11 أكتوبر 2023

عضّة أكتوبر: كيف تعود طوفان الأقصى بالزمن؟ 

عضّة أكتوبر: كيف تعود طوفان الأقصى بالزمن؟ 

"من حربٍ إلى حرب، ومن بلدٍ إلى بلد، فشل القادة العسكريون العرب بانتظام في إظهار المبادرة، أو المرونة، أو الإبداع… لا يملك العرب خياراً عسكرياً واقعياً ضدّ إسرائيل... إنّ ذلك أمرٌ جيدٌ بالنسبة للولايات المتحدة، لأنه يعني أنّ وجود إسرائيل - حليفتنا الرئيسية في الشرق الأوسط - قد أصبح مضموناً". 

استنتج هذه الخلاصة المحللُ العسكري الأميركي كينيث بولاك، في كتابه "جيوش من الرمال" (2019)، وهي خلاصة تبدّدت على وقع معركة "طوفان الأقصى" التي اجتاح فيها مقاتلو المقاومة الفلسطينيّة الخطَّ الدفاعيّ الإسرائيلي مع قطاع غزّة، حتّى اقتحموا مقر قيادة "فرقة غزة" في جيش الاحتلال، فضلاً عن 11 موقعاً عسكرياً، و20 مستوطنةً على مسافاتٍ وصلت نحو 45 كيلو متراً من حدود القطاع.

1973: تجاهل المعلومة

قبيل أيام من بدء معركة "طوفان الأقصى"، أحيى جيشُ الاحتلال وأجهزته الأمنية الذكرى الخمسين لحرب أكتوبر 1973. وبهذه المناسبة نشر الموساد للمرة الأولى وثائق سرية ضمن كتاب، أكد فيه علاقة أشرف مروان، سكرتير الرئيس محمد السادات وزوج ابنة الرئيس جمال عبد الناصر، بالموساد، إذ زوّدهم قبلها بمعلوماتٍ عن موعد شن الحرب.

جدّدت الوثائق التي نشرها الموساد الجدلَ حول الإخفاق الاستخباري في الاستعداد للحرب وعرقلة العبور المصري، رغم المعلومات التي قدّمها مروان، إذ تجاهلت الاستخبارات العسكرية "أمان" تلك التحذيرات، واعتبرت في حينه أنّ العرب لا يزالون يعيشون أجواء هزيمة حرب عام 1967، وبالتالي لن يجرؤوا على شن أي هجوم، وحتّى لو تجرّأوا فإنهم بحاجة لأسلحة متطوّرة قبل التفكير بشن أي عمليات عسكرية، تحديداً في الدفاع الجوي.

ميدانياً، اطمأن الاحتلال الإسرائيلي للتحصينات التي دشّنها على الجبهة المصرية، حيث بنى خطاً دفاعياً حصيناً، وهو "خط بارليف". تضمّن الخط بناء سدٍّ ترابيٍّ مائل، بطول الضفة الشرقية لقناة السويس، وصل ارتفاعه في بعض الأماكن إلى 20 متراً، فضلاً عن 35 حصناً يشغله لواءُ مشاة بقوة تزيد عن 200 جندي، ومرابض للدبابات تشغلها 3 ألوية مدرّعةٍ بإجمالي 360 دبابة في أوقات التوتر، أما في أوقات الهدوء فتستقرّ في تمركزاتٍ خلفيةٍ تتيح لها شنَّ هجوم مضادٍّ خلال 15-30 دقيقةّ من بدء أي هجوم مصري، وذلك بحسب ما أورده رئيس أركان الجيش المصري الفريق سعد الشاذلي في مذكراته، وهذا إلى جوار أنابيب لهبٍ لإشعال مياه القناة، إضافةً لسلاح جوٍّ متفوق.


جنود الاحتلال يحتمون في الخنادق أثناء القتال مع المصريين في 14 أكتوبر 1973 في صحراء سيناء.

في المقابل، قدّرت هيئة العمليات المصرية أنّ الاستعدادات لشنّ هجوم، يتضمّن عبور 32 ألف جندي على مدى 3 ساعات من بدء القتال، وهو ما سيؤدي إلى اكتشاف الجيش الإسرائيلي الهجوم قبل التحرّك بثلاثة أيام على الأقل. لذا تطلب ذلك، وضع خطّة خداعٍ استراتيجية مطولة، أعلن ضمنها السادات أن عام 1971 سيكون عام الحسم مع "إسرائيل"، وهو ما كرّره في العام التالي دون تنفيذه. أما الجيش المصري، فشرع في إجراء تدريباتٍ ومناوراتٍ كغطاءٍ لحشد قواته، حتّى اطمأنت الاستخبارات العسكريّة الإسرائيلية إلى أنّ الحشودَ المصرية لا تهدف إلى شنّ حرب، فقُدّمت تحليلاتٌ بناءً على هذه المعطيات تخالف ما ذهب إليه الموساد. 

