون في الأجهزة الأمنيّة، ويجوبون الشوارع مدجّجين بالسلاح، بصورة استفزازيّة أدّت إلى مناوشات عديدة بينهم وبين أبناء الحيّ الفلسطينيين. تمثّلت ذروة التوتّر في المدينة إثر هذا التواجد في انفجار عام 2008، حينما دخل أحد فلسطينيي المدينة بسيارته لزيارة عائليّة في حيّ ذي أغلبيّة إسرائيليّة، عشيّة "يوم الغفران" الذي تمنع الديانة اليهوديّة فيه قيادة وسائل النقل. حدثٌ أدّى إلى إمطار سيارته بالحجار], وملاحقة مئات الشبان الإسرائيليين له لقتله، وهو ما قاد إلى مواجهةٍ استمرّت لأيّام بين فلسطينيي المدينة ومستوطنيها.
"سكّان ذوو جودة عالية"
وسّعت سيطرةُ المستوطنين بهدف "إعادة تهويد المدينة"، لتضمّ مشاريع نفذتها بلديّة الاحتلال في عكّا لبناء حيّ كبير للعسكريين الدائمين العاملين في الجيش. يقعُ هذا الحيّ على بعد عشرات الأمتار من حي "فولسون"، وخُصّص بأكمله للعسكريين، وهو عبارة عن فيلّات كبيرة مصفوفة بُنيت بتمويل من طرف البلديّة لصالح جيش الاحتلال، وتمتّعت بإعفاء ضريبيّ كامل، وتسهيلات لا حصر لها للجنود لشراء البيوت، بشرط ألا تُباع البيوت لمدّة خمس سنوات على الأقل.
اعتبر رئيس البلديّة شمعون لانكري، الذي لا يزال في منصبه حتى يومنا هذا، أن استقدام الجنود للسكن في المدينة "يقوّي المدينة بسكّان ذوي جودة عالية"، كما وصف هؤلاء السكّان بكونهم "طلائعيين" (وهو الوصف الذي أطلق على مؤسسي المستوطنات الأولى قبل النكبة)، واعتبرهم "مفخرة للمدينة". هذا الحيّ العسكريّ الذي أُسّس لحصار "خطر" التمدّد العربيّ، أُغلق هو الآخر بحاجز وبوّابة، وإن كانت أجمل من تلك البوابات في مستوطنات القدس والضفّة، إلّا أنّها لا تعبّر إلّا عن ذات "الخوف من الفلسطينيّ".