5 سبتمبر 2022

عمّال الداخل: من معّاطة "المعبر" إلى معّاطة البنك

عمّال الداخل: من معّاطة "المعبر" إلى معّاطة البنك

ما إن يتوقّف إضراب أو اعتصام حتّى ينطلق آخر؛ هذا هو حال الضفّة الغربيّة منذ أشهر. المحامون والمعلمون والأطبّاء وسائقو المواصلات وسائقو الإسعاف وغيرهم، نفّذوا سلسلة من الاحتجاجات للمُطالبة بمجموعة من الحقوق. في 21 آب/ أغسطس الماضي، ولأوّل مرّة، انضمّ إلى هذه القائمة عمّال الضفّة الغربيّة الذين يعملون في الأراضي المحتلة عام 1948، إذ تجمّع الآلاف منهم أمام الحواجز العسكريّة التي يمرّوا من خلالها إلى أشغالهم، وأعلنوا احتجاجهم وإضرابهم رفضاً لقرار تحويل رواتبهم التي يتقاضونها من مُشَغّلهم الإسرائيلي عبر البنوك الفلسطينية. 

يحاول هذا المقال الإجابة على الأسئلة التي يُثيرها القرار: ما هي التبِعات؟ ولماذا يُواجه بالرفض التام من قِبل العمّال؟ ما الغاية الإسرائيليّة منه؟ ولماذا تتشجّع السلطة الفلسطينيّة له؟ وما الفائدة التي ستُحقّقها البنوك الفلسطينيّة من ورائه؟

ضرائب فوق الضرائب؟

بالرغم من صدور القرار الإسرائيلي القاضي بتحويل رواتب عمّال الضفّة في أراضي 1948 عبر البنوك الفلسطينيّة عام 2016، إلا أنّ إعلان وزير العمل الفلسطيني نصري أبو جيش منتصف الشهر الماضي ببدء تنفيذه هو ما جعل القضيّة تطفو على السطح. 

حتى اليوم يتقاضى العمّال الذين يُقدّر عددهم بين 145 ألف و220 ألف عاملٍ (يشمل عمّال المستوطنات في الضفة الغربيّة)، أجورهم من مُشغّلهم الإسرائيلي نقداً وبشكلٍ مُباشر. ويُشكّل العمال في أراضي الـ1948 أكثر من 15% من القوى العاملة في الضفّة الغربيّة، وتُقدّر نسبة الحاصلين منهم على تصاريح عمل بـحوالي 61%، بينما تعمل الفئة المتبقية بدون تصاريح عمل رسمية1يعمل الفلسطينيون في أراضي عام 1948 من خلال مجموعة متنوعة من التصاريح، مثل: تصاريح المستشفيات، وتصاريح الزراعة، وتصاريح الحالات الخاصة، والتصاريح الموسمية، وتصاريح البحث عن عمل، وغيرها من أنواع التصاريح. من الجهات الإسرائيلية. كذلك، فإنّ تحويلاتهم المالية تُقدّر بـ 5.3 مليار دولار سنوياً، وتُشكّل قرابة 27% من الدخل القومي الإجمالي في فلسطين

اقرؤوا المزيد: "الناس بتشتغل عشان تتزوّج، احنا منتزوّج عشان نشتغل". 

يتخوّف العمّال من هذا القرار بسبب ما قد يترتّب عليه من اقتطاعاتٍ ضريبيّة إضافيّة على رواتبهم من قبل الحكومة الفلسطينيّة، خصوصاً في ظل الحديث عن قانون جديد لضريبة القيمة المضافة من شأنه أن يرفع الإيرادات الضريبيّة للسلطة الفلسطينيّة بنسبة 45%، وهو نظام ضريبي تصاعدي، فكلّما ارتفعت قيمة الراتب ارتفعت نسبة الضريبة المُستحقة عليه.