أدّى ذلك إلى رفض القيادة السياسية الإسرائيلية شن هجومٍ استباقي مبكر ضدّ المصريين، أو حشد الجنود الاحتياط في الوقت اللازم. لذلك تأخر شن الهجوم الإسرائيلي المضادّ إلى صباح 8 تشرين الأول/ أكتوبر، أي بعد 42 ساعة من بدء الحرب، وليس خلال أقلّ من 30 دقيقة كما توقع المصريون.

اعتمد المصريون على المباغتة والابتكار، فصنعوا 70 ثغرةً في السد الترابي بخراطيم المياه، وسدّوا أنابيب اللهب بالأسمنت، وعطّلوا الدبابات الإسرائيلية بصواريخ حملها أفراد المشاة على الكتف، فيما نجحت منظومات الدفاع الجوي الروسية الصنع في شل فاعلية سلاح الجو الإسرائيلي فوق منطقة القناة، مما أمّن القوات العابرة.

القوات الإسرائيلية تحتمي من قصف الطائرات الحربية السورية في مرتفعات الجولان في 8 تشرين الأول 1973. (تصوير زئيف سبيكتور/ غيتي إيماجز)

أخذت الحرب مساراً مُختلفاً في يومها التاسع، منذ فشل تطوير الهجوم المصري، واستعادة "إسرائيل" زمام المبادرة، مع إمداد واشنطن لها بمعلومات استخبارية وعتاد عسكري ضخم لتعويض خسائرها، وعبور جيش الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية لقناة السويس، وحصار الجيش المصري الثالث ومدينة السويس. 

بالرغم من ذلك كلّه، إلا أنّ الرسالة الأساسية للحرب لم تتغير، وهي تحطيم أسطورة "الجيش الذي لا يُقهر"، وقدرة العرب على القتال رغم الهزيمة الكبيرة التي تلقوها قبل 6 سنوات.

2023: تجاهل "الركن الشديد"

بحلول الذكرى الخمسين لهذه الحرب، وتحديداً صبيحة السابع من تشرين الأوّل/ أكتوبر 2023، شنّ مئات المقاومين من حركة "حماس" هجوماً متناسقاً براً وبحراً وجواً، تمكنوا خلاله من تجاوز الجدار العازل، الذي تباهى جيش الاحتلال ببنائه وتزويده بأحدث أدوات المراقبة الإلكترونية، بارتفاع 9 أمتار، وعمق يصل في بعض المناطق إلى 25 متراً تحت الأرض. وقع الهجوم تحت غطاء قصفٍ صاروخيٍّ بنحو 5 ألاف صاروخ أطلقت في دقائق معدودة، مما أربك منظومة القبة الحديدية الإسرائيليّة. 

سبق الهجومَ تنظيمُ "حماس" لعملية خداعٍ محكمة، إذ تجنبت الاشتباك بشكلٍ مباشرٍ في جولة القتال التي جرت بين الاحتلال وحركة "الجهاد الإسلامي" عقب استشهاد الأسير خضر عدنان في أيّار/ مايو من العام الحالي، واعتبرت تل أبيب وقتها أنّ "حماس" تميل إلى ضبط النفس، والحفاظ على بنيتها العسكرية، والانشغال بما يُسمّى "التسهيلات"، كتزويد العمّال في غزّة بتصاريح تجاريّة للعمل في الأراضي المحتلة عام 1948.

جندي إسرائيلي يركض للاحتماء خلال اشتباك مسلح مع مقاتلي كتائب القسام في مستوطنة "سديروت" في 7 أكتوبر 2023. (المصور: كوبي وولف/ غيتي إيماجز)

وفي 5 أيلول/ سبتمبر الماضي، أغلق الاحتلال معبر "إيريز" على خلفية ضبط متفجرات وعبوات ناسفة أُخفيت في ملابس منقولة على متن ثلاث شاحنات من غزّة إلى الضفة، وهو ما تزامن مع أحاديث عن تخفيض المنحة القطرية المخصصة لدفع رواتب الموظفين في غزة. 

بالتالي، حين نظمت "الغرفة المشتركة" لفصائل المقاومة في غزّة مناورة عسكرية تحت اسم "الركن الشديد 4" في 12 أيلول/ سبتمبر الماضي، والتي اشتملت على محاكاة لاقتحام مستوطنات وخطف جنود إسرائيليين واستخدام المسيّرات الانتحارية وغيرها، فسّرت الاستخبارات الإسرائيلية ما حدث على أنه مجرّد محاولة من "حماس" لإثارة قلق الجيش الإسرائيلي بهدف زيادة المنحة القطرية، وليس كمقدمة لهجوم، واعتبرت الاستخبارات أنّ الفصائل تتدرب على شيء لن تتجرأ على القيام به يوماً.