يدفع العامل الفلسطينيّ ضرائب بالفعل، فبحسب اتفاقية باريس الاقتصادية عام 1994، تقتطع سلطاتُ الاحتلال من راتبه ضريبةَ القيمة المضافة بنسبة 17%، بالإضافة إلى ضريبة الدخل والتي تُقتطع بنسب تصاعدية حسب قيمة الراتب الشهري. من المفترض بعدها أنّ يحوّل الاحتلال عبر فاتورة المقاصّة حصّة السلطة من هذه الضرائب، وهي بنسبة 75% من العمّال في أراضي 1948، وبنسبة 100% من عمال المستعمرات. بالتالي، فإنّ هذه الضرائب ستُحصّل سواء كانت عمليّات الدفع بشكلٍ نقديّ للعمال أو عبر وساطة البنوك. 

ولكن، هل هذا ينطبق على جميع العاملين؟ هنا يكمن مصدر الخلاف. تشير التقديرات إلى أن قرابة 50% من العمال الحاصلين على تصاريح العمل من قبل الشركات الاسرائيلية يعملون بشكلٍ منفرد أو لدى المقاولين، ممّا يعني تجنّب بعضهم ضرائب الدخل. بالتالي من شأن عمليّة تحويل رواتبهم إلى البنوك أن تُخفّض إلى حدٍّ ما من قدرتهم على العمل بشكلٍ مُنفردٍ أو من خلال المقاولين، لأنّ ذلك يعني أن ترتبط الشركة التي تُصدر تصاريح العمل بالعامل مباشرة، بالتالي تُصبح الشركة الإسرائيلية مطالبةً بدفع راتب العامل من خلال حساباتها مباشرة. 

من اعتصام آلاف العمال على اأحد الحواجز العسكرية الإسرائيلية، فجر الأحد 21 أغسطس 2022، رفضاً لقرار تحويل أجورهم شهرياً من المشغل الإسرائيلي إلى البنوك الفلسطينية.

بمن يثق العامل؟

ربّما يكون انعدام الثقة بالسلطة الفلسطينيّة من أبرز أسباب تخوّف العمّال المشروعة، إذ يُشيرون إلى وجود آلاف العمّال في الضفة الغربية الذين يعملون دون عقود عملٍ، أو تأمينات صحية، أو معاشات تقاعدية، أو حتى رواتب عبر البنوك، إذن لماذا هذا الاهتمام المفاجئ بالعمال في الداخل؟ 

كذلك، فإنّهم يتخوّفون من أن تَحدّ الآثار المترتبة على هذا التحويل من قدرتهم على العمل بحريّة، ففي حين يحصل العمّال على تصاريح العمل من خلال الشركات الإسرائيلية، إلا أنّ النسبة الأكبر منهم لا يعملون لدى هذه الشركات بالفعل، بل يعملون منفردين أو لدى مقاولين يكونون غير قادرين على استصدار تصاريح عمل، مما يُحقّق للعمّال دخل أكبر من العمل مباشرةً لدى الشركات (أي أن التصريح يصدر من خلال شركة إسرائيليّة، لكن العامل يعمل مباشرةً مع مقاول مختلف أو بشكل منفرد).

اقرؤوا المزيد: هل للعمّال من يمثّلهم؟ موجزُ العمل النقابيّ في فلسطين. 

مع ذلك، فإنّ في القرار مزيّة قد تصبّ في صالح العمّال الذين لا يأخذون كافّة حقوقهم من أرباب عملهم، على الرغم من الاقتطاعات الضريبية والتأمينية على رواتبهم. مثالُ ذلك؛ يحصل العامل في كثير من الأحيان، وبحسب أوراق الشركات الرسميّة على أجرةٍ يوميّة تتراوح ما بين 75 – 105 دولارات يومياً، بينما يتقاضى في الواقع ما بين 135 - 225 دولاراً، ليس هذا فحسب، بل تقوم الشركات بتخفيض عدد أيام العمل الفعلية للعامل. تفعل الشركات ذلك رغبة في التلاعب بقيمة قسيمة الراتب للعامل الفلسطيني التي يتم على أساسها احتساب تعويضات العمّال التي تدفع إلى صناديق التقاعد، فتأخذ من حقّه لتزيد من أرباحها، وتُقلل من حجم التعويضات التي يمكن أن يستحقها بعد تقاعده.

وللمفارقة، فإنّ بعض الشركات الإسرائيلية ترفض قرار تحويل الرواتب عبر البنوك الفلسطينيّة وتدفع بالعمّال نحو رفضه، لأنّ من شأنه أن يحدّ قدرتها على نهب العامل، سواء من خلال المبالغ الضريبية والتلاعب بقسيمة الراتب، أو من خلال ما يُعرف بتجارة التصاريح التي تُقدّر بأكثر من 500 مليون دولار سنويّاً.2يُقدّر عدد العمال الحاصلين على تصاريح عمل بـ 134 ألف عامل، وتُقدّر نسبة الحاصلين على التصاريح عبر السماسرة بـ 50% منهم، ويدفع العامل بالمتوسط 625 دولار مقابل التصريح في الشهر الواحد. تصدر هذه التصاريح عبر الشركات الإسرائيلية على اختلاف أنواعها، فتحصل كل شركة، حسب تصنيف خاص يعتمد على حجمها وسنوات عملها، على عدد معين من تصاريح العمل تفوق في كثير من الأحيان حاجتها الحقيقيّة من العمّال. تُصرّف هذه الشركات الفائض من التصاريح لديها، فتقوم ببيعه للمقاولين والسماسرة، الذين بدورهم يبيعون التصريح الواحد بقرابة 600 - 650 دولاراً شهرياً، تُدفع من جيب العامل الفلسطيني. 

بالطبع، لن يقضي قرار تحويل رواتب العمّال عبر البنوك على ظاهرة السماسرة، إنّما قد يُساعد في التخفيف منها. إذ سيُطلب من كل شركة تحويل رواتب كافة العمال الذين أصدرت لهم تصاريح عمل، ممّا سيجعل من الصعب على هذه الشركات بيع التصاريح الإضافية والتلاعب في الأوراق الرسميّة.

اقرؤوا المزيد: التصاريح أداة لمساومة الفلسطيني.

وفي سياق الحديث عن التقاعد، يخضع راتب العمّال في الداخل للعديد من الاقتطاعات غير الضريبية، أهمها اقتطاعات التقاعد ومكافأة نهاية الخدمة. وما تزال هذه الاقتطاعات التي تُقدّر بنحو 18 مليار دولار مُتراكمة منذ مطلع سبعينيات القرن الماضي، إذ ترفض "إسرائيل" تحويل هذه الأموال إلى السلطة بحجّة عدم وجود مؤسسة فلسطينيّة للضمان الاجتماعي على غرار "مؤسسة التأمين الوطنيّ" الإسرائيلية. 

زبائن "معهم مصاري أكثر"

حين أعلن وزير العمل عن بدء عملية تحويل رواتب العمال عبر البنوك الفلسطينيّة، أعلنت سلطة النقد أنّ البنوك ستتقاضى دولاراً واحداً عن كل راتب محوّل إليها. ثمّ ما لبثت أن تراجعت عن هذا القرار بالإعلان بأنّ عمليّات التحويل ستكون مُعفاةً من الرسوم، محاولةً بذلك تطمين قلوب العمّال. غير أنّ البنوك الفلسطينية لديها جدولٌ طويل من الرسوم والعمولات التي تتقاضاها عن جميع الحسابات الجارية لديها، فتحصل شهرياً على رسوم مرتبطة بـ: إدارة الحساب الجاري، عمليات السحب المباشر، إصدار وتجديد بطاقات الصراف الآلي؛ طبعاً هذا في ظلّ استخدام أدنى للحساب.

عمّال فلسطينيون لدى مرورهم عبر أحد الحواجز العسكرية الإسرائيلية غرب رام الله، في طريقهم لأعمالهم في الأراضي المحتلة عام 1948. عدسة: إياد جاد الله.