في الوقت ذاته، فعّلت "حماس" الاحتجاجات عند نقاط متعددة من السياج الأمنيّ الفاصل مع غزّة، وتضمن ذلك تظاهر مئات الأشخاص واستخدام العبوات الناسفة وإطلاق النار من مسدسات على جنود الاحتلال وإطلاق بالونات حارقة باتجاه مستوطنات الغلاف مما أدى لاشتعال عدة حرائق. الأمر الذي رد عليه جيش الاحتلال الإسرائيلي بشنّ غارات محدودة على مواقع للحركة، وقنص بعض مطلقي النار، واستمرت الاحتجاجات يوميّاً لمدة أسبوعين تقريباً، ثم توقّفت بعد وساطة مصرية، تعهدت فيها "إسرائيل" بفتح معبر "إيريز" مجدداً والسماح بدخول العمال من غزّة مقابل وقف الأنشطة الاحتجاجية، وهو ما حدث بالفعل في 29 من الشهر الماضي.

هذه الأحداث دفعت جيش الاحتلال للطمأنينة من جهة قطاع غزة، فانشغل بمواجهة حالة المقاومة المتصاعدة في الضفة الغربية، حتى أنه نقل 3 كتائب من "فرقة غزة" إلى الضفة لتعزيز قواته بها، فيما ظل يتدرب على حدوث محاولات تسلل من الحدود الشمالية لعناصر حزب الله.

أنقاض قلعة الصليبيين

إن هجوم "طوفان الأقصى" يعد الأخطر من نوعه منذ احتلال فلسطين عام 1948، إذ لم تتوافر لدى جيش الاحتلال واستخباراته أي معلومات مسبقة عنه رغم رصده المُكثّف للأوضاع في غزة. كما أنها المرة الأولى التي تُجتاح فيها قواعد عسكرية إسرائيلية ومستوطنات داخل أراضي 1948، والمرّة الأولى التي تُأسر فيها تلك الأعداد الغفيرة من الجنود والمستوطنين. وذلك على خلاف حرب أكتوبر 1973، التي جرت في صحراء سيناء ومرتفعات الجولان، وتوافرت حولها معلومات استخبارية مسبقة أسيء تحليلها. 

إضافة إلى ذلك، مُني الاحتلال بخسائر غير مسبوقة تجاوزت حتى الآن 1000 قتيل. لإدراك دلالات هذا الرقم، تكفي معرفة أن "إسرائيل" فقدت 776 قتيلاً في حرب 1967، وفقدت 300 قتيلٍ خلال قتالها حزب الله بين عامي 1985 و2000، فيما فقدت 119 قتيلاً في حرب لبنان 2006، وهو ما يجعل محصلة عملية طوفان الأقصى هي الأضخم من نوعها في تاريخ الاحتلال، باستثناء حرب أكتوبر 1973 التي قُتل فيها 2200 إسرائيليّ.

جنود الاحتلال ينقلون مستوطناً أصيب خلال قصف كتائب القسام مدينة عسقلان المحتلة في 7 أكتوبر 2023. (المصور: كوبي وولف/ غيتي إيماجز)

لم ينفّذ الهجوم الأخير جيشٌ في دولة، إنما نفذه مقاتلون بأسلحة خفيفة، ويعانون من الحصار المشدد منذ عام 2007. رغم الإمكانات البسيطة، فإنّهم انتصروا على على قوّة تملك أكثر عدّة وعتاداً، تمتلك أحدث الدبابات في العالم مثل "ميركافا 5"، وسلاحاً جويّاً متطوّراً، وإسناداً مدفعياً، وعتاداً أميركياً لا يتوافر في أغلب دول العالم.

إنّ المعركة الحالية، مهما كانت نتائجها الأخيرة في ظل التحشيد الإسرائيلي والدعم الأميركي والغربي السياسي والعسكري للاحتلال، قد أرست معادلة جديدة؛ أن الشعب الفلسطيني رقم فاعل في المعادلة، وأن باستطاعته إلحاق هزائم وخسائر فادحة في الاحتلال، وأن "إسرائيل" التي يراد لها حفظ الأمن إقليمياً غير قادرة على حماية نفسها.

ستظل مشاهد سقوط القواعد العسكرية الإسرائيلية في يد المقاتلين الفلسطينيين، وأسر العشرات وربما المئات من جنود وعناصر الاحتلال، تطارد مخيلة المستوطنين الذين بدأت ثقتهم بجيشهم وأجهزة استخباراتهم تنهار. 

سيعود لذهن بنيامين نتنياهو، الخوف الذي شعر به وكتب عنه في مذكراته؛ حينما كان يخدم في الجيش، انخرط في دورة للغوص بقاعدة "عتليت"، حيث لاحظ أن المكان يتواجد بالقرب من أنقاض القلعة الأخيرة التي أخلاها الصليبيون عندما غادروا فلسطين عام 1291 ميلادي، فخطر بباله احتمال تعرّض "إسرائيل" لمصير مشابه للصليبيين الذين استقروا في المنطقة لمدة قرنين.