سيدفع العامل الواحد مبلغاً لا يتجاوز 5 دولارات شهرياً، ولكن في حال انتظام كافة العمال في هذا النظام، من المتوقع أن تتجاوز هذه الإيرادات حاجز الـ 8 مليون دولار سنوياً. غير أنّ الفائدة الأكبر التي ستجنيها البنوك من ذلك، هو في ضخ كمية كبيرة من النقد في حساباتها، تُقدّر بـ 4 مليار دولار سنوياً،3الرقم تقديري، إذ يحصل العمال بجميع فئاتهم على ما يُقارب 5.3 مليار دولار، ولكن قرار تحويل رواتب العمال يشمل فقط حملة تصاريح العمل، والذين يقدرون بـ 112 ألف عامل. بالتالي سيولة أكبر تمنحها مرونةً في منح الإقراض والتسهيلات الائتمانية للجهات الحكوميّة قبل الأفراد. 

اقرؤوا المزيد: كيف اختفى عمّال الضفّة؟ 

في السياق ذاته، لم تستطع البنوك حتّى يومنا هذا وضع شريحة عُمّال أراضي 1948 في خانة الزبائن المُستهدفين بالقروض والتسهيلات الائتمانية، وذلك بسبب عدم انتظام راتب دائم لهم في البنوك الفلسطينية، وعدم امتلاكهم تاريخاً ائتمانيّاً. من جانبٍ آخر، يتقاضى العامل الفلسطيني في الداخل راتباً أعلى بثلاث مرّات من نظيره بالضفة الغربية مثلاً، ممّا يجعله فرصةً ذهبيّةً للبنوك التي تطمح لمزيدٍ من التوسع في منح الائتمان والإقراض، تحديداً في ظل تراجع الطلب على القروض من قبل طبقة الموظفين التقليدية.

القبض على قوّة العامل

تهدف "إسرائيل" من وراء هذا القرار إلى ضبط استخدام النقد (الكاش)، إذ تمنع قوانينها أن تدفع الشركة أو الفرد للعامل مبلغاً تفوق قيمته 1800 دولار، وتمنع أيضاً حمل هذا المبلغ، وتُهدّد بمصادرته. كذلك، فإنّها تسعى إلى مُعالجة ما أشارت إليه تقارير الجهات الرقابيّة لديها من أنّ الفواتير الوهميّة تحتلّ المرتبة الثانية في أهم التهديدات المُرتبطة بغسيل الأموال داخل كيان الاحتلال. ونظام الفواتير الوهمية يعمل كذلك في ملف العمال، فتُضخّم رواتبهم الضعف والثلاثة أضعاف على الأقل، مما يؤول في نهاية المطاف إلى خسارة الشركة وإعلان إفلاسها على الورق، فتبدأ بعد ذلك الشركات في الحصول على تعويضات تأمينية ضدّ الإفلاس، أو ما يُعرف بنظام بيع الشركة المفلسة إلى شركة التأمين. 

اقرؤوا المزيد: عندما يُعامل عمّال الضفّة كـ "الجراثيم"!

أما بالنسبة للسلطة الفلسطينيّة، فتستفيد من هذا القرار في زيادة الرقابة على جزءٍ مهم من تدفق الأموال إلى أراضي الضفّة الغربيّة، إذ لا يوجد أدنى رقابة حالياً على الأموال التي يحصل عليها العاملون في أراضي عام 1948 وفي المستوطنات.

ختاماً، لا يُخيّر العامل في قرار تحويل راتبه إلى البنك الفلسطيني، فلن يُوافق على طلب التصريح إن لم يُوافق على شرط تحويل الراتب. هكذا، يجد العامل نفسه مدفوعاً دفعاً إلى قرارٍ لا يريده، أقرّته "إسرائيل" ورحّبت به السلطة بكلّ سرور، ولم تكن احتجاجات العمّال واعتراضاتهم إلا تعبيراً عن رفضهم أن يُقاسم أحد قوّتهم وعرقهم وقوت يومهم.